الحبّ وإليغوريا الحبّ لدى رينه شار ورعد عبد القادر

الحبّ وإليغوريا الحبّ لدى رينه شار ورعد عبد القادر

علي بدر
René Char »مرّت السنوات. انقرضت العواصف. انصرَفَ العالم. كان يؤلمني الشعور أنّ قلبكِ لم يعد ينتبه إليّ. كنت أحبكِ. وأنا غائبُ الوجه، خالٍ من الفرح. كنت أحبكِ، متغيراً في كل شيء، وفياً لكِ.»
رينه شار (من قصيدة»مآثر»explois)*
«أحاول أن أرمّم فؤادي بكسر من النجوم، أحاول أن أغلق منافذ وقتي، ألبس غيمتك، أزر عليّ المطر، أخرج جنحي، استلم الشروق بيد والغروب بيد، وأفرح ملء الجهات.»
رعد عبد القادر (من»نص في الحب»)*

الحب...
من أين تأتي فتنته وهيمنته طالما أن الشاعر الذي يعذّبه الجمال يؤلمه الحب، ويزاوج مرة واحدة بين وحدة انفعالاته مع المحبوبة والطابع الفظّ لمصيره؟
الحب...
من أين تأتي إشراقاته الجسدية وكلماته، من أين تأتي إثارته وتأثيراته، من أين تأتي لعنته وانحرافاته، من أين يأتي قبوله والرضوخ لسلطانه؟ الحبّ هو سيد كيوبيد كما سمّاه بيروان Berown في قصيدة»جهد الحب مضاعاً»: صاحب السلطان... الشماس الحقيقي للتنهدة الفكهة... الشرطي في العسس... سيد الأسلحة المطوية... الملك المكرّس للتنهدات والأنات... مولى المتسكعين والساخطين... الإمبراطور الأوحد والجنرال العظيم للمنجمين المسرعين...»وليكن الشاعر عريف ميدانه الذي يرتدي إشارته كطوق الحمام الضاحك.»

ولكن من أين تأتينا نصوص الحب؟ من أين تتسرب إلى خيالنا ولغتنا ومعانينا؟ من أين تأتي لغتها الموهوبة وكلماتها؟ من أين تأتينا انفعالاتها وفصاحتها بينما الحبّ هو الذي يخرس ويصمت ويذلّ ويبيد ويغلّ ويفني كما يقول بارت في مقاطع من خطاب عاشق؟ إنها تأتينا، ربما، من طغيان الحبّ على ضمير الشاعر. تأتينا من ترف العاشق، ومغازلاته ومغامراته. تأتينا على الدوام من نزاع خالد ومعذّب لشاعر فرض بكل قوة معرفته الدنيوية النيرة بكل ما فيها من شعبي وزهدي وهوسي ومفكك على كل ما هو متعالٍ وسري ومقدّس، بلغة أزيائية حاضرة، بلغة كورتوازية متأنقة، شعبية، اصطناعية، لياقية، سحرية.
نص الحب لدى رينه شار، نص طالع من الجسد وترفه، من هوسه وحنينه، من شبقه ورغباته، من غموضه واضطرابه، من شهوته وانتصابه. هو نص يصنع من الحب إليغوريا الحب، ومن الكلمات واقعة للحب طالعة من فجر الحب وغروبه، من ليله ونهاره، من وجوده وعدمه. هو نص من خلاصة العطر وهباء الكنوز وعدمها.
نص الحب لدى رعد عبد القادر مثلما هو نص الحب لدى رينه شار، نص متأنق يستمر بقوانينه الخفية المضطربة، ويشكّل نبذاً مستمراً لكل حياتنا الرسمية، وضغطاً على كل اقتصاد في فتنتنا الجامدة. هو نص يتراءى وراء حجاب اللغة الثقيل، وكأنه صورة عظمى لفوضى حياتنا واضطرابها، صورة بكر لأشدّ ما في حياتنا من إظلام وخذلان وتعقيد.
