ذكريات بغدادية

ذكريات بغدادية

اتذكر بغداد يوم لم يكن في كل محلة من محلاتها الا بضعة اشخاص يحسنون القراءة والكتابة، وفي بعض المحلات لا نجد شخصا واحداً يقرأ ويكتب.اتذكر بغداد يوم لم تكن فيها مدرسة واحدة للبنات ويوم قل أن يشاهد المرء بغدادية تطوف الاسواق وهي ليست مجللة بالسواد من قمة رأسها حتى أخمص قدميها باستثناء المخمرات منهن،

كما ليس بينهن واحدة تقرأ وتكتب، واليوم أشاهد الاف الطالبات العراقيات يتوجهن أو يغادرن كلياتهن .
اتذكر بغداد يوم لم يكن فيها غير طبيبين اهليين مؤهلين، هما الدكتور اليوناني يانقو والدكتور الايراني مرزا يعقوب: الاول يطوف على مرضاه راكبا حماره الاسود، والثاني يدور عليهم راكبا فرسه البيضاء،
ثم جاء طبيبان تركيان هما الدكتور بلال والدكتور نظام الدين، وبعد الاحتلال تقاطر الاطباء الانكليز والهنود، وأتذكرها يوم لم يكن فيها طبيب اسنان واحد سوى اثنين من مركبي الاسنان هما عزة بك الجراح والاوسطه ناصر.
اتذكر بغداد يوم لم يكن فيها سوى خستخانة المجيدية وخستخانة اليهودي ( مستشفى مير الياس سابقا) في العلوازية، وخستخانة الغرباء في الكرخ، وأرى اليوم مدينة الطب وقد قامت مكان المستشفى الأول كما تأسست عشرات المستشفيات والمستوصفات الاخرى
اتذكر بغداد يوم لم يكن في بيت من بيوتها تلفون، وربما لم يسمع احد من البغداديين يومئذ باختراع مثل هذا الجهاز، اتذكر بغداد يوم كنا ننام بعد صلاة العشاء وليس في بيوتنا راديو او تلفزيون نقضي السهرة معه، سوى الركوز (خيال الظل) والفونو كراف الذي يعمل بالاسطوانات اللولبية والالعاب: المنقلة والدومنة والطاولي والاسقنبيل او نقصد احد المقاهي للاستماع الى القصّخون .
اذكر بغداد يوم كان المسافرون والزوار والسياح يقيمون في المسافرخانات وحجر الخانات
اذكر بغداد يوم لم يكن في نهر دجلة غير البلام والكفف والمهيلات والجلاج
اذكر بغداد يوم كان يرسلني اهلي الى سوك (الموله خانه ) لشراء ( بطل) حليب او كاسة لبن خاثر اوروبه او ربع قيمر او نص ربع زبد !!.
اذكر بغداد ولم تكن فيها ساحة او حديقة ، يوم كنا نلعب بالازقة والدرابين وفي الخرابة المقابلة للقشلة والمجاورة لامانة العاصمة القديمة والتي هي ليست الا مزبلة لرمي الانقاض وسقط المتاع ، او نلعب في داخل بيوتنا .
اذكر بغداد يوم كنا نبني بالطين والنورة ورماد الطمة وجص (العبادي) وطابوق (الكاظم) الاحمر، واليوم أشاهد عشرات المدخنات ترتفع من معامل السمنت والطابوق الجيري والثرمستون وهي تنفث أدخنتها في كبد السماء من السليمانية والموصل شمالاً حتى السماوة والبصرة جنوباً.
أذكر ان واحدا لم يتغير عند البغداديين والعراقيين، ذلك هو التباين الصارخ في غطاء الرأس، فأن العكال بأنواعه واليشماغ والجزية والجراوية على اختلاف لفاتها، والعرقجين والكاورية والغترة والكشيدة والكلاو والعمامة والسيدية والفينة والبرنيطة والكاسكيت والبيرية وكل ما يخطر على البال، هي هي، لم تتغير لا في بغداد القديمة ولا في بغداد الحديثة، لا في العراق القديم ولا في العراق الحديث. ولما جاءت السدارة لتكون شعارا يوحد العراقيين ويميزهم عن غيرهم، سرعان ما اندثرت وبطل استعمالها.
