«فــي العــنف» لحنَّـة أرندتْ ..ما يجمع ويفرق السلطة والإرهاب وفوهة البندقية

«فــي العــنف» لحنَّـة أرندتْ ..ما يجمع ويفرق السلطة والإرهاب وفوهة البندقية

أحمد ياسين
تعالج الفيلسوفة الأميركية الراحلة حنة ارندت (1906 ـ 1975) في بحثها القيم، الذي يحمل عنوان: «في العنف»، والصادر حديثاً، بطبعته العربية (الثانية)، بترجمة ابراهيم العريس، مسألة العنف؛ ليس كظاهرة وقتية، أو حالة مختصة، بل كقضية عامة، قائمة في ذاتها، اي بوصفها قضية تاريخية كونية شاملة، ملازمة للسلوك البشري، فرداً وجماعات.

إذ تعالج أرندت هذا الأمر معالجة تحليلية، فلسفية وسياسية وإجتماعية، نقدية، في بحثها هذا الذي يعد مرجعاً غير مسبوق في موضوعه، هذا البحث الذي علاوة على تميزه بالشمولية، يتميز، ايضاً، بالكثافة والعمق في التناول (إذ هو لا يتعدى المائة واثنتي عشرة صفحة من القطع الوسط، بمتنه وثبت مراجعه الإحالية المائة والاربعة عشر وملاحقه الثلاثة عشر).
لا يمكن لأي شخص أعمل فكره في شؤون التاريخ والسياسة، ان يبقى غافلاً عن الدور العظيم الذي لعبه العنف، دائماً، في شؤون البشر. ومن هنا سيبدو لنا، للوهلة الأولى. مفاجئاً ما نلاحظه من ان العنف نادراً ما كان موضع تحليل أو دراسة خاصة. وهذا ما تشير إليه أرندت منبهة ومبررة موقفها، بوضعها موضوع العنف موضع التحليل، وإخضاعه لدراستها الخاصة في هذا البحث، الذي صدرت طبعته العربية الأولى في العام 1992، والذي هو عبارة عن تأملات شخصية للمؤلفة في هذا المجال، وهي تقول في ذلك"إن «ما اثار هذه التأملات لدي، انما هو الأحداث والسجالات التي دارت خلال السنوات القليلة الماضية، منظوراً اليها على خلفية القرن العشرين، هذا القرن الذي صار، حقاً وكما كان لينين قد توقع، قرن الحروب والثورات، وبالتالي قرن ذلك العنف الذي يعتبر، عادة، قاسماً مشتركاً بينها. أضف الى ذلك (والإضافة للباحثة) أن ثمة عاملاً آخر يبرز في الوضعية الراهنة، ولا يقل أهمية على الرغم من ان احداً لم يتوقعه: فالحال أن ادوات العنف قد تطورت تقنياً الى درجة لم يعد من الممكن معها القول بأن ثمة غاية سياسية تتناسب مع قدرتها التدميرية، أو تبرر استخدامها حالياً في الصراعات المسلحة. فالحال ـ وعلى حد قول الكاتبة ـ أن جوهر فعل العنف نفسه إنما تسيره مقولة «الغاية والوسيلة» التي كانت ميزتها الرئيسية، ان طبقت على الشؤون الانسانية، ان الغاية محاطة بخطر ان تتجاوزها الوسيلة التي تبررها والتي لا يمكن الوصول اليها من دونها. وبما أنه ـ وعلى ما ترى أرندت ـ من المستحيل التنبؤ، بشكل يحمل مصداقيته، بالغاية المتوخاة من اي عمل بشري، ككيان مستقل عن وسائل تحقيقه، من الواضح ان الوسائل المستخدمة للوصول الى غايات سياسية ترتدي، في أغلب الأحيان، أهمية بالنسبة الى بناء عالم المستقبل، تفوق الأهمية التي ترتديها الغايات المنشودة.
وتكمل أرندت قولها: اضف الى هذا، أنه بما ان النتائج التي يسفر عنها عمل البشر، تبتدئ، دائماً، منفلتة» من رقابة من يقومون بالعمل، فان العنف يحمل في ذاته عنصراً إضافياً تعسفياً؟ وتشير الباحثة بقولها الى ان كل التجارب التي عرفناها في هذا القرن (العشرين)، والتي جعلتنا، على الدوام، على تجابه مع ما هو غير متوقع كلياً، فإنني أقترح طرح مشكلة العنف في الساحة السياسية على خلفية هذه التجارب. لذا فلقد عمدت الكاتبة الى محورة هذا الشق من المعالجة، حول «السلطة والعنف»، وعلى قاعدة التمييز بينهما توضح بقولها: حقيقة «ان واحداً« من اكثر التميّزات وضوحاً بين السلطة والعنف يكمن في ان السلطة قد ارتكزت على الدوام، الى العدد، أما العنف فانه، الى حد ما، يكون قادراً على تدبير أمره مستغنياً عن العدد، لأنه يسند إلى الأدوات (أدوات القمع). وتضيف: ان حكم الأكثرية من دون ان يستند الى اية حدود قانونية، اي الحكم