نص الحبّ لدى رعد عبد القادر مثلما هو نص الحبّ لدى رينه شار، نص يؤمّن من خلال فوضى أخلاقنا وعاداتنا نوعاً من التجميل الغامض لكل ما في حياتنا من خيبة، وميل غريزي إلى الشقاء، ويكشف في الوقت نفسه عن المثل العظيمة التي لا تكون إلا في تدمير فتنتنا، وإلا في هذا الوهم الذي له هذا السلطان كله غير القابل للإنكار، والذي يتحوّل بعد سوء الإستعمال إلى قواعد للسلوك مشكّلاً وفق تحديد غامض أسطورة شخصية لكل واحد منا.
***
«كان الصيف يغرّد وقلبك يسبح بعيداً عنه. احتضنتُ شجاعتكِ، أصغيتُ إلى بلبلتك. طريق على امتداد مطلق الأمواج باتجاه قمم الزبد العالية هذه، حيث تُبحر الفضائل المبيدة للأيدي التي تحمل منازلنا. لم نكن سذّجاً. كنا محاطين.»
رينه شار (من قصيدة»مآثر»(
أنت حبي من سنوات
دوختي إزاء انتظارك
الشيء الذي لا يشيخ ولا يبرد.
رينه شار (من قصيدة»بتريسيا تيري»Patricia Terry)
تعلّق نانسي كلاين بيور في كتابها»التنوير في شعر رينه شار»: إن الكسوف معقوب على الدوام بالعودة الأبدية، وهكذا حين ينهي الشاعر قصيدته الخاصة فإنه لا يستنفد الشعر.
يقرّب رينه شار الحب من الحدس، من الصيف الذي يغرّد، من هذا اللّهب الحيِّ الذي يحلّق فينا ويطلع منا، من الأمواج العاتية التي تضع أجسادنا في استعارة شعرية جديدة، من زمن الحب الذي يبحر فينا كما لو كان طبيعة مبيدة وتائهة، تحملنا وتقدمنا من زمن خالد ومشتعل، إلى زمن يبرق ويصعد إلى الأعلى، إلى زمن يجعل من الحب ضياء أنقى من النور القادم من الأعلى، إلى زمن يحلّق فينا، ويجعلنا حيوانات طائرة كما قال ألبير بيغان Albert Béguin في كتابه»النفس الرومانتيكية والحلم».
من أين نحصل على الحب إذن؟ أَمِنَ المآثر الباهرة التي يصنعها الجسد؟ أَمِن التأمل الذي لا ينضب في وجه المرأة؟ أَمِن الرغبة الكاسحة بشعرنة جسد المرأة والذوبان فيه؟ أَمِن رؤية الوجود والتفكير فيه؟ أَمِن تأمله وتفسيره وتأويله؟ أمن حكاية عن الحب صنعتها المعرفة الشعرية، واللغة المتعالية، والخيال الخلاّق؟
رينه شار مثل رعد عبد القادر، كلاهما يطرح الوظيفة الأدائية للشعر كقوة براطيقية، وكحلم ميتافيزيقي متسام، ويصبح الحب إليغوريا عظيمة، وجسد المرأة يمنحنا معنى جديداً، أعظم من المعنى الذي يطرحه الفيلسوف والحكيم، والأخلاقي، والمبشّر.
شعر الحبّ هو النبض العاطفي الذي يتجلّى في النص ويسميه بارت بمطاردة الخيال. فالعاشق السعيد ليس في حاجة إلى الكتابة،»إنه عاشق لأنه يبتكر المعنى..الحب أخرس، الشعر وحده يجعله ينطق.»
