ذاكرة عراقية معذبة.. شهادة لرفائيل بطي على الصراعات بين أصحاب القرار والمصير

ذاكرة عراقية معذبة.. شهادة لرفائيل بطي على الصراعات بين أصحاب القرار والمصير

جليل العطية
ذكر فقيد العلم (كوركيس عواد) 1908 ـ 1992 في بحثه (أدب المذكرات في العراق) ان هناك 127 من ابناء العراق أو غيرهم ممن امضى شطرا من حياته في هذا الوطن نشروا مذكراتهم في العصر الحديث وذلك لغاية سنة 1986 ـ موعد نشر البحث ـ وان اقدم هؤلاء (ميخائيل يوسف تيسي) المتوفى سنة 1382هـ ـ 1962م

والذي الف كتابا طريفا عنوانه (نقدات كناس الشوارع) وهي ذكريات وانتقادات فكاهية في شؤون عراقية صدرت في خمسة اجزاء ما بين 22 ـ 1926م (الذخائر الشرقية ـ دار الغرب الاسلامي ـ بيروت ج2 ص282).
وواصل العراقيون نشر مذكراتهم بعد سنة 1986 ومن اهم ما صدر حديثا:
ذاكرة عراقية لرفائيل بطي ظهر في مجلدين يقعان في اكثر من 900 صفحة (دار المدى ـ دمشق). رفائيل بطرس عيسى بطي 1901 ـ 1956م اديب، سياسي، من رواد الصحافة العراقية.
ولد في الموصل ومارس التعليم والصحافة والمحاماة وتردد على مجلس (انستاس ماري الكرملي) 1947. اصدر عدة صحف ومجلات اهمها جريدة (البلاد) سنة 1929 استمرت على الصدور سبعة وعشرين عاما. وكانت مدرسة جديدة في الصحافة العراقية. اعتقل عدة مرات وتعرضت صحفه للتعطل مرات عديدات. انتخب عضوا في البرلمان العراقي غير مرة. وفي سنة 1953 عيّن وزيرا للدعاية والاعلام.
له مؤلفات مطبوعة بينها: الادب العصري في العراق 1923 امين الريحاني 1923 الصحافة في العراق (القاهرة) 1955.
ذاكرة عراقية من اعداد وتحقيق (د. فائق رفائيل بطي) ـ نجل المؤلف.
د. فائق: كاتب ومؤرخ من آثاره الكثيرة:
الصحافة العراقية ـ ميلادها وتطورها 1961 ـ صحافة العراق ـ تاريخها وكفاح اجيالها 1968. صحافة الاحزاب وتاريخ الحركة الوطنية 1969، الموسوعة الصحافية العراقية 1976، الصحافة اليسارية في العراق (لندن ـ 1985) الوجدان (لندن 1993). وكان من اعماله المبكرة (ابي) (بغداد ـ 1956) الذي تناول فيه سيرة والده الراحل. ترك (رفائيل بطي) ذخيرة من الاوراق والمخطوطات الثمينة. اما مكتبته فلقد قدمتها الاسرة الى مكتبة الجامعة المستنصرية في بغداد. وكان من اهم ما تركه عميد (آل بطي) (ما يتعلق بمسيرته في ميادين الادب والصحافة، فقد احتفظ بدفاتر واجندات بعضها مؤرخ. والكثير منها يخلو من التواريخ، ولكنها بمجموعها تحوي ما لا يحصى من الشذرات الجميلة، والذكريات الأجمل، والعديد من التعليقات العابرة والاقوال المأثورة، فكانت بحق مشوارا مهما في سفر طويل، من تاريخ الادب والصحافة، وفي العمل السياسي، المتحزب منه والمستقل في العراق).
هكذا يتضح ان (رفائيل بطي) لم يترك (مذكرات) جاهزة للنشر، بل مسودات واصول تشتمل على (ملاحظات وآراء صريحة وجريئة في احداث عايشها وشخوص عاصرهم عراقيا وعربيا، ثقافيا وسياسيا، اذ قدّر له ان يكون وهو في سن مبكرة ايضا شاهدا على الكثير من الاسرار والصراعات الشخصية والمبدئية بين اصحاب القرار والمصير). (بطي) كتب مذكراته في ثلاث مراحل:
ـ الاولى عندما كان طالبا جامعيا 25 ـ 1929.
ـ الثانية عندما كان معتقلا بتهمة النازية في العمارة 1941.