أذكر بغداد يوم كانت نسبة وفيات الاطفال فيها تتراوح بين 20% و50%، وفي بعض المجتمعات الشعبية تصل الى أعلى من ذلك بكثير. لقد كنا أربعة أطفال لوالدينا، ومات الأخ الأصغر باختلاطات مرض الحصبة ولما يبلغ الربيع الثالث من عمره، أي أن النسبة لعائلتنا كانت 25%. فلو كان في بغداد يومئذ طبيب واحد للأطفال لأمكن انتشال ذلك الطفل البرئ من براثن الموت.
وكل ما قامت به الام من علاج ووقاية هي أنها (بركعته) بالبشطمال الاحمر وطافت به درابين بغداد وأزقة الدنكجية وعبرت به الجسر..
أذكر بغداد يوم لم يكن فيها دائرة منتظمة لتسجيل النفوس والولادات والوفيات، ومعظم مواليد بغداد في أوائل القرن الحالي لا يعلمون التواريخ المضبوطة لميلادهم، فيقولون عند الاقتضاء (والله أعلم) أو يقرنون التواريخ بأحد الاحداث التاريخية كأن يقول البغدادي مثلا: ولدت سنة حكم ناظم باشا، أو ولدت بعد الطاعون بسنة واحدة أو بعد سنة أبو زوعة بسنتين، أو يقول ولدت سنة انكسرت سدة السرية وغركت بغداد أو سنة (السفربر، أو سنة (لوفه) أو سنة (الجهجهون) أو سنة الاحتلال أو أن يقول كنت صبيا سنة كتلة لجمن .. الخ).
ان بعض العوائل العراقية اعتادت تسجيل تواريخ ميلاد ابنائها على غلاف القرآن الكريم تبركاً وتيمناً، ويكتب التأريخ عادة حسب التقويم الرومي، (الكريكوري) الذي كان التأريخ الرسمي للدولة العثمانية قبل اتباع التقويم الميلادي، وبعض العوائل كانت تكتفي بابلاغ مختار المحلة بالولادات. أما الوفيات فكانت تسجيل أما على مرمرة القبر أو في القسام الشرعي الذي يستخرج من المحكمة الشرعية لتثبيت الارث أو النسب، ويكون تسجيل تأريخ الوفاة بالتأريخ الهجري عادة.

لقد كانت عائلتنا احدى العوائل البغدادية التي تسجل الولادات على غلاف القرآن الكريم وقد استندنا الى ذلك التأريخ في استصدار العثمانية (شهادة الجنسية العراقية)، وارى بغداد اليوم ولكل مواطن صفحة خاصة في سجل النفوس يدون فيها اليوم والشهر والسنة بالتاريخ الميلادي ويزود كل مواطن بهوية شخصية تعد وفق أدق المعلومات وبأحدث الأجهزة الالكترونية وتشتمل على كل صغيرة وكبيرة من حياة المواطن وخصوصياته، كما هو الحال في معظم بلدان العالم.
أذكر بغداد يوم كنت أحمل (العلاكة) الملأى بالتبن وأقصد شريعة الصنائع (الواقعة بين مدرسة الصنائع القديمة –وبين نادي القلوب) لأشتري ربع قالب ثلج من المضخة التي نصبها مدحت باشا وادفنه بالتبن لئلا يذوب قبل وصولي البيت، لنبرد فيه الشنين أو شربت قمر الدين أو الاسكنجبيل أو الخوشاب أو الصاوغلوغ وقت الافطار، إذ كان رمضان يحل حينئذ في أشهر الصيف الحنّاني.
أذكر بغداد يوم كانت مباريات كرة القدم بين المدارس تجري في باحة القلعة (مبنى وزارة الدفاع القديم ) ثم انتقلت الى ساحة الصالحية (موقع المتحف العراقي حاليا) المسيجة بالطوف، ثم انتقلت الى ساحة الكشافة الحالية المسيجة بالاسلاك الشائكة.
