المسكوت عنه في عالم المرأة الخفي ...قراءة في رواية  هسيس اليمام   لسعد سعيد

المسكوت عنه في عالم المرأة الخفي ...قراءة في رواية هسيس اليمام لسعد سعيد

صادق الطائي
في روايته الاخيرة الصادرة عن منشورات ضفاف – 2015 يأخذنا الروائي سعد سعيد الى عوالم جوانية تحاول الغوص عميقا في دهاليز عقل وعاطفة المرأة العراقية ، محاولا الكشف عن معاناة نماذج متعددة من الشخصيات النسائية يتعرضن لمحن حياتية مختلفة ،ومن العتبة الاولى للنص - الاهداء - الذي قدم فيه الكاتب روايته للمرأة حصرا لانها النصف الاحلى من الانسان،

نستشعر جو الرواية المليء بالهموم النسوية ، مما يحيلينا الى ما نعرفه عن طبيعة هكذا اعمال ،لكن المفارقة ان هذه الاعمال عادة ما كانت تكتب من قبل كاتبات لانهن الاقدر على التعامل مع مشاكل المرأة وهن الاكثر دراية بخفايا شخصية المرأة وتقلباتها المزاجية في لحظات الازمة التي تمر بها،
لكن ومن جانب اخر ،لطالما مثل ذلك عائقا امام السرد النسوي ومنعه من تناول مواضيع حساسة قد تحسب على الكاتبة ،لان هذا الامر عادة مايشتبك لدى المتلقي العربي بإسقاط معطيات العمل الابداعي على شخصية الكاتبة مما يكتنف ويعيق المبدعة على الاقتراب من مواضيع تعتبر خطوطا حمرا مثل موضوع الحياة الجنسية لبطلات العمل والمشكلات التي قد تواجهها الشخصية في هذا المجال، وفي (هسيس اليمام) يبدو الاشتباك على اشده ، فالقناع الدرامي الذي استخدمه المؤلف هو الشخصيات النسوية التي تعاني مما يمكن ان نسميه أزمة منتصف العمر (الجنسية والعاطفية) مما يجعل السير في العمل اشبه بالسير في حقل ألغام ، فكان لزاما على الكاتب ان يستبطن كل شخصية من شخصيات العمل بروح نسائية شفافة ، وثانيا الاقتراب الايروتيكي في الرواية الذي حاول سعد سعيد ان يبقيه متماسكا ولايقع في مطب الاستخدام الاعلاني او- المقبلات الجنسية - كما هو الحال في بعض الاعمال التي تتناول هكذا مواضيع ، فبالرغم من ان ازمة شخصيات الرواية هي ازمة جسد في المقام الاول الا ان الافراط في التركيز على هذا الجانب مع تناسي الجوانب الحياتية الاخرى قد يحول العمل الى نوع من الكتابة السطحية ، وهذا ما سنناقشه في بناء الشخصيات ، لقد استثمر سعد سعيد ميزة امكانية الكتابة بحرية اكبر كونه كاتب رجل في الاقتراب من مواضيع ذات حساسية قد تتجنبها الكاتبة العراقية لما اشرنا اليه سابقا ، لكن التحدي الاهم كان في السؤال؛ هل نجح العمل في اقناعنا بدواخل الشخصيات النسائية التي طرحها الكاتب ؟.
لقد استخدم سعد سعيد بناء دراميا يكاد يتمحور حول ثيمة سيكودرامية ، تشتغل على الغوص في تحليل شخصيات العمل ، وهو اسلوب ناجع لمعالجة رواية تتناول هموم المرأة العاطفية والجسدية ، اما التكنيك المستخدم في السرد فقد قام على تقسيم العمل الى فصول تروى على شكل مذكرات تكتبها الشخصية المحورية (هديل) في العمل بضمير المتكلم ،وفصول خبرية جاءت على لسان الراوي العليم بضمير الغائب،وقد استخدم الكاتب تقنية الخط الغامق في الاول والخط العادي في الثاني ، وبهذا يمنح الجزء الاول للعمل دفئا وحميمية ويحصل العمل من خلاله على تعاطف المتلقي ، بينما تنصب مهمة تصاعد البناء الدرامي على الجزء الثاني المسرود من قبل الراوي العليم ، وقد حافظ السارد على ايقاع الرواية تكنيكيا عبر التركيز على طول الفصول وتعاقبها وفق حركة بندولية تتراوح بين فصل المذكرات يعقبه فصل التصاعد او البناء الدرامي ، وبذلك شكلت فصول المذكرات لحمة العمل بينما يتصاعد البناء بفضل سداة الفصول المروية من قبل الراوي العليم ، اي ان اللب او العمود الفقري للرواية هو مذكرات بطلة العمل بينما الفصول الاخرى هي المسوؤلة عن اكساء هذا العمود الفقري بلحم ودم السرد لتكون المحصلة النهائية عملا نابضا ومتماسكا لا جور فيه لجزء على اخر .
