السنهوري عدو التتار!

السنهوري عدو التتار!

لقد قالت احدى الصحف الانجليزية وهي تعلق على الحكم الذي اصدره السنهوري باشا في قضية جريدة الاشتراكية:"ليت في بريطانيا قضاة مثل هذا الرجل!"
في عام 1933 كان الدكتور عبد الرزاق احمد السنهوري استاذا مساعدا في كلية الحقوق وكنا نحن طلابا في السنة الاولى منها، لم نتشرف بعد بان نصبح من طلاب السنهوري استاذ القانون المدني.

ومع ذلك لم يكن الطلاب في حاجة الى الاتصال بالسنهوري وتلقي العلم على يديه لكي يحبوه او يعرفوه.. فلقد كان كل طالب يعرف الدكتور السنهوري ذلك الرجل القصير القامة، الممتلئ الجسم، الذي تجمعت في وجهه الصارم قوة عشرات الرجال، وفي رأسه الضخم كفاءة عشرات الاساتذة.
وكان كل طالب يعرف السنهوري ايضا لسبب آخر، لانه كان الاستاذ الوحيد في الكلية، الذي يقف فترات الراحة بين المحاضرات، متجولا في حديقة
الاورمان في صمت وتأمل او قابعا في
ركن من اركان البوفيه المتواضع تحت
ظلال شجرة.. الاستاذ الوحيد لان
بقية الاساتذة كانوا يؤثرون قضاء
الراحة في حجرة الاساتذة او لعب
التنس، او الذهاب الى جروبي حيث
يذهب.."البيه"العميد.
وظلت معرفتنا بالدكتور السنهوري نحن
الذين لم نكن من طلبته لا تعدو رؤيته في
حدائق الاورمان، وتحيته في ادب واحترام،
حتى كان يوم جلسنا فيه على احدى موائد
البوفيه المتواضع نشرب الشاي.

ودخل الدكتور السنهوري فنهضنا جميعا لتحيته، وتجرأ احدنا فقال:
- اتفضل يابيه.
وأقبل"البيه"فصافحنا واحدا واحدا.. وقدم كل منا نفسه اليه باسمه ثم جلس وجلسنا.. وكأن على رؤوسنا الطير..
وبدأ الاستاذ الحديث، فسألنا عن السنة التي ندرس بها، واخذ كل منا يحدثه عن نفسه وعن دراسته.. وظل هو يستمع.. يستمع، وكان كل واحد منا هو شغله الشاغل وموضوع اهتمامه الوحيد.
وانتهى دور الاسئلة.. وبدأ يحاضرنا.. يحاضرنا كما لو كنا طلابه وكان موضوع المحاضرة هو: كيف تنجح في دراسة القانون!
ومرت ساعة ونحن نستمع دون ضجة ولا جلبة ولا مقاطعة كما نفعل في الفصل.. ونهضنا ننصرف الى محاضرتنا التالية في الكلية، وتركنا الدكتور السنهوري.
وفي طريقنا الى الكلية قال احدنا وكأنه يهمس:
- اننا في حاجة الى مثل هذه المحاضرات في الهواء الطلق.
وعلق آخر:
- اريد ان انجح هذا العام لاصبح في العام القادم احد طلبة السنهوري.
وكنا جميعا نريد ذلك بعد ان سمعنا من هذا الرجل اول محاضرة.
المدرسة الجديدة
وتكرر لقاؤنا بالسنهوري في حدائق الاورمان، وتكررت احاديثنا معه، وتناول بعضها الشؤون العامة.. وذات مرة سأله احدنا:
- ما رأي استاذنا في اشتغالنا نحن الطلبة بالسياسة؟
فأجاب السنهوري:
- لا احب ان يشتغل الطلبة بالسياسة، لكنني اشجع ان يشتغلوا بالوطنية.. بل احتم ان يشتغلوا بها.
ومضى يشرح لنا ما هي الوطنية. ثم مضى يشرح لنا من هو الشاب الوطني.. ثم تطرق الحديث الى حال الشباب اذ ذاك..
وكان الشباب اذ ذاك قسمين: قسما منصرفا الى الدراسة الجافة، يستظهر علومه، ويعد نفسه ليكون موظفاً، او آلة من البناء الحكومي الذي لا يحس ولا يدري بما حوله، وقسما آخر جياش العاطفة، يحس فيندفع في تيار الوطنية، ثم يجرفه التيار الى النهيرات الصغيرة التي انسابت اليها تيارات الحركة الوطنية.
وتركت المجرى الاصلي يكاد يجف..
