قراءة سيميائية في أشكال الدلالة داخل النص الأدبي في قصة (رجل التوافه) للقاص محمد خضير

قراءة سيميائية في أشكال الدلالة داخل النص الأدبي في قصة (رجل التوافه) للقاص محمد خضير

حيدر جمعة العابدي
مما لا شك فيه ان القصة القصيرة باتت تمثل حقلا أدبيا يزخر بالدلالات الفنية والاجتماعية حالها حال أي نص شعري حديث مع بعض الفوارق الأسلوبية والفنية التي تحكم الأجناس الأدبية المختلفة التي تصطنع الحدود والأغراض الخاصة بكل جنس . ان البحث عن الأثر الدلالي في أي نص هو بحث في اللغة كنظام من العلامات السيميائية

كما يعرفها سوسير حيث قال ((اللغة نظام من العلامات التي تعبر عن الأفكار)) تأكيدا منه على الطبيعة التواصلية للعلامة في اللغة : دال + مدلول = علامة ومن ثم دلالات تخضع وتتأثر بالجانب التأويلي للعلامة من حيث التلقي لتظل هذه الدلالات في صيرورة من التحولات اللانهائية لعملية إنتاج المعنى الدلالي للعلامة .
تتميز قصة ( رجل التوافه ) للقاص محمد خضير بميل واضح لإنتاج كم من العلامات الدلالية كونها تحيل عبر موضوعاتها إلى حقل دلالي رمزي ينفتح على فضاءات تأويلية مختلفة بدءا من عتبة العنوان (رجل التوافه) كعتبة مركزية وصولا إلى آخر عتبات النص خاتمة القصة ،حيث اعتمد الكاتب نظاما من العلامات الفنية والتاريخية بغية الوصول بالنص إلى أقصى مدياته الإيحائية والتأثيرية المتعددة ليشكل النص ككل علامة سيميائية تختزل الكثير من الرموز والدلالات الفنية عبر المتخيل وقصدية الكاتب المرتبطة في الهدف من القص وتأثيره على الواقع، لذا نجد ان النص يزخر بالإحالات الفنية إلى نصوص أخرى سابقه عليه مثل :قصة بصرياثا ،وكافكا ، والى بعد تاريخي نفسي تكتنزه ذاكرة الكاتب وهي إحدى تأثيرات ما بعد الحداثة على الاجناس السردية في العراق ومنها القصة، لذا نجد ان الكاتب يؤثث عوالم حكاياته عبر تناصات سردية مختلفة تسعى لكسر الحدود ما بين الأجناس الأدبية والبحث عن ثيم تبحث عن المهمش ،والمتواري، والمضمر في الواقع الاجتماعي للحياة ، لذا تبدأ القصة من سوق شعبي مهمل ومنزوٍ في ظاهره لكنه سوق يحتضن كل تاريخ البلاد المبعثر والمندثر بفعل السياسات التعسفية و الأنظمة السياسية التي مارست سطوتها عليه ليشكل وجوده علامة على تاريخ من التهميش والفقر والتآمر ، انه سوق الخردة او سوق هرج ، يصفه الكاتب بأسلوب فني جميل (مع غروب الشمس ينسحب جزء من التاريخ العراقي المنسي الى زاوية اللاوعي والمهمل ) فالأسواق رغم ما تتعرض له من تحولات سياسية واقتصادية لكنها تظل تحمل بين زواياها المهملة شواهد تدلل على ما حدث ويحدث لها من تقلبات وانزياحات ثقافية ورمزية ، هو ما دفع الكاتب للإشارة الى قصة رجل التوافه القديمة ليكمل سرد ما لم يقله بعد (أشرت في بصرياثا إشارة عابرة إلى رجل التوافه الذي يعود كل يوم بلقية أثرية ابتاعها من دكان خردوات صغير ) ولو تتبعنا سير أحداث القصة سنجد ان قصة رجل التوافه هي قصة عابرة لمدلولاتها الآنية والواقعية ، أي رجل يبحث عن قطع أثرية قديمة وهو ما يحول دون فك شفرة النص أو بعده الدلالي العميق الى إذا حاولنا عكس تمثلات هذه الأحداث على الواقع المعلن، لذا انصب تركيزنا في هذه الورقة على الجانب الفني والدلالي المتخيل كونه يشغل المساحة الأكبر والأكثر قدرة على كشف شفرة النص وقصدية الكاتب .