***
اللغة في نصوص الحب اعتراض مثيولوجي على اللغة ذاتها. هي المدخل السحري إلى عالم إيروس العظيم، وهي الإيماءات الإحتفالية التي تتحوّل إلى علامات. لغة الحب لغة ملتهبة، ونصوص الحب تحتوي على الدوام على صور ملتهبة يحتّمها توهّج النفس واشتعال الجسد. إنها استعارات يصعب تحديدها وتبينها، إلا في وصفها موضوعاً للحلم. نصوص الحب هي انفتاح على الآخر؛ المرأة، وإدراكها ضمن حكاية شعرية، وبنوع من العقلانية والخيال الخلاّق. هي مزاوجة بين الأحلام المستعادة ولذة النص، لا تفضي إلى لحظة صفاء خالص فحسب، إنما إلى لحظة من لحظات التأمل النقي. إنها نظرة عميقة إلى جسد المرأة ووجودها، ورغبة كامنة في إضفاء معنى على العالم، وعودة إلى ينبوع الحياة، إلى نار البدائية التي خلقت العالم، إلى النفس الشاعرة والحالمة التي تبتدع العالم. المرأة التي نحلم بها هي المرأة الموجودة كما نحلم بها، الشعر وحده يجعل من المرأة المحلومة امرأة موجودة.

***
«أخبر نفسي مرة أخرى ما عرفته من قديم،
الجمال المحطّم بالغائط والكسر،
أنت حبي وأنا محطّ رغبتك،
الخبز الذي صنعناه في الليالي المحببة،
مثل ملك قديم يتقدّم فاتحاً ذراعيه الإثنتين.»
رينه شار (chants de la Balandrane)
قصائد الحب هي نمو للوعي الكوني وتصاعد للغة الحسيّة وهي تلتحم مع كل ما هو جسدي ومترف وثري. هي المظهر الأكثر تعبيراً عن الضياء الذي يشعّ من أجسادنا وروحنا، وطلب الخيال هنا هو كشفٌ وتأسيسٌ لوجودنا في العالم، إذ تعيد الرؤية الشعرية تبصرنا بجسد المرأة وروحها، لا بوصفه أعضاء ودماً ولحماً ومكونات إنما بوصفه شعلة وفكرة وضياء. إنه تقوية للنفس في مواجهة الأشياء والذوبان في المؤنث، وإبعاد للمادة، واستثارة للوعي، وولوج في الكينونة، ودخول إلى الهيولى؛ هيولى الجنس، وهي حالة تتجاوز حالات التجربة المحسوسة، لتصل بنا إلى نطاق الوعي الكوني، إلى عبور صور المادة، والوصول إلى كيمياء الأحلام، إلى عبور اللغة الجامدة والمتخشبة والوصول إلى كيمياء النفس، إلى تجاوز الواقع والحياة في الخيال والأحلام في وصفها خالقة ومؤسسة للواقع والنفس والوجود والكينونة.
***
قصيدة مآثر Explois لرينه شار التي نشرها في ديوان Fureur et mystér»الصخب والغموض»تختلف عن قصيدة»أنا خلاصة العطر وعدم الكنوز، نص في الحب»التي نشرها رعد عبد القادر عام 1998، حيث تأتي عبارة (نص في الحب) إلحاقاً بسيطاً إلى العنوان، يشي بعدم الإكتمال وبحالة النقص الدائم الذي من خلاله سنتعرض إلى نوع من الإغواء، يجذبنا إلى إضافة شيء ما، وإكمال نقص ما، حيث الحب بعدم اكتماله يحرّك عادة فكرة المدونة غير المكتملة، فهو غير مكتمل بأسمائه المتعددة، ومن هنا سيكون حضوره كامناً في إخفائه لأصله.
