موضوع قتل العائلة المالكة وتعيين ساعة الصفر، هل علم بهما السياسيون العراقيون؟

موضوع قتل العائلة المالكة وتعيين ساعة الصفر، هل علم بهما السياسيون العراقيون؟

آية جميل عباس
تعد ثورة 14تموز عام 1958في العراق الذروة التي بلغها الصراع على السلطة لتكون خاتمة للعهد الملكي وقد تضافرت عوامل داخلية وخارجية لقيامها، وكان لحركة الضباط الأحرار الدور الفاعل في الأعداد لها وتفجيرها وقد ساعدها ممثلو الأحزاب السياسية، جرت أولى المحاولات للاتصال بين تنظيم الضباط الأحرار وحسين جميل في تشرين الاول عام 1956،

عن طريق رشيد مطلق، اذ جاء رشيد مطلق الى مقر عمل حسين جميل في نقابة المحامين العراقيين، وأخبره أن الزعيم عبد الكريم قاسم أرسله اليه وهو يعرفه جيدا ويعرف تاريخه وأفكاره وآرائه في الشؤون العامة منذ تأسيس جريدة الأهالي، ثم الحزب الوطني الديمقراطي، وفي معركة الانتخابات النيابية واجتماعاتها وفي مجلس النواب، وفي نقابة المحامين، وأبلغه أن عبد الكريم قاسم سوف يترأس تنظيما من الضباط الأحرار يهدف الى إسقاط النظام الملكي، وإقامة الجمهورية، والقضاء على الأوضاع السيئة التي يشكو منها الشعب، ليقام بدلها ما يحقق أمانيه، وسيكون من إجراءات التنفيذ الإطاحة بالملك، والأمير عبد الاله ولي العهد، ونوري السعيد، وأخبره بحاجة التنظيم الى تعاونه، وأن ما يهم الزعيم عبد الكريم قاسم ويعنيه في النظام الجديد هو الجيش وتقويته، وتوسيعه، وتسليحه، وتدريبه، لذلك فانه سوف يتولى أموره، أما الحكم فهو يفكر في أن يكون حسين جميل رئيسا للوزارة التي تشكل بعد نجاح الثورة.
كان رشيد مطلق، وعبد الكريم قاسم، وحسين جميل من سكنة محلة قنبر علي ببغداد، وقد نشأت بين حسين جميل، ورشيد مطلق صداقة منذ أيام المدرسة الثانوية في بغداد، وغدا رشيد مطلق وعبد الكريم قاسم صديقين منذ أيام الطفولة، واستمرت علاقتهما، وكان عبد الكريم يثق به ويطلعه على دواخل نفسه مع العلم أن رشيد مطلق لم يكن عسكريا، بل كان موظفا في دائرة الكمارك والمكوس ببغداد، وقد فصل منها في الثلاثينيات من القرن الماضي لنشاطه السياسي، ففتح بعد ذلك مقهى في رأس جسر الأحرار، وبعد الثورة كافأه عبد الكريم قاسم على نشاطه لتوثيق العلاقة بين تنظيم الضباط الأحرار والجبهة الوطنية، وكان رشيد مطلق عضوا في الحزب الوطني الديمقراطي، ويدفع اشتراكه للحزب عن طريق عبد الله عباس بصورة منتظمة
كان رد حسين جميل من منطلق حزبي، أن الحزب لا يؤيد اي انقلاب عسكري، ولا يؤيد الحكم الذي ينبثق عنه، لأن الانقلاب يذهب بأوضاع نشكو منها ولكنه يأتي أيضا بأوضاع ضد الحريات والحكم الديمقراطي، الذي يؤمن به الحزب ويعده مفتاح لكل إصلاح، و الانقلاب يأتي بحكم عسكري من الصعب جدا على القوى الشعبية ان تجد مجالات للعمل السياسي في ظله، و الحزب لا يهدف الى تكرار تجربة جماعة الأهالي عندما أيدت انقلاب بكر صدقي في عام 1936، وإذ كان هناك تنظيم للضباط الأحرار يرمي الى تغيير نظام الحكم فهذا مفيد جدا للحركة الشعبية، وعندها لا يكون الجيش أداة لقمع الحركة الشعبية، الأمر الذي يساعد على نجاحها، وأشار حسين جميل إلى أنه ليس هناك حكم عسكري يقوم بإسقاط نظام الحكم ويترك الحكم الى مدني، وإذا فعل ذلك فإنه سوف يكون بشكل ظاهري، ويبقى هو أو القائمون به تحت الستار، وأكد حسين جميل انه لا يستطيع القيام بهذا الدور، وطلب من رشيد مطلق ان يبلغ عبد الكريم قاسم شكره على ثقته به، وانه سوف لن يندم على مفاتحته له بهذا الموضوع، وأنه سينكر سماعه بهذا الموضوع، وطلب من رشيد مطلق أن يطلب من عبد الكريم قاسم إبلاغ كامـل الجـادرجي، ومـحمد حـديد بما دار من حديث بينهما، وبعد أيام عاد رشيد مطلق ونقل موافقة عبد الكريم قاسم بذلك، على أثر ذلك أخبر حسين جميل كامل الجادرجي، ومحمد حديد، بما داره بينه وبين رشيد مطلق، وطلب عبد الكريم قاسم بشأن تعاون الحزب الوطني الديمقراطي معه، وبعد المداولة وتبادل وجهات النظر اتفقوا على عدم الارتباط بالتزام معين في هذه المرحلة، وترقب التطورات المقبلة الى ان يتقدم المشروع الى درجة اقرب الى التنفيذ.لم ينقطع الاتصال بين حسين جميل وبين رشيد مطلق فكانا على اتصال مع بعضهما بعضاً.
عرضت أثناء تلك المدة، فكـرة تشكيل جبهة للعمل الموحد بين الأحزاب، فقد عقدت عدد من الاجتماعات بين الأحزاب السياسية، التي توصلت الى تـأسيس جبهة وطنية عرفت بجبهة الاتحاد الوطني، في2شباط عام1957،وتشكلت من الحزب الوطني الديمقراطي، وحزب الاستقلال، وحزب البعث، والحزب الشيوعي العراقي، وأصدرت اللجنة بيانها الأول في 9آذار عام1957، وتضمن تنحية وزارة نوري السعيد، وحل المجلس النيابي، وانتهاج سياسية مستقلة قائمة على الحياد، والخروج من حلف بغداد، وإطلاق الحريات الديمقراطية الدستورية، وإلغاء الإحكام العرفية، وإطلاق سراح المعتقلين السياسيين، وتكونت قيادة سياسية باسم اللجنة الوطنية العليا، إذ أنها كانت تضم ممثلا عن كل حزب، وكانت لهذه اللجنة الوطنية العليا لجنة تنظيم مركزية مهمتها تنفيذ قرارات اللجنة العليا، وقد تبنت هذه اللجنة مهمة الاتصال بين اللجنة العليا والقواعد المؤيدة للجبهة، وتتصل بلجنة التنظيم المركزية لجان محلية في بعض المدن، وكذلك لجان مهنية مثل لجان العمال، والأطباء والمحامين، والمهندسين، والأدباء، وأساتذة الجامعات والمعلمين، وكان حسين جميل يمثل الحزب الديمقراطي فيها، وكان عمل هذه اللجان بصورة في غاية السرية، وكان إسهام هذه اللجان مهمة جداً في عمل الجبهة الوطنية الى جانب نشاط أعضاء الأحزاب المشاركة فيها، وكان للجبهة مطبعة سرية خاصة لطبع منشوراتها، ولكن كان من المتفق عليه ان تنفذ قرارات اللجنة العليا وتمارس إعمالها عن طريق أعضاء الأحزاب المشتركة فيها والعناصر المستقلة الأخرى، أما جهاز الطبع فقد كان سريا جدا، ولا يعلم به إلا القليل.
