أسرار من حياة عبدالوهاب البياتي.. سيرة ينابيع الشمس والثورة

أسرار من حياة عبدالوهاب البياتي.. سيرة ينابيع الشمس والثورة

محمد دكروب
عام وبعض العام، في أواسط الخمسينات، عاش عبدالوهاب البياتي في بيروت، بما يشبه البؤس، مبتعدا عن جحيم العراق الذي لا يكاد يتخلص من جحيم إلا ليقع في سعير جحيم آخر.
أيام البؤس هذه في بيروت، أسست لصداقة دائمة مع البياتي علي مدي حياته المضطربة.. يهاجر البياتي بين مختلف المدن والعواصم وفي مختلف القارات، وكلما كانت تتاح لنا فرصة اللقاء في بلد ما، نشعر أن الصداقة تحتفظ بنضارة لا تزول.

عندما جاءنا البياتي، في ذلك العام، تاركا جحيم الوضع السياسي القامع والمتقلب في العراق، كان يحمل معه مجد ديوانه الثاني والأشهر <أباريق مهشمة> ويحمل انتماءه الواضح والصريح جدا، في ذلك الزمان، إلي تيار اليسار العراقي والعربي اجمالا، وبما يشبه الانتماء إلي الحزب الشيوعي العراقي والنشاط السياسي في اطاره.. فكان من البديهي أن نسعي لتأمين بعض متطلبات تواجده في بيروت.
كان يسكن في غرفة صغيرة ضيقة، كل ما فيها من <أثاث> يمكن أن يضعه البياتي في حقيبة ويرحل في أية لحظة يضطر فيها الي الرحيل.
في ذلك الزمان، كان عندنا في بيروت أسرة أدبية شبابية سمت نفسها <أسرة الجبل الملهم> وكان في أعضائها الكتاب الشبان في ذلك الحين: الدكتور علي سعد، وأحمد أبو سعد، ومحمد عيثاني، ومصطفي محمود، ومحمد دكروب، وآخرون.. وكان يشجع الاسرة ويدعم نشاطاتها ويحضر اجتماعاتها كل من: العلامة الشيخ عبدالله العلايلي، والمفكر حسين مروة، والباحث الاب طانيوس منعم.
.. فصار عبدالوهاب البياتي واحدا من الأسرة، ظريفا، وحزينا، ونشيطا.
وكان عندنا مجلة ثقافية شهرية اسمها <الثقافة الوطنية> تحمل جديد الفكر السياسي العربي، والادب الحديث، ولها انتشار واسع في البلاد العربية.. فصار البياتي، عمليا، واحدا من أسرة تحريرها، وذلك ليس فقط من حيث انه ينشر فيها قصائده الجديدة، بل أيضا من حيث الاسهام في التحرير: سواء في اقتراح المواد، أم في الكتابة في أبواب المجلة والاسهام في المتابعات الثقافية وعروض الكتب الجديدة باسمه الصريح حينا، أو بالحرفين الاولين من اسمه <ع. ب> غالبا، أم بدون توقيع، وأحيانا كنا نضع اسم <الثقافة الوطنية> تحت المقالة التي يكتبها.
وهكذا، فان مجلة <الثقافة الوطنية> بالنسبة للبياتي لم تكن فقط المكان الاثير لنشر أشعاره في ذلك الزمان، بل كان يعتبر نفسه واحدا من المسئولين عن تطور المجلة وازدهارها، وكان يعمل في هذا السبيل، سواء كان في بيروت أم دمشق أم القاهرة أم بغداد أم في أي مدينة أخري.. وكان يحرص علي أن يزود المجلة بمواد يطلبها هو، وبالتوافق مع المجلة، من كتاب آخرين حيث يكون وغالبا ما كان يتولي هو ارسالها إلينا في بيروت.
ومن يراجع اعداد المجلة العائدة لتلك الفترة، سوف يكتشف أن أكثر قصائد ديوانيه <أشعار في المنفي> و>المجد للأطفال والزيتون> هي تلك التي نشرها في <الثقافة الوطنية> تحديدا بين 1954 و.1959
رسائله اليٌ، خلال تلك الاعوام، هي من الوثائق الثقافية والانسانية العزيزة جدا علي نفسي. كان يحرص في هذه الرسائل علي أن يكتب رأيه في بعض المواد المنشورة في المجلة، ورأيه في التكوين العام لهذا العدد أو ذاك.. ولعل أهم ما كانت تتضمنه الرسائل، تلك الاشارات الموجزة جدا بصدد ما هو جديد، في البنية والايقاع أو الموقف الذي تحمله هذه القصيدة أو تلك من قصائده.. وفي الرسائل عديد من الاحداث المهمة التي لم يشر اليها في سيرته الشعرية المنشورة.. وقد أزعم:أن أوائل شرارات المعركة البياتية مع بدر شاكر السياب، ثم الاقذاع في توصيف سلوكاته، انما تظهر في بعض هذه الرسائل.
ولعل أكثر ما أحبه في رسائله هذه،كونها تعبر ×× بالملموس وليس بالكلام ×× عن رسولية البياتي في جهوده التي كان يبذلها ×× في كل مكان حل به ×× لمساعدة <الثقافة الوطنية> ومدها بالمادة الثقافية منه هو، وعبره من مختلف الكتاب الآخرين.. فكان في تلك المرحلة، عنصرا أساسيا ×× متطوعا متجولا ×× في هيئة تحرير المجلة.
كان يري في <الثقافة الوطنية> مجلته، وحاملة تطلعاته، وموصلة صوته الي الناس، اضافة إلي كونها مجلة للحداثة العربية الكفاحية، في الفكر والابداع، وهو <صوت الفقراء> حسب التعبير الاثير للبياتي.
وهذا سلوك متميز ×× فكريا وأخلاقيا ×× ولا يمكن أن ينسي.