أذكر بغداد يوم تأسست بعد الاحتلال أول سينما في بغداد وكانت لا تتسع لأكثر من مائة مشاهد، تقع في شارع النهر (مقابل اورزدي باك القديم) ثم تأسست بعدها السينمات الثلاث في شارع الرشيد وهي : رويال سينما (مقابل ساحة الرصافي) والسينما الوطني (كان مقابل شركة المخازن العراقية) وسنترال سينما (مقابل ساحة الوثبة ومحل حافظ القاضي).
اذكر بغداد يوم كان البغداديون يحملون (بقج المناشف) على رؤوسهم ولوازم الحمام الأخرى بأيديهم ويقصدون الحمامات العامة للاغتسال والاستحمام والتدليك وخاصة في فصل الشتاء، وتحضرني اسماء الحمامات التي ترددت عليها في طفولتي وصباي وشبابي وهي:
حمام كجو في باب الآغا، حمام الباشا في الميدان، حمام الحيدرخانة، وحمام يتيم في الكرخ، وحمام القاضي بجوار المحكمة الشرعية (شارع المستنصر حاليا) وحمام التيلخانه، وغيرها وكلها مجهزة بالمياه المسخنة (بفشقي الطمة)، واليوم أرى لكل بيت بغدادي حمامه الخاص وبعض البيوت فيها عدة حمامات شرقية وغربية وبعضها فيها حمامات بقدر غرف النوم.
لعل أكثر أيام بغداد اسودادا وحلكة هي الايام الكائنة بين دخول تركيا الحرب العالمية الاولى سنة 1914 وبين سقوط بغداد بيد الانكليز في شهر مارس سنة 1917، فقد قاست بغداد والبغداديون الامريّن في هذه الفترة، وخاصة ليلة 10-11اذار، اذ توالت عليها الاهوال والنكبات والفواجع والجوع والقحط وشقاء الزمان مما لم تشهد مثله منذ اجتاحها هولاكو سنة 1258 م، يوم جعل من رؤوس أهلها جبالا وجعل من نهر دجلة نهرا اسود من كثرة ما رمي فيه من كتب ومخطوطات.
أذكر بغداد يوم جند الالاف من خيرة شبابها وأرسلوا الى جبهة القفقاس فهلكوا في جبالها وثلوجها ولم يعد لبغداد (نفاخ نار).
اذكر بغداد وفي كل بيت يتيم ينتحب وأرمل تنوح وثكلى تندب وتلطم لفقد وحيدها.
اذكر بغداد يوم رافقت والدي وأنا احمل علاكة ملأى بالليرات التركية الورقية لنشتري من سوك المولة خانه أوكية شكر أو ربع (جاي) أو نصف كيلو جبن أو حفنة تمر أو(لطعة كيمر).
اذكر بغداد يوم رافقت والدتي الى فرن في باب الآغا جوار حمام كجو في يوم من أيام القحط، فرأيت عشرات النسوة يمددن أذرعهن نحو الفرّان وباليد الواحدة شهادة من المختار تؤيد عدد افراد العائلة، وفي اليد الاخرى ثمن صمونة واحدة للفرد الواحد في اليوم الواحد، ولغطهن وعياطهن وتوسلاتهن تطحن القلوب وتصم الاذان.
اذكر بغداد في تلك الليلة المشؤومة، ليلة انسحاب الجيش التركي ودخول الجيش البريطاني في 11 مارس 1917
اذكرها ساعة انفجار مستودع البارود في الطلسم، عندما اهتزت بغداد من اقصاها الى أدناها، واذكر تلك الساعة الرهيبة التي سمعت فيها ذلك الدوي الهائل، فخبأت رأسي تحت اللحاف وأنا أرتجف وارتعد وأبكي من هول ما سمعت، ظناً مني بأن اللحاف سيحميني من الخطر.
اذكر بغداد بعد يوم أو يومين من ليلة السقوط عندما أصلحت السلطات العسكرية الجسر وأخذت طلائع الرتل القادم من الغرب تعبر الى جانب الرصافة وتخترق قلب بغداد مارة بعكد الصخر، والاطفال والصبيان يصفقون للخيالة الذين كانوا من الهنود المسلمين والهندوس والسيك والكركه وكنا نميزهم من شكل عمائمهم وطريقة لفها، وقد توجهوا نحو باب المعظم ومنها الى بستان الصرافية حيث عسكروا هناك.