قبل توجه حسين جميل في تموز عام 1957الى دمشق لحضور اجتماع المكتب الدائم لمؤتمر الخريجين العرب اتصل به رشيد مطلق وطلب منه أمرين. أولهما: أن يتصل بعبد الحميد السراج رئيس المكتب الثاني في الجيش السوري، ثانيهما أن يتوجه من الشام الى مصر لينقل رسالة من عبد الكريم قاسم الى الرئيس المصري جمال عبد الناصر، فيما يخص الأمر الأول نقل رسالة عبد الكريم قاسم إلى عبد الحميد السراج التي كان يرى أن ألاّ تخرج القوات السورية من الأردن بناء على طلب حكومتها، وأنه سوف يؤازر سورية بهذا الموقف، وفعلا حصل اللقاء بين حسين جميل وعبد الحميد السراج بتنسيق من فؤاد جلال رئيس المكتب الدائم لمؤتمر الخريجين العرب، واخبره برسالة عبد الكريم قاسم، ورد السراج ان الرسالة جاءت متأخرة لأن القوات السورية كانت قد انسحبت فعلا بناء على طلب الحكومة الأردنية، وبعد انتهاء اجتماعات المكتب الدائم لاتحاد المحامين العرب اتصل حسين جميل بمحمد فؤاد جلال، وأبلغه بأنه مكلف بمهمة مقابلة الرئيس المصري جمال عبد الناصر، وطلب تسهيل هذه المهمة، وقد رحب فؤاد جلال بهذا الطلب وأبلغ حسين جميل بأنه مدعو لزيارة مصر بمناسبة أعياد ثورة 23يوليو، ثم سافر حسين جميل مع محمد فؤاد جلال الى مصر، ثم التقى بالرئيس المصري جمال عبد الناصر في منزله بمنشية البكري، وتم اللقاء فيما بينهما، ونقل له رسالة عبد الكريم قاسم أن لـه تنظيـم ضـباط أحرار وهـم يعملون بثورة يستولون فيها على الحكم شبيه بثورة 23يوليو في مصر، وان الضباط الأحرار في العراق اتخذوا قرارا بأن يقتل عبد الإله ونوري السعيد، ولكن الخلاف في مصير الملك فيصل الثاني هل يقتل أم لا، إذ إن بعض الضباط يميلون الى قتل الملك، أما النقطة الثانية في الرسالة فهي هل من المحتمل ان تتدخل قوات أجنبية لقمع الحركة؟ وكان رد جمال عبد الناصر بشأن مصير الملك فيصل الثاني بأنه كان يرى عدم قتل الملك، ليس حرصا على حياة الملك، وإنما على الحركة إذ أن العراق مرتبط مع الأردن بإتحاد فدرالي وهو الاتحاد الهاشمي، رئيسه ملك العراق ونائب الرئيس ملك الأردن الملك حسين، فإذا قتل الرئيس يخشى ان يزحف الملك حسين بجيشه القوي الى العراق ويقمع الحركة، فالأسلم عدم قتل الملك، وبعد قتل نوري السعيد وعبد الاله سوف تجرى انتخابات نيابية لمجلس النواب وهو الذي يقرر إلغاء الملكية وإعلان الجمهورية.
إن موضوع قتل العائلة المالكة لم يكن موضوع بحث إطلاقا قبل 14تموز عام 1958، وان قتل العائلة المالكة في الساعات الأولى من صباح يوم 14تموز عام 1958، تم بتصرف آني من أحد الضباط، ولكن قتل الملك أو بقاءه حيا هو الذي كان موضوع بحث وموضوع خلاف في أوساط الضباط الأحرار، والمدنيين المتعاونين معهم، أما قتل نوري السعيد والأمير عبد الاله، فلم يكن موضوع خلاف بين الضباط الأحرار، وعندما سأل رشيد مطلق حسين جميل عن رأيه في احتمالات تدخل قوى أجنبية في حال قيام الثورة، وما الإجراء الذي يجب أن يتبع لإبعاد احتمالات التدخل ضد الثورة عند الاستيلاء على الحكم؟ كان جواب حسين جميل بأنه يرجح وقوع تدخل ضد نظام الحكم الجديد الذي تقيمه الثورة، وشدد على ضرورة الاقتداء بثورة 23يوليو المصرية بالإبقاء على الملك، واستحصال الإرادة ملكية منه بالوزارة التي تشكلها الثورة، وتقوم هذه الوزارة بحل مجلس النواب، وتجري انتخابات مجلس جديد كل أعضائه من مؤيدي الثورة، وفي أول اجتماع له يقرر إسقاط الملكية وإعلان الجمهورية.