* * *

في ثلاث فقرات، من هذا الحديث، سأورد ثلاثة معالم للبياتي في هذه الرسائل <التي تصل الي 39 رسالة، أكثرها في أكثر من صفحة واحدة>. ولابد لي من عودة متأنية، مستقبلا، للقيام بقراءة دراسية لها، تضيف إلي سيرة البياتي بعض ما أغفله، أو غفل عنه، لدي كتابته سيرته.
الفقرة الاولي عن جهوده في دعم <الثقافة الوطنية> ومدها بالمواد، سواء كان في بغداد أم القاهرة، أم دمشق:

في بغداد:
<أخبرت جميع الاخوان، في أسرة مجلة <الثقافة الجديدة> بلزوم مد <الثقافة الوطنية> بما لديهم من دراسات ومقالات، وقد أبدي الجميع استعدادهم>.

أيضا: <هذا مقال كتبه الصديق يوسف العاني، سكرتير فرقة المسرح الحديث، والمقال هذا كدفعة أولي في المقالات التي وعدنا بها الاخوان، وهناك مقالات أخري للاخوان: إبراهيم كبة، الدكتور صلاح خالص، شاكر خصباك، الدكتور صفاء الحافظ، وعبدالملك نوري، سوف ارسلها لك تباعا>... وبالفعل فان أكثر هذه المقالات وصلت تباعا، ونشرت تباعا.

ويهاجر عبدالوهاب الي القاهرة، ويواصل من هناك جهوده ورسائله:

في القاهرة في 18/8/1957: <لقد كنت ممثلا أمينا <للثقافة الوطنية> هنا، وقد كتب عن أعدادها الصادرة منذ أن جئت الشيء الكثير في أغلب الصحف وخاصة <المساء> و>الجمهورية> ولقد حتمت علي الاخوان واجبا أن يكتبوا عن كل عدد جديد يصدر ×× وطي رسالتي هذه المواد التالية.....>.
وكان المغلف يضم مقالات لكتاب مصريين معروفين، وكتاب متواجدين في مصر.. وقد وجدت هذه المواد طريقها الي النشر في أعداد المجلة.. اضافة إلي هذا كان البياتي يزودنا بالصفحات الثقافية للجرائد ليتاح لنا كتابة تغطية الاخبار الثقافية للبلاد العربية في أبواب المتابعات..
دمشق في 10/12/1957: <ها أنا ارسل اليك صفحة جريدة <النور> الادبية، متمنيا أن تكون القصاصات السابقة قد وصلت اليك، وبعد أيام ارسل لك ما تحصل لي من مقالات للاخوان هنا>.
هذه فقط عينات خاصة بالفقرة الاولي من هذا الحديث. وهي تدل بوضوح علي رسولية عبدالوهاب البياتي بالنسبة لمجلة <الثقافة الوطنية>، ولحركة الحداثة الثقافية والادبية العربية التي كانت <الثقافة الوطنية> توليها اهتماما استثنائيا.

