قصيدة غير منشورة لعبد الوهاب البياتـــــي

قصيدة غير منشورة لعبد الوهاب البياتـــــي

منصف الوهايبي
كاتب تونسي
بدأت صلتي بشعر عبد الوهاب البياتي منذ أواسط الستينيات من القرن الماضي، وأنا تلميذ في المدرسة الثانويّة. وكان الفضل في ذلك لمثقّف تونسي قيرواني هو أحمد القديدي، الذي بدأ شاعرا ملتزما، وله ديوان «سنابل الحريّة»؛ ثمّ جرفته السياسة بعيدا، فطلّق الشعر ثلاثا.

وكان سي أحمد ـ وهو يكبرني بسنوات قليلة ـ أحد هؤلاء الذين أدين لهم بمعرفة الشعر العراقي الحديث في نماذجه الرائدة (السيّاب ونازك الملائكة والبياتي…) ثمّ التقيت البياتي عام 1972 في تونس، في مؤتمر الأدباء العرب، وكان هناك الجواهري ويوسف الصائغ وسامي مهدي ومحمود درويش… وكنت مأخوذا بالشعر النابع من رؤية اشتراكية أو قومية متفائلة، نتلمّس فيها مقاربة جديدة للغة والأشياء، وجنوحا إلى استخدام الأسطورة والرموز المشتركة والألفاظ المأنوسة، في نسيج شعري يتوسم المضمر والممكن في اللغة، من دون أن يحول المعوّق الأيديولوجي من تطورها، أو جعلت من اللغة أداة لا موضوعا، أو يلزم الشعر ما لا يلزمه، وما لا ينبع من خصوصيته، أو يأخذه بصرامة ما نخاله يؤخذ بها؛ حتى لا تتحوّل القصيدة إلى صدفة أفكار ومعان جاهزة، وتستنفد رموزها وصورها ومجازاتها، سرّها ونكهتها بحكم تواترها وتداولها وثباتها.
وفي لقاء شعري معه، ضمّ شعراء تونسيّين شبّانا (محمّد الغزي والطيب الرياحي…) قرأت قصيدة في رثاء عبد الخالق محجوب (رفضت مجلّة «الفكر» التونسيّة نشرها). ومن يومها تعزّزت صلتي به، وأخذت أراسله، وكان هو يردّ على رسائلي المتقطّعة بانتظام عجيب. ثمّ التقيته في تونس وبغداد مرّات أخرى، وخارجها في السويد في ملتقى الشعر العربي السويدي عام 1984، مع سلمى الخضراء الجيوسي وعبد اللطيف اللعبي ومحمد الغزي وعبد العزيز قاسم وحسونة المصباحي وكمال أبو ديب… وكتبت مقالين عن شعره، نشرتهما مجلّة «الآداب»البيروتيّة. وعام 1994 كنت أشارك في مهرجان جرش في عمّان، كان البياتي معنا طوال الوقت، ولا أزال أحتفظ بذكريات لطيفة معه، وهو يغمز بشعراء العرب المعروفين وعليهم، مخترعا نوادر وحكايات طريفة. ولم يكن ذلك بالمستغرب منه، وأذكر أن مستشرقة سويديّة سألته «من هو الشاعر العربي الذي يراه جديرا بجائزة نوبل»، وكان جوابه الذي أضحكنا كثيرا: «هناك شاعر واحد، كان يمكن أن يحصل على هذه الجائزة؛ لكنّه للأسف، توفي منذ أكثر من ألف سنة: المتنبّي».
في عمّان أهداني البياتي كتابه» سيرة ذاتيّة: القيثارة والذاكرة»(منشورات البزاز طبعة 1/ 1994). وهو حوار أجراه معه حامد أبو أحمد عام 1989 في مدريد. هذه الأيّام وأنا أعدّ لدرس عن البياتي، أخذت أنقّب في فوضى كتبي عن بعض أعماله؛ فعثرت على هذا الكتاب الذي لم أقرأه. والحقّ أنا كثيرا ما أعود من سفري بكتب كثيرة، أركنها في مكتبتي؛ على أن أعود إليها في وقت لاحق. ويحدث أن أنسى بعضها. وجدت في هذا الكتاب، ورقة مطويّة، كاد لونها يبهت؛ وبها قصيدة «عموديّة»للبياتي ـ على قلق هذا المصطلح ـ عنوانها» المعراج الأرضي». وتذكّرت أن البياتي قرأها علينا في سهرة في الفندق في عمّان، ثمّ طلب منّي أن أنشرها في تونس. ومع أنّي التقيت البياتي في تونس عام 1997 وهي عاصمة للثقافة العربيّة، وجلست إليه، فلا أنا تذكّرت قصيدته، ولا هو سألني عنها. ولا أدري ما إذا كانت هذه القصيدة قد نشرت في مجموعة من مجاميعه، أو في صحيفة أو مجلّة. وقد سألت العارفين بشعر البياتي، وأشهرهم الشاعر العراقي المعروف سامي مهدي؛ فكتب إليّ أنّه لا يتذكّر هذه القصيدة.