كان حسين جميل معارضا لمبدأ قتل الملك، أما سبب عرضهم موضوع قتل الملك هو أن بقاء الملك حيا يجعله أداة لحركة مضادة للقضاء على النظام الجديد يرمي الى إعادته إلى العرش، أما بشأن قتل نوري السعيد والأمير والوصي عبدالاله فكان رأي حسين جميل مع الرأي الغالب هو عدم التدخل فيما يقرره الضباط الأحرار بشأنهما فما دام تنفيذ الثورة موكول إليهم فإنهم إن رأوا أن من مستلزمات نجاح الثورة قتل هذين الاثنين فليس من وجه للمعارضة في هذا الشأن.
أما النقطة الثانية فكان رأي الرئيس جمال عبد الناصر فيها إذا قامت الثورة واستولت على السلطة فلن يقع تدخل من دول الغرب أو حلف بغداد، أو المملكة الأردنية الهاشمية ضد النظام الجديد، وأنه يعتقد أن الغرب يهتم بمصالحه بالدرجة الأولى، وقلما يهتم بالصداقة والأصدقاء، فإذا تخلصوا من الملك والوصي ونوري السعيد، فسيحاول البريطانيون وغيرهم تقوية علاقاتهم مع الحكام الجدد لضمان مصالحهم. وفيما يخص موقف الرئيس المصري من الثورة فقد تعهد بتقديم كل العون والمساعدة التي تحتاج اليها الثورة في حال نجاحها، أما إذا فشلت فأنه سوف يمنح القائمين بها حق اللجوء السياسي، ثم عاد حسين جميل إلى بغداد وأخبر رشيد مطلق عّما دار بينه وبين الرئيس المصري جمال عبد الناصر وبدوره أخبر المطلق عبد الكريم قاسم بذلك، كل هذا حصل من غير أن يقابل به ألا بعد ثورة 14تموز عام1958.
مما تجدر الإشارة إليه أن عبد الكريم قاسم قد كلف حسين جميل بهذه المهمة من غير علم اللجنة العليا لتنظيم الضباط الأحرار، وكلف أيضا محمد حديد بالمهمة نفسها دون علم حسين جميل واللجنة العليا، ولعل مدعاة ذلك أن عبد الكريم قاسم، كان يرمي إلى التأكيد لعبد الناصر أنه رئيس اللجنة العليا للضباط الأحرار، وصاحب النفوذ القوي في الأوساط العسكرية والسياسية، ويبدو أن سبب اتصالات التي أجراها تنظيم الضباط الأحرار مع الجمهورية العربية المتحدة عن طريق ممثلي حزبي الاستقلال العراقي والوطني الديمقراطي، هو معرفة موقف الجمهورية العربية المتحدة من الثورة ومقدار المعونة والدعم اللذين قد تقدمها الجمهورية العربية المتحدة للعراق في حال نجاح الثورة.