* * *

في الفقرة الثانية من هذا الحديث اشارات الي خاصية من خصائص عبدالوهاب البياتي تميز بها منذ ذلك الزمان وحتي اواخر حياته.. هذه الخاصية هي: افتتان البياتي بشعره وبنفسه الي حدود غير معقولة أحيانا..! ونحن، في هذه الفقرة نحاول أن نستعير من البياتي نفسه طريقته الساخرة اللاذعة في الحديث عن الشعراء الآخرين.. ولكن الفرق اننا سنستخدم هنا كلمات البياتي نفسه عن نفسه، مع تدخلات منا بسيطة، فلا نكون قد تجنينا علي هذا الصديق الكبير، بل نكون موضوعيين في الكشف عن هذا الجانب الهام من شخصية البياتي، والذي يفسر الكثير والكثير من سخرياته بمختلف الشعراء الآخرين الكبار منهم وغير الكبار.. وكلمة <الافتتان> بالنفس استعرناها من نجيب محفوظ عبر البياتي بالذات.
ففي سيرته الشعرية <ينابيع الشمس> يروي البياتي أن نجيب محفوظ أهداه رواية <الشحاذ> وكتب له هذا الاهداء الظريف: <الي البياتي المفتون بعبقريته>.. ويعلق البياتي: <وكان محفوظ صادقا كل الصدق في أهدائه هذا> <البياتي: ينابيع الشمس/ السيرة الشعرية ×× دار الفرقد، ص. 7>. ونحن بدورنا لن نزيد علي هذه الصفة شيئا، بل نترك الكلام للبياتي:
في القاهرة: <.. ومازال الاخوان جميعا في القاهرة ×× بل الشعب المصري ×× يحتفون بي، وهم سعداء جدا لوجودي بينهم>!

في بغداد: <ديوان <المجد للاطفال والزيتون> يصدر بعد أيام في القاهرة.. واني لاحسدك لانك ستراه وتطالعه وتتمتع به دون أن اراه أنا <ثم يضيف:> علي كل حال فاني اعتقد أن صدوره في هذه اللحظات الحرجة الحاسمة في حياتنا جاء انتصارا لشعوبنا العربية وتحية لها ولمواقفها البطولية الرائعة في هذه الفترة التاريخية>!

في بغداد أيضا يقول: <... ومن خلال الرسائل الواردة الي من القاهرة <يقول البياتي:> شعرت أن أدباء مصر علي الاطلاق متحمسون للديوان حماسا منقطع النظير، وان فرحتهم به لا تقل عن فرحهم بأي حدث في حياتنا الراهنة>!

رسالة من دمشق بتاريخ 26/1/1958، فيها فقرة لها عدة دلالات.. منها أن عنوانها الاصلي كان: <رسالة إلي حزبي> ×× والبياتي، وفي وصفه لهذه القصيدة التي تمجد الانتماء إلي جماعة، يصل الي ذروة الافتتان بالذات.. علي أن القصيدة هذه نشرت في <الثقافة الوطنية> تحت عنوان <رسالة الي شعبي> وهي مؤلفة من 12 مقطعا، فنشرها البياتي لاحقا في ديوانه تحت عنوان <12 أغنية إلي العراق>، وعندما يعود القاريء الآن الي القصيدة يلمس بوضوح انها موجهة الي حزب هو فصيل طليعي من الشعب.. ولعلي أرجح: اننا نحن، بالتوافق معه، قد غيرنا العنوان الاصلي، لأسباب أمنية بالنسبة للبياتي.. علي كل حال ليس هذا هو موضوعنا، بل الموضوع هو هذا النص في الرسالة:
×× <اكتب اليك هذه الرسالة بعد انتهائي من قصيدة طويلة كتبتها بعنوان <رسالة الي حزبي> وقد وضعت في كل حرف من حروفها فلذة من روحي.. لن اتحدث اليك عنها، وأنا اتركها اليك لتقرأها أنت>.
ومع هذا فهو يتحدث عنها وعن إعجابه بها، بالكلمات المفتونة التالية:>
×× <... أنا شخصيا أعتقد انني قد استعدت فيها <عافيتي الشعرية> ان صح التعبير، ففيها تحفز وثورة وعفوية. صدقني اذا قلت لك انني أنا شخصيا اعتقد انني قد تأثرت بها وأنا اكتبها.. وعلي كل حال اتمني أن يسامحني الله لانني استرسلت في مدح عمل من أعمالي دون أن أترك لغيري حرية ابداء الرأي.. انني اشعر بالخجل.. وهذا يكفي.. ولكن ما العمل اذا كنا لا نملك غير أن نحب....>