سيكون الواحد في نص رعد عبد القادر هو المتكثر والبنية المعادة المكررة التي تنفلت من سلطة الوعي وإطلاقها، وستكون عملية التحديد في التكرار هي انفصال عن إرادة القول الأصلية، وتحرر من كل سياق ملزم، ولذا نجد الواحد في الحب يعمل داخل النص من خلال تعدده ووهمه الذي ينسج خيوط النص ويشكلها، وهو وهم إضافي طالما يمكن تبديده من خلال توحيده، فهو لا يمدنا من خلال تكراره إلا بظل زائف للواحد، فالحب هو السرير الذي يتقاطع فوقه آلاف من العشاق، إنه النص- الكفن لدى جاك دريدا الذي يتقاطع عليه آلاف الأموات القادمين من أماكن متعددة. إنه نسيج من الإختلافات والتعارضات المتلاحقة في صورة خنثية أو هيتروجينية، لذا فإنه يفتقر لهويته الخاصة.
***
ينفتح الحب في نص رعد عبد القادر على خارج الحب. هذا الانفتاح هو الذي يشكل سيرورة النص اللامتناهية، حيث تمر الأسماء والصفات واحدة تلو الأخرى من خلال الغموض الذي يشكل الأصل الخالص للحب، والذي ينأى عن مصنف كامل في الأخلاق، ينأى عن نفسه، فيما يعيد للذاكرة بعض هذا الإستخدام الفذّ للبديهيات والتعبير عنها بشكل ظاهر. إنه يتجاوز الخطر المستحيل والصريح في تعدد المطلق من خلال العلاقات التي يستحيل دفنها. ولأنه واحد بأسمائه فلن يكون هذا التصريح الغامض أو الإقرار بغموضه إلا نوع من ارتباط الحب بالموت، أو الاستسلام الكامل، استسلامنا نحن بكل قوانا إلى الدمار.
فأي جمال أخّاذ حين نقرأ:
يسوسن الحجر
وينرجس الزمن،
ويحشو غليونه
بالفراشات.

هذه الإستعارات هي محاولة لإقامة نوع من التوازي بين القيّم المستقلة للشكل وشعرية المعنى، فالإستعمال الغائي للغة في وصفها وسيلة اتصال ستبطلها القيمة المستقلة للأصوات والعناصر الصرفية والجمالية فيها، وسيحاول النص أن يجد من خلال الحب نوعاً من التعادل بين الداخل والخارج، الغاية والوسيلة، الصياغة والمماثلة، وستكون الظواهر الألسنية محسوسة بتراكيبها، لكن هذا التمظهر التلفظي هو المظهر الدلالي ذاته، وستكون الكلمات من خلال انتظامها، واسطة لمنح الحب غاية أكبر من غاياتها الوظيفية والتعريفية، وستتجه اللغة الشعرية من الطابع الصواتي إلى الطابع الدلالي لا من خلال تعيينها إنما من خلال تنظيمها، لكن هذه الدلالة التي تصل في عبثها إلى أقصاها ستدمّر الإصغاء السلبي للصوت، والمتمركز على الحقيقة من خلال كتابة تشكّل من بين ما تشكله نوعاً من التصدّع المتواصل للحضور. فالعلامة التي تشكّل حضوراً لشيء غائب سيبطل عملها وسيكون استخدام الثنائيات المتراتبة نوعاً من الإختلاف المؤجل الذي يدمّر المعنى المتراكز في النص والمتعالي، ولن يكون الحب إلا كتابة عصيّة فاقدة لمركزها. سيكون نوعاً من الكولاج، تلقيحاً دخيلاً وطارئاً، وسيتحول النص من خلال سطوعه وتوهجه إلى جسد مقطع، ثم سيندفع بكل قوة لتدمير نفسه.
***
أن نتقبّل (نصاً في الحب)، نصاً من (خلاصة العطر وعدم الكنوز) فهذا يعني أننا نتقبّل نوعاً من الإنكار لكل ما في قواعدنا وأخلاقنا الرسمية من حضور، وقد يسمح لنا هذا الإنكار ذاته ان نتقبّل محتوى الحب الخفي بالقدر الذي نرغب فيه بتهديد العقل، أو تهديد الوضوح التام. فلماذا يتحوّل الحب إلى عائق للتوحد الكامل؟
أحاول أن أرمم فؤادي
بكسر من النجوم
أحاول أن أغلق منافذ وقتي
ألبس غيمتك، أزر عليّ المطر
اخرج جنحي
استلم الشروق بيد والغروب بيد
وأفرح ملء الجهات.