هي قصيدة البيت كما أحبّ أن أسمّيها. ذلك أن عمود الشعر هو نظريّة الشعر عند العرب، وما جرت عليه القصيدة الأنموذج من أفانين القول وأساليبه، مثل الإصابة في الوصف والمقاربة في التشبيه وما إليها… وهذه القصيدة مقفّاة. والبياتي شاعر يحتفي أكثر ممّا ينبغي بالقافية حتى في شعر التفعيلة الذي كان من روّاده. وهو يلحّ على وظيفتها في تحقيق التناسب والتناغم المطلوبين في الشعر. والقافية تنطوي على حركتين متناقضتين تقوم عليهما ميزتها الموسيقية هما: التكرّر والوقف، «فتوالي القوافي يعني تساوقا لمحطّات صوتية متشابهة عبر أزمنة متساوية، كأنّ القافية بمعنى آخر ثبات بتكرّر. وفي هذا يكمن دورها الإيقاعي المنظم، فالقافية أداة تعيد الإيقاع الأصلي للوزن، ذلك الإيقاع الذي يفترض ثباته كجزء من الشكل الشعري».
وهي في تقدير البعض أشبه بمطرقة الآلة التي تصكّ النقود «ترتفع وتهبط في أزمنة متساوية، وكلما هبطت دفعت البيت فأضفت عليه صورتها النهائيّة، ولولا القافية لكان ترجرج مدّة المقاطع سبيلا إلى ترجرج البيت نفسه». ويضيف آخرون أن القافية تدخل على انسجام القصيدة الغامض نظاما وتغمره بالنور»، فإذا نحن نستشفّ في القصيدة تقابلا بين الأجزاء، وارتباطا متبادلا، كأنّ قوة جاذبة قد شدّت الأبيات بعضها إلى بعض، وجعلتها تدور جميعا في فلك واحد، على نظام في الحركات وعلى تناسق يذكر بما كان الأقدمون يسمونه موسيقى الأفلاك». على أنّه من اللافت حقّا أن يعود البياتي إلى هذا «الشكل العمودي» قبيل وفاته بخمس سنوات، فيما كان الشعر العربي في نماذج أخرى لافتة (أدونيس ـ سعدي يوسف ـ حسب الشيخ جعفر…) يسعى إلى التحرّر من القافية، بحثا عن الإيقاع الذي يوائم بين المؤلّفات الصوتيّة والمؤلّفات الدلاليّة.
لعلّ البياتي عاد إلى هذا الأسلوب الذي عرف به في ديوانيه الأوّلين «ملائكة وشياطين»و»أباريق مهشّمة» على أنّه ضرب من التجريب الشكلي، وهو الشاعر الذي ظلّ أقرب ما يكون إلى «الشعر الملتزم» أو الفنّ من حيث هو أداة سياسيّة. وهو النمط الذي اشتُهر في فرنسا مع شعراء المقاومة الفرنسيّة مثل، لويس أراغون وبول إيلوار وروني شار… وقبلهم الروسي ماياكوفسكي؛ ثمّ الأرجنتيني بابلو نيرودا؛ ثمّ في إسبانيا في الثلاثينيات من القرن الماضي، مع رفائيل ألبرتي وميغل إيرنانديث خاصّة. ولعلّ البرتي كان الأعلى صوتا، وهو الذي عُرف بهجومه على الطبقة الحاكمة والكنيسة، على نحو ما نجد في كتابه الشعري»الشاعر في الشارع».
ومن المعروف عن هؤلاء الشعراء، أنّهم أفادوا كثيرا من الصور والأساليب السرياليّة. وأظنّ أن هذا يأتيه البياتي في أكثر شعره، وليس في هذه القصيدة «المعراج الأرضي»التي تكاد لا تضيف شيئا إلى تجربة البياتي. لكنني أنشرها وفاء لذكرى شاعر عزيز.