ـ الثالثة كتبها في القاهرة في مطلع سنوات الخمسين وهو يشغل منصب المستشار الصحافي في السفارة العراقية في العاصمة المصرية.
ترك (رفائيل بطي) العديد من المخطوطات الجاهزة وشبه الجاهزة للنشر، ولم يتح له القدر اتمام مذكراته وراحت اصولها تنتقل من يد الى أخرى حتى استقرت في يد نجله (فائق) الذي يحدثنا بلغة (صاحب الايام) عن حب والده له قائلا:
وكثيرا ما كان يصحب اصغر اولاده سنا الى ادارة الجريدة (البلاد) بعد ان توسم فيه الرغبة في امتهان الصحافة ونزوعه الى السياسة، ليكون لصيقا بالعمل، يقرأ عليه ما يكتبه للجريدة من المقالات، حيث يقف على كلماته يريد له ان يستوعبها، ويملي عليه كذلك بعض تلك المقالات ويشجعه على قراءتها بصورة صحيحة املائيا ولغويا.
وبعد ان يورد طرفا من سيرة والده وذكرياته عنه حتى رحيله في العاشر من (ابريل) نيسان 1956 يقول: وقد اعتمدت شخصيا في تحقيق واخراج المذكرات، على الذكريات واليوميات التي حفظتها ذاكرته في الدفاتر والأوراق، وما دونه هو شخصيا من ملاحظات وآراء، دون المساس المباشر باسلوبها واللغة التي كتبت بها. وقسمتها لا حسب التسلسل التاريخي للاحداث. بل بمقتضى الضرورة في إبراز دوره الصحافي والأدبي والسياسي عبر المحطات التي توقف فيها، وأجاد ونبغ، أو أخفق واختفى.
فصول الكتاب تتكون ذاكرة رفائيل بطي من ستة عشر فصلا على الوجه الآتي:
الفصل الأول: النشأة: يحكي المؤلف بعضا من ذكرياته عن الطفولة المعذبة الناتجة عن الفقر المدقع والبيئة والعادات ويدون بمرارة مرحلة الشباب وصراعه مع الحياة وهو لم يزل يافعا طريا يبحث عن الرزق لإعالة عائلة كبيرة العدد بين الموصل وبغداد وكيف هوى الصحافة. الفصل الثاني: يتساءل: من أنا؟ ويبدأ بتدوين يومياته متنقلاً بين العمل الصحافي والنبوغ الأدبي ودراسة الحقوق والبحث عن الاستقرار المفقود.
الفصل الثالث: يتناول مسيرته الصحافية بدءا من عمله في جريدة (العراق) 1920 ومراسلا صحافيا وصولا الى العمل الحزبي.
الفصل الرابع: يروي حكاية مشروع عمره اصدار جريدة (البلاد) وما تبع ذلك من مشكلات جرته مع الحكام ورجال السلطة والاحزاب مما ادى الى تعطيل جريدته مرات وتعرضه للسجن والنفي.
الفصل الخامس: التنقل بين السجون والمعتقلات ـ اربيل وكركوك وكويسنجق، العمارة. احياناً مع فهمي المدرس 1873 ـ 1944م وأحياناً بمفرده. في الفصل رسائل وملاحظات مهمة عن شخصية المؤلف.
الفصل السادس: يكرس لانقلاب بكر صدقي العسكري 1936. يتناول الوضع السياسي وأسباب الانقلاب ودوره الذي كلف به من قبل رجال الانقلاب للدعاية، ويختم الفصل بجواب لماذا انهار الانقلاب الأول؟
الفصل السابع: يواصل (بطي) الحديث عن دور العسكر في السياسة بعد اخفاق انقلاب (صدقي) وميلاد التكتل العسكري الرباعي المؤلف من (صلاح الدين الصباغ) ورفاقه الذي لعب دورا في الاحداث اللاحقة 1941.
الفصل الثامن: خصص لحركة مايو (آيار) 1941، التي ارتبطت باسم (رشيد عالي الكيلاني) تشتمل على تفاصيل وآراء. وأهمية هذا الفصل تكمن في الصفحات التي كتبها وهو رهين الاعتقال في العمارة، حيث تناولت الاحداث الخاصة والاسرار والثرثرات التي خصت قادة الحركة وصلة الألمان بها.
