بابلو نيرودا يثبت أن القلم الثائر هو الأول ضد الظلم

بابلو نيرودا يثبت أن القلم الثائر هو الأول ضد الظلم

زينب المشاط
يعد واحدا من الدرر الشعرية في القرن العشرين، ويعد أكثر أعمال نيرودا شمولاً بل هو أكبر عمل منهجي في تاريخ الشعر الناطق بالإسبانية على الإطلاق، فقد كتبت صفحاته على امتداد اكثر من عشر سنوات، أبيات هذا الكتاب تتجاوز الثلاثة عشر ألف بيت شعر.

وضح المترجم صالح العلماني في مقدمة الكتاب الدوافع التي شجعت نيرودا لوضع هذا النشيد بين عامي"1928 – 1950"، وذكر نيرودا أنه حين كان يعيش بعزلة بعيداً عن الناس وسعياً إلى إبراز وحدة شاملة وعظيمة للعالم الذي يريد التعبير عنه هنا كتب كتابة الأكثر جموحاً وإتساعاً"النشيد الوطني"حيث عدّ هذا الكتاب تتويجا لمحاولات الكاتب الطموحة، فهو فسيح باتساع قطعه مسافة زمنية كبيرة، وفيه كثير من الاضواء والظلال في الوقت نفسه.
لقد رمى الكاتب إلى الإحاطة بالفضاء الرحب التي تتحرك فيه العوالم وتنمو وتضمحل فهنالك يجب أن يكون الشاعر، ليكون مؤرخاً لعصره وللتأريخ الذي لا يجب أن يكون جوهره متصلا بالنقاء والتهذيب بل يجب ان يكون وعراً ومعفراً وماطراً، ويجب أن يتضمن البصمات البائسة للأيام التي تكر.
"النشيد الشامل"هذا الكتاب من تأليف بابلو نيرودا وترجمة صالح علماني صدر عن دار المدى للإعلام والثقافة والفنون بطبعته الثانية لعام 2014 والذي حصل على جائزة نوبل عام 1971.
حكاية هذا النشيد بدأت مع القوات الأمنية التابعة لغونزاليس بمطاردة نيرودا لغرض القبض عليه، كانت هذه المطاردة تبدو غريبة لدى المراقبين الأجانب الذين كانوا على معرفة بأن نيرودا سعى خلال السنوات الماضية وكان مُتحمساً لوصور غونزاليس إلى الحكم، حيث قدم الأخير نفسه على أساس إنه ذو وجه تقدمي ومناصر للشيوعية.
ولكنه ما إن وصل إلى السلطة حتى غير مبادئه باتباعه نظام سلطة دكتاتوري، وبدأ يطارد اليساريين وكل من يقف بوجه نظامه، وكان نيرودا في ذلك الحين عضواً في مجلس الشيوخ متمتعاً بحصانة رسمية.
من هنا نراه يكتب قصيدة هجائية يفضح فيها ممارسات فيديلا عنوانها"إني أتهم"، فما كان من فيديلا إلا ان أمر باعتقاله راصداً جائزة مالية ضخمة لمن يساعد في ذلك. وهكذا اختفى نيرودا هارباً من مكان الى مكان متنقلاً بين المدن والأرياف. ولقد كانت لذلك الوضع إيجابياته إذ ان نيرودا استعاد علاقته بمناطق تشيلي وسكانها المتنوعين وأريافها ومدنها ومكوناتها الطبيعية منطلقاً من تاريخها.
وهذا كله نراه معكوساً في القصائد العديدة التي راح يدونها خلال تلك المرحلة. وهي القصائد التي شكلت النشيد الشامل واعتبر انجيل تاريخ اميركا اللاتينية وطبيعتها.. والحقيقة ان نيرودا خلال كتابته هذه القصائد لم يعبر فقط عن ثورة سياسية وإيديولوجية وعن رؤية للشعب المناضل وتاريخه، بل عبر كذلك عن ثورة في عالم الشعر ووظيفته ايضاً. ومن هنا اعتبرت قصائد النشيد الشامل أول ثورة حقيقية في شعر اميركا اللاتينية وأكبرها، ووصفها النقاد والقراء بأنها ملحمة حقيقية.
لقد أعطى نيرودا لكل قسم عنواناً خاصاً به متنقلاً بين قصيدة وأخرى، وبين مقطع وآخر، بين البلدان والمناطق والتواريخ. بين ما يعرفه وما يعيشه. بين ذاته والأرض مخاطباً في معظم الأحيان ليس وطنه،شيلي وحده إنما اميركا الجنوبية كلها، انطلاقاً من ان هذا العالم الذي تأسس معاً، بالدم والتعب والقمع، لا يمكنه ان يحصل على حريته إلا معاً.. وعلى هذا النحو لا يعود غريباً ان أمماً كثيرة في أميركا اللاتينية تتبنى النشيد الشامل إنجيلاً لنضالها وتاريخها. وبالتالي لا يعود غريباً ان نلاحظ كيف ان الشعوب التي وصلها هذا النشيد، مترجماً، كلياً او جزئياً، الى لغاتها، تبنته تماماً، ليس كعمل إبداعي يحكي عن بلد بعيد ذي تاريخ معقد مركب ودموي، وإنما ايضاً كعمل إنساني شامل، وميكيس ثيودوراكس الموسيقي اليوناني المولود عام 1925، حين لحن النشيد الشامل، لم يلحنه بوصفه فقط تحية الى تلك الشيلي الشعبية التي كان صديقاً لقادتها ومثقفيها، بل كذلك بوصفها نشيداً لكل المقهورين في العالم.. ويعد فصل المحرورن في الكتاب اكثر ابرازاً للتاريخ متضمناً زعماء الهنود مثل كواوتيموك أو لاوتارو أو توباك آمارو الذين تصدوا للغزو الاسباني في القرن السادس عشر، وحتى المحاربين والقادة العماليين في القرن العشرين زاباتا ساندينو ريكابارين برستيس مروراً بمن أطلق عليهم لقب آباء الوطن أبطال حروب الاستقال مثل ميراندا وبوليفار وسان مارتين وأوهيجينس. يقوم نيرودا بتمجيد الدعوات والحركات التحررية في اميركا خلال أربعمئة سنة، كما يتعرض لقدرها المحكوم بالاستلاب.. وهو ايضاً فصل رائع في الاوزان والايقاعات، ففيه يمزج بين النظام الكلاسيكي العالي كما في قصيدة "خوسيه ميغيل كاريرا" وينتقل الى الايقاعات الشعبية الرتيبة كما في "مانويل رودريغث".