يقوم بناء القصة على ثنائيات متقابلة ومتجاورة داخل النص كون هذه الثنائيات تسير وفق خطين متوازيين أي رجل / امرأة ، مفتاح/باب، وهي ثنائيات لها دلالتها الموضوعية والفنية المتخيلة في النص حيث تعتمد علاقة جدلية ما بين دال ومدلول تنتج عبر اتحادهما علامات دلالية جديدة ومختلفة تنفتح على جوانب تأويلية لا نهائية.. فدلالة الرجل داخل النص تأخذ شكلا سيميائيا فنيا اكثر منه واقعيا وذلك عبر اخضاع دلالة الرجل الى جدلية الظاهر والمضمر . فصورة الرجل المعلنة من قبل الراوي هي رجل مهووس بالخرداوات واللقيات الأثرية القديمة لدرجة الجنون أما صورته غير المعلنه فهي جرذ يبحث في المناطق القديمة والمهجورة وهي صورة رمزية متخيلة اكثر منها واقعية كونها تحمل بعدا فنيا لكنه يتشكل عبر تأثيرات الواقع كدلالة سيميائية تصطنع فعل ادانه غير معلن لمجتمع تخلى عن كل إبعاده الإنسانية والمعرفية فتحول من كونه مجتمعا فاعلا ومشاركا في بناء الواقع الى مجتمع يختبئ مثل جرذ يعيش أوهامه وأحلامه التاريخية المتمثلة بشخصية رجل التوافه ،كما وتكشف هذه الدلالة حجم وهم مجتمعاتنا الذكورية كون هذا المجتمعات تتمركز خلف زيف وعيها التاريخي الماضوي. تقابل هذه العلامة ، دلالة المرأة التي جاءت لتؤكد على فعل الاستلاب والتهميش الذي مارسه المجتمع تجاه المختلف الاخر(يا لك من تمثال عتيق)، كون دورها صيغ وفق قناعات وثقافة هذا المجتمع الذكوري وهو ما يعكس نمطية هذه الدلالات على الحياة التي صيغت وفق منظور ذكوري تنتج لنا سيلا من الدلالات فامرأة +رجل = اسرة ،ومجتمع، أبوي ،ذكوري ،ماضوي، كما ان هذه الدلالات تاخذ بعدا تأويليا رمزيا له بعد اجتماعي ، فدلالة المفتاح + أبواب = بيوت، ومدن ، سلطة ، اسرار، علاقة جنسية الخ، وبما ان دال الخردة يحيل للماضي فإن مدلولها جاء مرتبطا بثقافة هذا الماضي وفق تصور هذا الماضي.. وعليه نجد ان هذه الثنائيات تحيل الى دلالات الصراع القيمي والإنساني المادي في الحاضر، والتاريخي الأسطوري في الماضي ( نعم يا رجلي القديم ، مثل أثفية موقد دخان ) فجميع الأفخاخ التي يقع فيها رجل التوافه هي ذات صفة أنثوية، باب ،مصيدة ،غدارة كلها صيغ تحيل لنسق دلالي تاريخي لصورة المرأة وبالتالي هي علامات سيميائية فنية لمجتمع هرم وعاجز كما انها علامة اجتماعية واقعية تكرس أنساق ثقافية واجتماعية ذكورية مضمرة فرغم انتصار مكر المرأة على حنكة الرجل بكل خبراته الطويلة لكن دلالات المرأة ظلت دلالات تحيل الى أنماط ثقافية ودينية أسطورية مثل قصة ادم وحواء وشهرزاد وشهريار ما يكشف عقدة الذكورة للمجتمع .وهو ما يبرر استخدام الكاتب اللغة كنظام دلالي منطقي، وطريقة سرد تقليدية، لذا تبدأ القصة بمقدمة استهلالية بلسان راوٍ عليم ومشارك ( اكر ثانية على حكاية رجل التوافه وأدخل غرفته لأستعين بقوائم الخردوات التي اقتناها من المهرج ،وسجل فيها سيرة كل سلعة وسعرها وقيمتها الخيالية ) توزعت القصة على محورين المفتاح، والخرداوات، المفتاح المسبوك على شكل حروف كبيرة في إشارة رمزية للعضو الذكري الذي يشكل ذكوريتنا، وباقي الخردوات التي آخرها المرأة. جاء فعل السرد منسجما مع زمن السرد حيث خضع لزمن تقليدي ليل، نهار، وسرد على طريقة الحكايات القديمة لكنه بتقنيات ما بعد حداثية يتجلى ذلك في أساليب الوصف بطريقة المجاز السردي من خلال تكثيف الدلالات اللغوية والاستعارة والتشبيه والتورية وهو ما يعطي حرية نسبية للكاتب للعب داخل النص ويتيح للتلقي حرية التأويل ( تلمس الغدارة قبل تحركها . تأمل الزناد المضغوط بمئات الأصابع، المسيرة الطويلة للأيدي التي احتفظت بالموت في قرابها ) في الختام نجد ان قصة رجل التوافه وظفت دلاليا وفنيا لتشكل علامة سيميائية تشير الى القطيعة المعرفي مع الحاضر والمستقبل الذي تكرس بفعل الموروث التاريخي وهي علامة ترسم تراجعنا المعرفي والثقافي اليوم كوننا مجتمع يختبئ خلف توافه ملاذاته التاريخية .