الفصل التاسع: تناول المؤلف الحركة القومية في العراق مجسدة في النوادي والمنتديات والدور الذي لعبه رجال الفكر من العراقيين والعرب في بث الشعور القومي. وهو يخص ساطع الحصري 1880 ـ 1986م بتقدير بالغ وبحث تأسيس المدارس الأهلية والدينية التي عنيت بتدريس المبادئ والمعارف العامة للنهضة التربوية المتمثلة في القيم الدينية والقومية والعناية بالفتيان والشبيبة من خلال تنظيمات كتائب الفتوة والكشافة.
الفصل العاشر: اشتمل على أحداث عاصرها أو سمعها تخص قادة وشخصيات مرموقة كالملك غازي بن فيصل، جميل المدفعي، ساطع الحصري، علي جودة الايوبي، نوري السعيد، بكر صدقي، ياسين الهاشمي، عزيز علي المصري، الامير زيد بن الحسين.
الفصل الحادي عشر: تناول دوره كنائب في مجلس النواب لست دورات ما بين 1935 الى 1953 ممثلا عن المسيحيين في لوائي محافظتي الموصل (نينوى) والبصرة.
الفصل الثاني عشر: يرسم صوراً قلمية لشخصيات عاصرها لا تخلو من القسوة والصراحة. من هؤلاء الذين تناولهم: ياسين الهاشمي، رستم حيدر، موسى الشابندر، عبد الإله حافظ، ابراهيم كمال، يونس السبعاوي، فهمي سعيد، كامل الجادرجي، عبد الغفور البدري، ناجي شوكة، نصرة الفارسي، ورشيد عالي الكيلاني.
الفصل الثالث عشر: يتناول مكتبته فيذكر انه باعها سبع مرات ليسد رمق اسرته، ثم يجيب عن الاسئلة التالية:
ـ لماذا كره الوظيفة، ثم قبل ان يكون وزيرا؟
ـ ما هي تقاليد السياسة الانجليزية؟
ـ كيف انتشرت الثقافة العسكرية في العراق؟
ـ ما دور البعثات العلمية العراقية الى الخارج؟
الفصل الرابع عشر: يتذكر مجلته الادبية (الحرية) ومؤلفه الأول (الادب العصري في العراق العربي) 1923 ويتناول الادب العراقي والعربي ويبدي اراء في بعضها الجرأة تتناول الزهاوي، حليم دموس ـ الكرملي، عبد العزيز الثعالبي، محمد رضا الشبيبي، أنيس الصولي، الرصافي، حبيب العبيدي، علي الشرقي، أمين الريحاني.
الفصل الخامس عشر: نقول ومقتبسات تدلل على قراءات عميقة في ادبي الشرق والغرب وذوق رفيع في اختيار المقطوعات الشعرية المناسبة.
الفصل السادس عشر: مكرس لوقائع محاكمات اقطاب حركة 1941 بشهادات واتهامات ودفوع شارك فيها: توفيق السويدي، طه الهاشمي، صادق البصام، جميل المدفعي، السيد محمد الصدر، علي جودة الايوبي، صالح جبر، صالح باش اعيان، نور الدين محمود، وإفادات: يونس السبعاوي، فهمي سعيد، محمود سلمان، علي محمود الشيخ، صديق شنشل. وختم الكتاب بصور ووثائق.
سألت نفسي بعد ان فرغت من مطالعة هذا الكتاب الضخم:
ـ الى أي مدى نجح (د. فائق بطي) في تقديم ذاكرة والده؟
لا شك ان كتابا استغرق (اعداده وتحقيقه) ثلاث سنوات يستحق منا كل ثناء، لكن يبدو لي ان ـ فائقا ـ اكتفى بدوره (كمعدّ) ونسي دوره (كمحقق)! فقارئ الكتاب يلاحظ ان ناشره بذل جهدا طيبا في ربط الفصول وتحرير عدة سطور كلما فوجئ بفراغات ونقص شديد وهي تدخل في مسؤوليته كمعدّ للذاكرة.
أما (التحقيق) فلا وجود له، حيث خلا الكتاب من الهوامش التي كان بامكانها سد النقص ـ غير المتعمد ـ الموجود فيه، كما ان مقارنة الكتاب بالكتب والمذكرات الأخرى كان يمكنها ان تغني القارئ وتقدم له اضاءات كثيرة وفوائد غزيرة، التي احتاج اليها الكتاب: فهارس للاعلام الكثيرة الواردة فيه، تكون مفيدة للباحث ونافعة للقارئ.
صفوة القول: إن (ذاكرة عراقية) يشكل إضافة نافعة جداً للمكتبة العراقية كتبه أديب لامع اختار طريقه في دروب السياسة المتشابكة.