توالت الاتصالات بين عبد الكريم قاسم وأقطاب الحزب الوطني حتى الأيام القليلة لإعلان الثورة، وبدا واضحا الميل إلى التعاون مع تنظيم الضباط الأحرار، وكان أقطاب الحزب الوطني ولاسيما رئيسه كامل الجادرجي على علم بموعد تنفيذ الثورة صبيحة يوم 14 تموز عام 1958، فقد احتل دار الإذاعة العراقية في الساعة السادسة صباحا وأعلن عن سقـوط النظام الملكي وقيام الجمهورية العراقية وحكومة يرأسها الزعيم عبد الكريم قاسم رئيس للوزراء. ففي 11تموز عام 1958، أرسل عبد الكريم قاسم رشيد مطلق الى دار كامل الجادرجي وكان معه حسين جميل، ومحمد صديق شنشل، وفائق السامرائي وغيرهم، وأبلغ رشيد مطلق كامل الجادرجي رسالة عبد الكريم قاسم وهي أن اليوم الموعود سيكون يوم 14 تموز وأنه اختير وزيرا للاقتصاد فرد الجادرجي لا انا ولا محمد حديد، ولا حسين جميل سنشترك في الوزارة لكننا نؤيد الثورة، وحاول الحاضرون الاستفهام عن فحوى الرسالة ولكن كامل الجادرجي لم يفصح صراحة، إذ طلب من حسين جميل تهيأ لكتابة المذكرات، لان إحداثا مهمة ستقع في البلاد، وحاول منع سفر جعفر البدر للبصرة، ولكن البدر أصر على السفر لإشغاله الطارئة، وطلب من هديب الحاج حمود الحضور إلى بغداد وأبلغه أن الإحداث التي ستقع أوسع مما تتخيله مخيلتك، كان لحسين جميل الدور الفاعل في المفاوضات مع الضباط الأحرار قبل الثورة إلى جانب كامل الجادرجي، وفائق السامرائي، وربما كان سبب رفض كامل الجادرجي لمنصب وزير الاقتصاد؛ لأنه يرفض العمل في حكومة يشرف عليها الجيش، وربما امتناع حسين جميل عن المشاركة تضامنا مع الجادرجي.
حرر حسين جميل مقالاً نشره في حزيران عام 1958، أي قبل الثورة بشهر، في مجلة القضاء، تضمن إشارات الى القيام بثورة لتغيير الواقع إذ أكد أن الدعوة إلى الثورة حق مقدس تمارسه الشعوب عندما تتعدى السلطة على حقوقها الطبيعية، ولا يستطيع الحصول عليها بوساطة الطرائق السلمية، والتجربة الديمقراطية بصورتها السلمية عاجزة عن تحقيق التغييرات المطلوبة، إذ أن الظروف أحيانا تستدعي استخدام القوة للوصول الى الغاية المنشودة، وأشار الى ديباجة الإعلان العالمي لحقوق الإنسان إذ جاء فيها:"من الضروري ان يتولى القانون حماية حقوق الإنسان لكي لا يضطر المرء آخر الأمر الى التمرد على الاستبداد والظلم"، وأن نظام الحكم عندما يغلق السبيل امام الشعب للتغيير بالأسلوب الدستوري الديمقراطي الهادئ عن طريق الناخبين وتثني اختيار النواب بإرادتهم تغدو الثورة ضرورة لحل التأزم التناقضي الذي تسببه الهوة الكبيرة بين الأوضاع القانونية، وبين التطور في الحقائق الاقتصادية والاجتماعية، وذلك عندما تتوقف القوالب القانونية عن التطور بالسرعة التي تتطور بها الحقيقة الاقتصادية، وتنفرج هوة بين النص القانوني والواقع يؤدي الى تأزم تحله الثورة لتعيد الروابط القانونية متفقة مع الحقيقة الاقتصادية، وبالنتيجة فإن الوصول الى الحكم عن طريق الثورة ضرورة تقتضيها الظروف الاستثنائية، فضلا عن مطالبته إلى إنهاء الأوضاع الشاذة، وتصفية آثارها والقضاء على عوامل التخلف والانحلال في البلاد، والإفراج عن المحكومين في القضايا السياسية، إذ إن ليس من المصلحة في شيء أن يتولى اليأس نفوس المواطنين في عودة الأمور الى نصابها والحياة الطبيعية إلى مجراها، وأحكام الدستور المتصلة بحقوق الشعب إلى مكانتها من الاحترام والتطبيق.