قسم يخرج الى الحياة مملوء الرأس بالعلم الجاف، وقسم يخرج الى الحياة مملوء الرأس بوطنية جاهلة خرقاء.. ولأزد الامر ايضاحا: قسم لا ينتمي الى احزاب، منصرفا الى علمه المدرسي فقط.. وقسم اشتغل بالوطنية على انها تأييد حزب معين.. فهناك الشبان الوفديون.. وهناك الشبان الدستوريون..
هؤلاء يضربون هؤلاء ويتهمونهم بالخيانة.. واولئك لا تبلغ حماستهم الوطنية اكثر من التعلق بسيادة زعيم.. والهتاف بحياته ويموت من يخالفه في الرأي.. ولو كان على حق.
كانت الوطنية هي هذا الضرب من التظاهر الاجوف والتهريج الرخيص، وكان الشباب الوطني هو الذي ينتمي الى حزب من الاحزاب.
وفي اكثر من لقاء، بعد ذلك اليوم، تكونت في رؤوسنا فكرة زادها الاستاذ وضوحا وجلاء.. حتى اصبحت حلما.. فاملا نصبو الى تحقيقه.
لابد للشباب المصري من كيان اجتماعي الى جانب كيانه العلمي.
وفي نهاية العام الدراسي وبعد الفراغ من الامتحانات، عقد الاستاذ وطلابه.. طلابه في الكلية وطلابه في حدائق الاورمان اجتماعا طويلا في مقر جماعة عيد الوطن الاقتصادي، وهي جمعية من طلاب الجامعة كانت تقوم بدعاية لتشجيع المصنوعات والمنتجات المصرية، وكان لها مقر في شارع الملكة فريدة في نفس المبنى الذي كان يقع فيه نادي الجامعة..
وانتهى هذا الاجتماع الى تأليف جمعية للشباب باسم جمعية الشبان المصريين، هدفها اعداد الشباب اعدادا صحيحا لخدمة وطنه.. وسبيلها الى ذلك تربية روحه بغرس الاخلاق الفاضلة فيه وتربية جيدة بتدريبه على فنون الرياضة التي يؤثرها، وتربية عقله بتثقيفه ثقافة وطنية تقوم على معرفته لبلاده: تاريخها وحاضرها، ومقوماتها وامكاناتها.
وكانت فكرة السنهوري التي قام عليها كيان الجمعية، هي ان الشبان مصريون حتى نهاية مرحلة الدراسة، فاذا ما خرجوا فهم احرار في ان يصرفوا طاقتهم الوطنية في اي حياة يريدونها..
وكان معنى كلمة مصريين هي وطنيين.. والشاب الوطني هو ذلك الذي يحب وطنه عن ايمان به ومعرفة بشؤونه.
واقترح بعض الشبان اذ ذاك، ان لا تخرج الدعوة عن نطاقنا، إلا بعد ان نأمن شر الاحزاب، ونطمئن الى انها لن ترى في جامعتنا ما يخيفها.. وضرب المثل بما لقيه حزب مصر الفتاة من مصير، لأن الوفد ظن فيه عدوا خطراً على كيانه..
وقبل السنهوري ان يزور معنا الزعماء، لنسرد لهم الفكرة، ونشرح لهم اهدافنا، وبعدنا عن اي نشاط سياسي او حزبي.
السنهوري في نظر النحّاس
وفي مساء الثلاثاء 27 يونيه عام 1933، توجه خمسة من الشبان، ومعهم استاذهم، الى مقابلة"دولة"مصطفى النحاس باشا رئيس الوفد المصري حزب الامة المرموق اذ ذاك، في قصر الذكريات بمصر الجديدة، بناء على موعد سابق تحدد لهم مع"دولته".
كان الاستاذ هو الدكتور عبد الرزاق السنهوري، وكان الشبان الخمسة، محاميا اصبح وزيرا، وطالبا اصبح مستشارا ملكيا مساعدا والثلاثة الآخرون، احدهم الآن محام ونائب والثاني استاذ بالجامعة، والثالث صحفي.. وبدأ الدكتور السنهوري الحديث، فشرح للنحاس باشا الفكرة في وضوح، وكان حريصا على ان يؤكد بعد الجماعة عن السياسة والحزبية، وان كل هدفها هو ابعاد الشباب عن فوضى السياسة، واعدادهم اعدادا سليما ليكونوا شبانا مصريين بمعنى الكلمة..
وتكلم النحاس فألقى محاضرتين لطبقتين.. الاولى عن الرياضة وعن حبه شخصيا للرياضة وكيف تعلم السباحة.. والثانية عن السنهوري ومكانته وشخصيته وإعجابه به.