الديموقراطي المفتقر الى دستور، يمكن ان يكون من نتائجه المرعبة حرمان كافة الاقليات من حقوقها، ويمكنه ـ حتى من دون اللجوء الى العنف ـ ان يتبدى شديد الفاعلية في قمع المعارضين. ولكن هذا ـ والتأكيد لأرندت ـ لن يعني ابدا ان السلطة والعنف هما شيء واحد. وترى الكاتبة، جازمة: ان الشكل الاكثر تطرفا للسلطة هو ذاك الذي يعبر عنه شعار «الجميع ضد الواحد»، اما الشكل الأكثر تطرفا للعنف فهو الذي يعبر عنه شعار «الواحد ضد الجميع»، وهذا الأخير لا يكون ممكناً من دون اللجوء إلى أدوات العنف. هذا، وتشير الكاتبة، وفي اكثر من موضوع، هنا، الى ان العنف يتميز بطابعه الأدواتي، وان السلطة تكمن حقاً، في جوهر كل حكومة، لكن العنف لا يكمن في هذا الجوهر، ولأن العنف بطبيعته ادواتي، لذا، فهو ـ ككل وسيلة، يظل على الدوام بحاجة الى توجيه وتبرير في طريقه الى الهدف الذي يتبعه. وبراي الكاتبة ان السلطة لا تحتاج الى تبرير، انطلاقاً من كونها لا تقبل اي فصل عن وجود الجماعات السياسية نفسه. فما تحتاج اليه السلطة، انما هو المشروعية، أما العنف فقد يبرر، لكنه ابدا لن يحوز على مشروعيته، الا ـ وعلى ما توضح الكاتبة ـ في حال الدفاع المشروع عن النفس حين يكون الخطر حتمياً.. وهنا في هذه الحالة ـ فقط ـ تكون الغاية التي تبرر الوسيلة جلية.
وتلفت الكاتبة الى ان السلطة والعنف، على الرغم من كونهما ظاهرتين متمايزتين، عادة ما يظهران معاً، وحيثما يتم التوليف بينهما يتم ابراز السلطة باعتبارها العامل الاساسي والمسيطر.
غير ان الوضع يختلف تماماً حين نتعاطى معهما انطلاقاً من حالتهما البحتة ـ كما يحدث، مثلا بالنسبة الى غزو خارجي أو احتلال. وتقول الكاتبة: إن بإمكان العنف ان يدمر السلطة دائما، فمن فوهة البندقية تنبع اكثر القيادات فاعلية، مسفرة عن أكثر اشكال الطاعة كمالاً. أما ما لا يمكنه ان ينبغ من فوهة البندقية، فهو السلطة، كما وتقول الباحثة: إن عامل التفتت الداخلي الذي يواكب انتصار العنف على السلطة، يكون واضحاً، بشكل خاص، حين يتم استخدام الارهاب من اجل الحفاظ على الهيمنة، وهنا تؤكد الباحثة، على ان الإرهاب ليس هو هو إنه (أي الارهاب) بالأحرى شكل الحكومة التي تحل في السلطة حين يكون العنف، بعد ان دمر كل سلطة، قد رفض التنازل عن مكانه، بل على العكس، ظل مخضعاً كل شيء لسيطرته. كذلك تؤكد الباحثة انه لقد لوحظ غالبا ان فعالية الارهاب ترتبط كليا تقريباً» بدرجة التفتت الاجتماعي، وهذا التفتت، يبقى ويتكثف عبر الحضور الكلي للدولة البوليسية، وهنا تلفت الباحثة قائلة: ان الفارق الحاسم بين الهيمنة التوتاليتارية، القائمة على الارهاب، والطغيان والديكتاتورية، القائمين على العنف، يكمن في ان الأولى لا تقف فقط ضد أعدائها، بل كذلك ضد اصدقائها ومناصريها حيث انها تكون على رعب من كل سلطة بما في ذاك سلطة اصدقائها انفسهم، والحال ـ والتوضيح للباحثة ـ ان ذروة الارهاب تكون حين تبدأ الدولة البوليسية بالتهام ابنائها، فيصبح جلاد الأمس ضحية اليوم. والى ذلك تشدد الكاتبة على أن العنف لا يمكنه ابداً ان يتحدر عن نقيضه، الذي هو السلطة، وأنه يتعين علينا، لكي نفهم العنف في حقيقته، ان نتفحص جذوره وطبيعته. وفي محاججتها لبعض النظريات التي ناقشتها تعلن الكاتبة قائلة: ان العنف ليس حيوانياً، ولا هو عمل لا عقلاني سواء افهمنا هذه المصطلحات تبعاً للغة العادية للعلوم الانسانية، او بالتوافق مع لغة النظريات العلمية. هذا وتختتم أرندت بحثها هذا بالتنبيه التالي: ينبغي علينا ان نعرف ان كل انحطاط يصيب السلطة، إنما هو دعوة مفتوحة للعنف ـ ولو لمجرد ان اولئك الذين يقبضون على السلطة، سواء اكانوا حاكمين أو محكومين، اذ يشعرون بأن هذه السلطة تفلت من بين ايديهم، يلاقون على الدوام اكبر قدر من الصعوبة دون مقاومة إغراء استبدال السلطة بالعنف