أكد حسين جميل أن من الأسباب التي أدت الى قيام ثورة 14تموز عام 1958، هي ثلاثة عوامل اقتصادية، واجتماعية، وسياسية، فبالنسبة الى الاقتصاد العراقي فإنه كان مسخرا لخدمة الاستعمار البريطاني، فالنفط منح إلى الشركات الأجنبية حق استخراج واستثمار النفط، وكانت اغلب الامتيازات في صالح البريطانيين غير مكترثة لمصالح الشعب العراقي، علاوة على ذلك استغلال بريطانيا لموارد العراق الأولية، وكذلك يورد لها الغذاء بأسعار رخيصة ويزودها بالوقود، ثم أنه سوق جيد لمنتجاتها الصناعية، وقد استفادت أيضا من الموقع الجغرافي المتميز للعراق وبالنتيجة فإن العراق أصبح مسخرا لخدمة المصالح البريطانية، وكان حسين جميل يرى أن بريطانيا اختارت النظام الملكي في العراق لكي تستطيع تحقيق مصالحها إذ أن هذه المصالح عن طريق أسرة مالكة معينة ترتبط مصالحها بالحكومة البريطانية أكثر مما يحفظها النظام الجمهوري لا تأتمن على مصالحها عندما يمارس الشعب حقوقه في السيادة.
اما بالنسبة للعامل الاجتماعي فأشار حسين جميل أن السياسية البريطانية ولدت ظهور طبقات في المجتمع على حساب طبقات أخرى، إذ خلق الاستعمار طبقة إقطاعية رأسمالية عندما أعطي لهؤلاء مساحات واسعة من الأراضي، تعود ملكيتها الى الدولة وبدلا من أن تكون ملكا لعشيرة غدت لشخص رئيسها وسجلت باسمه، إذ أدى ذلك إلى غبن عدد كبير من عامة الشعب، ولم تكن هناك أية ضمانات تقف بوجه استغلال الملاكين الكبار للفلاحين العاملين فيها، لذلك كان هؤلاء عرضة للاستغلال من الملاكين الكبار، وظهر الى جانب هؤلاء كبار الملاكين، وكبار التجار، وكبار أرباب المصانع، وغدا لهؤلاء نفوذا اجتماعيا، واقتصاديا، وسياسيا كما زادوا وعيا طبقيا، علاوة على ذلك الطبقة الوسطى التي تتكون من أصحاب الحرف، والدكاكين، والمثقفين، والموظفين، وغيرهم، فضلا عن الطبقة الثالثة وهي طبقة الفلاحين، والعمال، إذ كان هؤلاء يعيشون أوضاعاً مزرية، نتيجة لاستغلال الطبقة الإقطاعية لهم.
أما العامل السياسي فيذهب حسين جميل في ذلك ابتداء من سياسة المراسيم التي انتهجتها حكومة نوري السعيد وما ترتب على تلك السياسة من تعطيل الأحزاب السياسية، وإغلاق الصحف، ومطاردة قادة الحركة الوطنية مرورا بتوقيع حلف بغداد وما ترتب عليه من تحقيق مصالح لصالح القوى الاستعمارية، فضلا عن ذلك موقف الحكومة من العدوان الثلاثي على مصر، ومن ثم فهو كان يرى أن الطبقة الحاكمة في العراق، لم تستطع أن تدرك أن المجتمع العراقي كان قد تحول، على الرغم من محاولتها المحافظة على الأوضاع فيه، واستخدمت السلطة الحاكمة القمع لثني انتقال الحكم الى الشعب عن طريق ممثليه الحقيقيين الذين يعملون لصالحه، ووصل حسين جميل إلى أن ثورة 14تموز عام 1958 كانت انطلاقا للقوى الاجتماعية المتطورة اقتصاديا، التي حجمها النظام القديم من أن تشغل المركز الذي يؤهلها له ذلك التطور الاقتصادي، وبذلك فإن كل هذه العوامل جميعها تفاعلت فيما بينها، و أدت في نهاية الأمر إلى اندلاع ثورة 14 تموز عام 1958.
عن رسالة (حسين جميل1954 ـــ 1968)