في رسالة أخري من دمشق، يتحدث عن ثلاث قصائد له نشرتها <الثقافة الوطنية> فيثني جدا علي اخراجها الجميل، ثم ينتقل الي القول:
×× <.... وأقول لك، مع تواضعي الجم وخجلي الشديد: ان هذه القصائد أحدثت أثرا طيبا جدا لدي كل الاوساط الادبية وجاءت بمثابة رد غير مباشر علي كل التفاهات التي يسمونها شعرا وينشرونها في المجلات.. ذلك كان شعور كل من قرأ قصائدي الثلاث هذه، أعود مرة أخري فأكرر اليك اعتذاري لحديثي عن نفسي، ان بعض من قرأوها قالوا لي بأنها أحسن ما كتبت، وأنا مسرور لهذا القول لأن هذه العملية قد أصبحت تتكرر كلما نشرت قصائد جديدة>.
وكجزء من هذا الافتتان بالذات، كان البياتي ×× في رسائله ×× يستثير نخوتي في سبيل أن أولي اهتماما جماليا خاصا بالاخراج الفني لقصائده في مجلة <الثقافة الوطنية> فيمتدح اهتمامي وذوقي الفني ×× في رسائله العائدة الي العام 1955، هذه الفقرات:
×× <اشكرك علي اهتمامك بقصائدي الاخيرة <رسالة حب إلي زوجتي ×× أغنية خضراء الي سوريا ×× بريد انقرة بغداد> فقد جاءت آية في الاخراج والجمال>.. ×× وفي رسالة أخري: <اخراج قصيدتي <ثلاث أغنيات إلي أطفال وارسو> كان رائعا، اعجب جميع الاخوان..> ×× وأيضا: <قصيدة <أغنية انتصار إلي مراكش وتونس والجزائر> اعجبني كثيرا اخراجها علي هذا الشكل الرائع فإشكرك من أعماق قلبي...>
.. فهل كنت انا أيضا استزيد من المدائح لذوقي التشكيلي، عندما كنت ازيد في جماليات اخراج قصائد البياتي؟.. أم أن البياتي الذكي كان يعرف، مسبقا، النتائج الجمالية لمدائحه؟
ويدخل في هذا السياق، حرص البياتي علي أعلام القاريء العربي بمجريات انتشار أشعاره في العالم، فكان ينهي بعض رسائله بأخبار مصاغة، صحفيا، للنشر.. فأدرجها في باب <أخبار ثقافية> بدون أي تعب في الصياغة. ففي رسالتين منه، اليٌ تعودان الي العام 1955، هذان الخبران:

<قامت الشاعرة التشكيلية <بيبلوفا> زوجة الشاعر التشيكي الكبير <بيبل> الذي مات منتحرا قبل بضع سنوات، بترجمة قصيدة <بورسعيد> للشاعر العراقي عبدالوهاب البياتي الي اللغة التشكيلية ونشرتها في جريدة <رودي برافو> وهي من أوسع الجرائد انتشارا في تشيكوسلوفاكيا>.
ترجمت قصيدة <بطاقة بريد إلي دمشق> إلي اللغة الروسية ونشرتها مجلة <أوغنيوك> السوفياتية في عددها الخاص الذي اصدرته بمناسبة افتتاح مهرجان الشباب العالمي في موسكو>.
.. وبالتأكيد، فان اكثر من خدم البياتي وشعر البياتي، إعلاميا، هو البياتي نفسه!
ولعلي أري، في عمق هذا الافتتان بالذات وبأصداء قصائده وأخبار ترجماتها، تعبيرا عن واقع وحقيقة.
وأشهد أننا في ذلك الزمان، كنا نتغني بأشعار البياتي، ونحفظ بعضها غيبا، ونرددها، ليس فقط كرمي للمعني الذي تحمله والموقف الذي تعلنه، بل بالاخص للجديد الشعري الذي تقترحه وتشكل هي إحدي أهم بشائرها.

* * *

لغيري أن يتحدث عن الجوانب التقنية وخصائص الحداثة في شعر البياتي، وعن الجديد الذي حمله وشكل أفقا مشرعا للتحولات في الشعر العربي الحديث.. فهو، كما أري، أستخدم العديد من الاشكال وابتدع العديد من الاشكال، ليقول جديده عبر هذا الجديد.
ولكني احب أن أورد، هنا فقرتين في رسالتين له تكشفان جانبا في اللعب الفني في العديد من قصائد الرواد في ذلك الزمان.