لماذا تتحوّل هذه الصورة الطقسية للبلاغة إلى نوع من التعلّق الفاضح بالتدمير؟ هذا التعلّق الظاهر والكامن في كل واحد منا والذي نطلق عليه اليوم تسمية»التصعيد».
لماذا لا يكون الحب في وصفه تدميراً بكل قوة لتعاليه، نوعاً من التعويض الضروري عن العنف الفوضوي الذي يسود حياتنا؟
***

لقد أراد كل من رينه شار ورعد عبد القادر كتابة واقعة الحب في الشعر مثلما هي كتابة الشعر في الحب، فكلاهما أراد رواية إليغوريا الحب عبر اللغة المحسوسة والمتجسدة، وبما أن الحب لا تكتبه إلا الأجساد، عبر مواقعة الجسد للجسد واللحم للحم والروح للروح، مواقعة ذوبان وانغمار وتيهان وضياع، فإن المزاوجة بين اللغة والجسد تتحقق، حيث أن اللغة تعثر على الجسد الضائع في الحبّ، وتجعله تجربة لوجود واكتمال، تجربة هداية وعثور، تجربة وصول وافتتان.
إن واقعة الحب في شعر رينه شار وشعر رعد عبد القادر هي واقعة الشعر في الحب، فكلاهما تأسيس انطولوجي للخيال، وتأسيس محسوس لكل ما هو أثيري ومتطاير وعابر وزائل ومؤقت. وواقعة الحب هي صورة ارتعاشة جسدين عند التحامهما وهما عند قمة تألقهما، والحبّ فاعل مُدْرَك وعالم مُدْرِك معا، الحب شعر يؤسس هذا العالم، ويحده بوجوده وكينونته. إنه الخطر الأقصى الذي يهددنا، طريق الإنكشاف والتجرّد الذي يحرّضنا لمعرفة كينونتنا ووجودنا، إنه إدراك لفتنتنا وخوف منها، إنه رعب وسلطة وخطر وتدمير، إنه طريق انفضاحنا وانكشافنا، فما أن نضع أيدينا عليه حتى نتعرى تماماً، إنه تقدمنا باستمرار نحو إمكانيات وجودنا، إنه تطوير لرغباتنا ولتقشفنا، إنه إمكانية خفية رغم ظاهرها، إنه تحجّبنا واختفاؤنا رغم ظهورنا، انه إدراك لانتمائنا ومعرفة لهويتنا وماهيتنا الخاصة. بيد أن هذه المعرفة هي السبيل الخطر الذي يعرّض مصيرنا للتهديد المستمر، وهي التي تجعلنا نقف بين إمكانيتين تعرّضان مصيرنا للخطر الثابت والدائم: إمكانية الرفض لإبتعاد الحبّ وتعاليه وسموه وسرّه وغموضه، وهذا يعني الموت، أو الإندفاع بكل قوة لتحديد ظاهره وجوهره وهذا يعني الهبوط إلى الهاوية. وحده الشعر يدفع بنا ويحرّضنا على ممارسة المعرفة ونحن نستسلم لندائه الغامض، وحده يحرضنا على ملامسة الجوهر والظاهر من الأشياء، وحده يدفع بنا لتلقي نداء الهاوية والتعرض لهذا التهديد المستمر، وحده يعرّضنا للإنكشاف وهو العصي على الانكشاف، وحده الذي يحرّض ويستفز ويتوقف ويصمت.