كما تجدر الاشارة الى ان السارد استخدم اللهجة العامية العراقية في بعض الحوارات ،وان مستوى الحوار بين الشخصيات لم يأت جزافا بل كان وفق ستراتيجة واضحة في عقل الكاتب ، مبنية على اساس مستوى المتحاورين ، مستواهم الثقافي ، المعرفي ، مدى العلاقة التي تربطهم ببعض ، ... الخ ، فمثلا كانت الحوارات بين الصديقات بالعامية بينما الحواربين الشخصية المحورية (هديل) والشخصية المتخيلة الذي تروي له سيرتها بالفصحى ، ليفاجأ المتلقي في النهاية ان محاوراتهما كانت امتدادا لمذكراتها .
وللدخول الى العوالم الخمسة للرواية لابد من التعريف بيمامات سعد سعيد لنتعرف على هسيس الجمر المشتعل في دواخلهن عبر كشف الراوي عما خفي من جبل جليد حياتهن ،(هديل ) الشخصية المحورية في العمل اخذت حقها في البناء والمعالجة وقام على اساس هذه الشخصية التكنيك الاساس للرواية ،انها وكما يبدو من بناء الشخصية ليست امرأة مصابة بالغلمة او العطش الجنسي المفرط ، انما كانت سيدة تطلب الحنان والعاطفة اكثر من اشباع الجسد ، تمر بالعديد من المحن مثل حرمانها من الشخص الذي احبته في الكلية الى قلة تجاربها الجسدية وصدمة حياتها مع زوج يعاملها باهمال واحتقار ،وتركها وحيدة والسفر خارج العراق لاسباب واهية، فتجد ظالتها في علاقات خارج مؤسسة الزواج وتبقى تتعذب بين حاجاتها الجسدية والتزاماتها الاخلاقية والاجتماعية حتى تصل الى نهاية مسدودة هي لاجدوى الحياة .
اما (هيفاء ) فهي شخصية مأزومة بحق وربما مثلت ايقونة العمل او الرمز المعبر لثيمة العمل (ازمة منتصف العمر لدى المرأة وعدم اشباع حاجتها الجسدية) ،فتبدأ رحلة تخبطها في علاقات عابرة مع شاب صغير او مع صديقة قديمة من ايام الجامعة ذات ميول مثلية ،ويبقى شعورها بتأنيب الضمير مصاحبا لها منغصا عليها حياتها .اما الشخصية الثالثة (سهاد ) فهي بحق شخصية هائلة وجديدة وشجاعة ، اذ ان الاقتراب من موضوع المثلية الجنسية لم يأخذ حقه في السرد العراقي اوالعربي ، وكان من المسكوت عنه ، وقد اشتغل عليها سعد سعيد سايكودراميا مضفيا عليها عمقا يبتعد عن التناول المسف لموضوع المثلية الذي تناولته بعض الاعمال السردية والدرامية ، ، كما ان علاقتها بـ (هيفاء) قدمت بتصاعد درامي اغنى فكرة العلاقة – العاطفية والجسدية – عبراستطالات سردية قدمها السارد على نار هادئة فجاء تحليلا دسما مفعما بالسيكودراما ،راسما على امتداد عدة لقاءات تمهيدية تتوج بعلاقة جسدية يختلط فيها الشعور بالذنب بطعم المتعة فوصلت الفكرة بكامل ألقها للمتلقي .
الشخصية الرابعة هي (عذراء ) وربما مثل بناء هذه الشخصية اضعف الحلقات في الخماسية النسائية ، شخصية كان يمكن لها ان تلعب دورا موازيا للشخصيات الرئيسية المأزومة خصوصا انها مرت بتجربة العيش في مجتمع غربي منفتح ، لكننا نجدها تأتي من اخر الدنيا لتقيم علاقة جسدية عابرة مع صديق زوجها السابق انتقاما من الزوج الديوث، وهو شخص مارس القوادة العملية والان يمارس القوادة السياسية ، شخصية (عذراء) كان بالامكان تقديمها بشكل اكثر فاعلية ،شخصية تقدم حلولا عملية في فضح الفساد ، فساد العلاقات الانسانية والفساد السياسي الذي استشرى في المجتمع .ونصل الى (سلمى ) الشخصية الايجابية الوحيدة في العمل ، شخصية حاولت انقاذ ما يمكن انقاذه عبر سعيها فيما تقدمه من مساعدة لصديقاتها ،فجاءت جرعة درامية تحاول موازنة كم السواد والاهات والالم الذي تطلقه الشخصيات الاخرى ،انها شخصية ايجابية وبالرغم من انها لعبت دور الضمير بالنسبة للشخصيات الاخرى الا ان الاشارة الى تأرجحها بين الشهوة والواجب في مشهد الحلم كان جميلا وقدم الشخصية وكأنه استمرار لأزمة التذبذب بين الواجب وحاجات الجسد .
اما الشخصيات الرجالية ،في العمل فقد تحولت الى هوامش في العمل بقصدية غايتها تسليط الضوء على الشخصيات النسائية ،فرسمت هذه الشخصيات كظلال باهتة في خلفية حياة يمامات سعد سعيد لتنصب اضاءة المشهد الدرامي على هسيسهن الحارق.(هسيس اليمام) رواية جديرة بالقراءة المتأنية للتمتع بما قدمه سعد سعيد ومثل اضافة مهمة في رحلته الروائية .