في رسالة منه إلي، عام 1958 حديث عن قصيدته <القتلة> وشكل كتابتها يقول:
×× <شكل القصيدة ×× كلاسيكي ×× أي أنه ملتزم بقافية واحدة وبعدد التفعيلات المتساوية في كل بيت، ولكني كتبتها علي هذه الشاكلة <أي: شكل قصائد التفعيلة، والتقطيع غير المتساوي الاسطر> لاظهار القوة في مقاطع الأبيات، ولإظهار المواقف التي تنتهي فيها الجملة، أي: أن تقطيع أبيات القصيدة تم لأسباب فنية..>

وفي رسالة أخري، تعود إلي العام 1958 حديث عن قصيدة <سلام علي غوركي> يقول: <... والقصيدة كما تراها كلاسيكية النهج <أي ذات قافية واحدة وتفعيلات متساوية> ولكني أثرت تقطيعها أيضا مؤثرا ابراز المعاني ونهايات الجمل والصور>.
والظريف أنه يورد في الرسالة بعض أبيات من القصيدة مكتوبة كلاسيكيا:
منازل الأحباب في الدرب
مضيئة، فانزل علي الرحب
بحارة الفولغا وعمال مد (م)
ريد يغنون من القلب
أما في الاوراق التي للطبع، فالقصيدة مكتوبة بالشكل المقطع،
الحديث:
منازل الأحباب في الدربً
مضيئة،
فأنزل علي الرحبً
بحٌارة الفولغا
وعمال مدريد
يغنٌو من القلبً
.. مما يجعل تأثيرات الأبيات تختلف باختلاف تقطيع الكلمات وعدد التفعيلات.
* * *

بعض رسائل البياتي، في بغداد، في العام 1956 كانت تحمل شكوي خفية من الوضع، والضيق الذي يعاني، وكبت الحرية وحاجته الي التنفس في مناخ آخر...
ويبدو أنني بعثت اليه برسالة في هذا الصدد، لا أتذكر مضمونها، ولكن رسالة من عبدالوهاب، تشير إلي تلك الرسالة، وإلي عمق ما كان يربطنا من علاقات أشمل بكثير من أن تقتصر علي العلاقة الثقافية، يقول البياتي:
×× <شعرت بفخر وثقة واعتزاز وأنا اقرأ هذه العبارة في رسالتك:
<نحن ننتظرك، ونرحب بك منذ الآن، ونفتح أذرعنا وقلوبنا وبيوتنا>.. وهل بعد هذا شيء أعظم وأنبل وأكبر وأسمي؟
إنني احترق هنا، ولعل قصيدة <يوميات عربي في إسرائيل> التي كتبتها بدمي تنطبق علي حالنا، هنا وهناك، ففيها خير تعبير عن وضعنا الحالي>..
.. واستطاع البياتي في ذلك العام، أن يغادر بغداد إلي دمشق، ثم إلي بيروت، ثم الي القاهرة.. وكان من نتاج هذه الفترة ديوان <أشعار في المنفي>.1957
* * *

هذه، بالطبع، مجرد اشارات الي بعض فقرات من هذه الرسائل التي تتطلب وقفات أكثر تأنيا، ودراسة أكثر رحابة واتساعا.. ففي الرسائل فقرات مفصلة أحيانا، حول بعض قصائد البياتي، وبالأخص فيما يتعلق بمحمول هذه القصائد <وهذا موضوع مقال آخر>.
لقد نوع البياتي في استخداماته وأشكاله، ووصل إلي استخدام عدة أشكال في القصيدة الواحدة.. ولكن شيئا ما ظل يربط دائما بين البياتي والناس القراء.
فظل محافظا علي موقعه في الشعر العربي الحديث، مدافعا عنه، مقاتلا في سبيله، وموسعا في قاعدته، وممعنا في تطوير أدواته وتنويع مناخاته الشعرية وانحناء مجالاتها: في أقاليم الدنيا ومعترك الحياة، وأقاليم الاسطورة، والانجذابات الصوفية والاستخدامات السوريالية التي مهما أمعن في غرابتها ولا معقولية العلاقات التي بين الكلمات والاشياء والرؤي، تظل مشدودة الي الجذر، الارض، واقع الناس والصراع، حيث من هذه الارض ومن ناسها تتفجر، حسب قول البياتي ينابيع الشمس والثورة.

من كتاب (وجوه) للراحل محمد دكروب