***
حينما تكون (سيدة العالم) هي (الفوق) و(التحت) و(العمق) و(المناخات) و(الأبخرة) في قصيدة رعد عبد القادر، فإنها تتحوّل إلى رحلة في المستحيل، رحلة في الإمتداد المسطّح للعاطفة التي لا يحدّها فكر ولا حد ولا تحصيل. هي نهاية الإعتراف وما يختتم الجسد به لغة العشق، لغة الإفتتان عندما تصل الكلمات إلى حدها الأخير. أما لدى رينه شار فهي مأثرة الجسد الذي يغرّد البحر على صخرته، ويغرّد الحب على انفراد في صمت وودّ وحرية حزينة. سيدة العالم عند رعد عبد القادر هي إشعاع الكائن المشتهى، سحر العيون وجمال الجسم المنير كما أدركها رولان بارت في كتابه»خطاب عاشق»، فالإنبهار يمنع الرؤية والقول، لكونه مرصوداً للذكرى لا للتحليل، كما قال راستينياك من مقبرة لاشيز جاء دورنا الآن وأنت رائعة. العاشق في قصيدة رعد عبد القادر هو الذي يدرك الآخر بكليته، وهذه الكلية متضمنة لبقية لا يمكن التصريح بها، أما لدى رينه شار، فإنه العالم الذي يغيب ويحلّ الجسد مكانه، ليكون إحياء لكل ما هو معطّل في مسار الطبيعة، ليكون الطبيعة التي تلزم العاشق بشكل طارئ وتصطاده في صيفها وليلها وبحرها وموجها. إنه انجراف في الجرح، وفي الخوف من الجرح والهجران.
«كان الصيف يغرّد على صخرته عندما ظهرتِ لي، الصيف كان يغرّد على انفراد منا نحن اللذين كنا صمتاً، ودّاً، حريةً حزينة، بحراً أكثر من البحر الذي كانت مجرفته الطويلة الزرقاء تتسلّى عند أقدامنا.»
***
سيدة الحب في شعر رعد عبد القادر هي سيدة الحب بالفعل، فكيف يمكننا أن نكسو العالم الصوفي بهذا الرداء الدنيوي، وكيف يكون التوقّد المهلك والمميت اعترافاً مقنعاً بالحب؟ ولذا فإننا نجد النص لا يتوقف إلا بالحركة:
أنا بذرة نارك الشريفة،
أنا وردتك بالفعل،
وفراشتك بالقوة،
حركة في القلب
وشقشقة عندليب.

في الواقع ثمة نظامان أو بنيتان، واحدة اجتماعية أخلاقية تتمركز حول الضبط والتقنين العاطفي، وأخرى بنية لإنفلات غريزي مدمّر. الأولى خارجية، عارضة، خاضعة لجوهر إمكانية ازدواجها وتضعيفها وتكرارها الذي لا ينتهي، والثانية داخلية، تواصل حضورها في الذات في لحظة حضور الذات وتلاشيها. في نص للحب ثمة إرث للحب، ثمة لياقة ونظام وأخلاق تنتصر لحقوق الحب التي لا حصر لها، ثمة قدر للهوى لا يخطئ، يتعالى على النزعات المذنبة، وعلى الفوضى والمُثُل التي تدرك استحالتها فتتحوّل إلى وصف في غاية الدقّة وإلى حيل لاشعورية بآلاف من الكلمات.
هذا الحب ــ الفكر هو الذي يقلب نزعات الفكر الهدّامة ويتحوّل إلى أحلام لذيذة.

_____________
*»أنا خلاصة العطر وعدم الكنوز، نص في الحبّ» نص طويل نشره الشاعر العراقي الراحل رعد عبد القادر في مجلة »الأديب المعاصر» خريف عام 1998، ثم صدر عن دار المدى ضمن مجموعته الكاملة.
*»مآثر»Explois قصيدة منشورة في»ديوان صخب وغموض»fureur et mystér المنشور عام 1948 عن دار غاليمار