اذكر بغداد عندما أخذت سلطات الاحتلال تسوق بعض البغداديين من رجال وشباب الى جزيرة هنجام وتعتقلهم هناك لانهم أخذوا يقاومونها ويتحدون امرها.
اذكر بغداد لما اجتاحها مرض الكوليرا أو الهيضة (أبو زوعة) في خريف ذلك العام، فصار الناس يموتون بالمئات وليس فيها من يلقحهم أو يعالجهم ولا حتى من يتولى دفنهم.
وأذكر بغداد لما اجتاحها فيضان دجلة والفرات في آن واحد، فأحدقت المياه بالكرخ والرصافة وجعلت كثيرا من بيوتها عاليها سافلها، فهلك الحرث والنسل والزرع والضرع.
أذكر بغداد يوم 30 تشرين الاول عندما أعلن وقف اطلاق النار بين الجيش البريطاني والتركي في جبهة العراق، وأذكر يوم 11 تشرين الثاني عندما وقعت الهدنة بين الحلفاء وبين تركيا والمانيا، فبدأت المهرجانات والزينات والألعاب النارية تقام في كل محلة من محلات بغداد، فعاد اليها شيء من رونقها الذي فقدته طوال أربع سنوات، فأخذ الضباط والجنود يعودون الى وطنهم، باستثناء الذين هلكوا في القفقاس أثناء (السفر بر)، فمنهم من وجد افراد عائلته على قيد الحياة ومنهم من لم يجد احدا يستقبله أو يرحب به، فكل افراد عائلته قد طحنتهم الحرب بشكل أو بآخر.
أذكر بغداد يوم كان السفر منها واليها بدائيا يتم بواسطة الخيل والبغال والجمال وحمير (المجارية) ثم تطور نحو الافضل فصار يتم بواسطة الكجاوة و(التخت روان) وهي محفة يحملها زوج من البغال، أو الهودج وهو محفة يحملها بعير، ثم تطور نحو الاسرع فصار يتم بواسطة العربات ذوات اربعة دواليب.
وأذكر اني سافرت على عربة (أبو سبع) من بغداد الى الفلوجة في العهد العثماني وهي عربة أقرب الى (برجقة) منها الى عربة سفر، وقد استغرقت السفرة من كهوة (العكامة) في صوب الكرخ الى الفوجة قرابة ثلاثين ساعة، مع مبيت ليلة واحدة في خان ضاري في (أبو منيصير) لانعدام الامن في السفر الليلي وخطر (دك) الطريق وسلب المسافرين من قطاع الطرق، ثم تطور السفر نحو الافضل والاسرع عندما صارت السيارة (أم اللوكيه موديل فورد أو أوفر لاند) واسطة السفر.
وأذكر ان السفرة نفسها التي قطعناها في عربة أبي سبع بثلاثين ساعة قد قطعناها بعد عشر سنوات في سيارة السائق الارمني (تيزاب) بأقل من خمس ساعات والمسافة بين بغداد والفلوجة لا تزيد على الخمسين كيلومتراً، مع التوقف لتبريد السيارة واصلاح (البنجر) والاستراحة من ضعضعة الضلوع جراء سوء حالة الطريق الترابي الممتعرج والمتعثر.
هذا فيما يخص السفر البري اما السفر النهري بين الشمال والجنوب فيتم بواسطة (الجلاج) ويستغرق مدة أطول من المدة التي يستغرقها السفر البري بواسطة الدواب والكروان والعربات.
بينما يتم السفر اليوم من بغداد واليها بسرعة خيالية، فان نفس المسافة بين بغداد والفلوجة تقطع بالسيارة الحديثة بساعة واحدة أو أقل، وان السفر بين بغداد والبصرة بواسطة قطارات (الديزل الكهربائية) الحديثة ولمسافة تقرب من أربعمائة كيلومتر يستغرق أقل من عشر ساعات بينما كان يستغرق بواسطة الباخرة (مركب حميدي) قرابة الاسبوع.

عن كتاب: بغداد كما عرفتها للمؤرخ الراحل امين المميز