وخرجنا من منزل النحاس باشا في الساعة الاولى بعد منتصف الليل، وما زلت اذكر اننا وقفنا في منتصف الساعة الثانية في ميدان الاوبرا، وتحت تمثال ابراهيم باشا، نتأمل ما حدث، كان هذا هو اول لقاء لاهلينا مع زعيم الامة، لقد ترك في نفس كل منا تاثيرا مختلفا، واشهد انني احببت النحاس من ذلك اليوم كرجل لطيف، وان لم اؤمن به منذ ذلك اليوم ايضا كزعيم لشعب يناضل في سبيل حريته..
وبالرغم من ان النحاس لم يبد رأيه في ما زرناه من اجله، فاننا قد فهمنا، ضمنا، انه يؤيد الفكرة.. على الاقل من سبيل المدائح التي كالها السنهوري..
ومضينا في طريقنا.. ووضح لنا السنهوري يوما بعد يوم.. وتكشف لنا ابرز نواحيه..
وتقدم لنا رجل.. هو اليوم شخصية اقتصادية ممتازة، ولكن شهرته الدائمة هي انه ممن يميلون مع الريح، ويقدمون فروض الطاعة للقارة البريطانية بين الحين والحين، في صورة اخبار مصرية وقال بعضنا، فلنضمه الينا حتى لا يؤذينا.
وقال السنهوري: لا.. اول صفات الشباب المصري، هي الصراحة وعدم مداهنة الاقوياء!!
واردنا ان ننشئ ناديا لنا، فاقترح بعضنا ان نفتح باب التبرعات، وان نستعين بالوسائل التي تلجأ اليها الجمعيات..
وقال السنهوري: بل يجب ان يكون مظهرنا صورة صادقة لمخبرنا.. لا تبرعات الا منا نحن.. ومن كل من ينضم الينا.
ولو ان الامر في يدي لقصصت كيف حارب السنهوري في نفوسنا، اذ ذاك، روح الفوضى في شتى الصور، وكيف ارغمنا على ان نحد من غلوائنا لنلتزم جانب النظام والقانون.
رسب احدنا في الامتحان فهاج وثار واتهم – كما هي العادة – اساتذته بالتحيز ضده وتعمد رسوبه.. الى آخر ما يقوله الطلبة عندما يرسبون.
وانتهى الدكتور السنهوري من تدخين سيجارتين، قبل ان يبدي رأيه في ما يقوله الطالب.. ثم قال اخيرا:
- ان لي رأيا آخر.. هو ان تستذكر العلم الذي رسبت فيه، وتعد نفسك للامتحان الثاني..
في وجه التتار
ومرت بضعة ايام ونحن نعمل على نشر مبادئ الجمعية في صفوف الشباب، واذا بنا نفاجأ بموجة عاصفة من الهجوم قرار من وزير المعارف باحالة السنهوري الى المعاش، وبتحذير الطلبة من المضي في هذه الجمعية، وبفصل كل طالب او موظف ينتمي اليها.
وجاءنا الخبر بعد ايام، فقد قدم بلاغ الى ادارة الامن العام يتهم جمعية الشبان المصريين بانها جمعية ارهابية، الغرض منها هو ارتكاب جرائم ضد الانجليز.
وذهبنا نسأل السنهوري باشا رأيه.. فاذا به يفاجئنا بما اعتزمه قائلا:
- سأنشر غدا في الصحف قانون الجمعية، ردا على الاتهام قلنا:
- وبعد
فقال:
- أشتغل انا بالمحاماة، وتمضون انتم في دراستكم.. وفي نفوسكم مبادئ الجمعية.. حتى يحين ظرف انسب من هذا الظرف الذي نحن فيه.. ان جمعيتنا تقوم على النظام والقانون، ولا يمكن ان تمضي في طريقها والحكومة، حامية النظام والقانون، لا تؤمن بها. ولعل القارئ ليس في حاجة الى ان يعرف من هو مقدم البلاغ، وان كنا نحن لم نصدق ذلك الا حين انبأنا به من يعرفون عن يقين.
أما الذي يجب ان يذكر اذ ذاك، فو اثر هذا الهجوم في الصحف وفي الناس.. وفينا نحن بصفة خاصة.
كتب فكري أباظة (باشا) يعاتب الحكومة على هجومها على جمعية هذه مبادئها، ويشيد بالسنهوري وينعى على الجامعة خسارتها بفقده.
وكتب طه حسين (باشا) مقالا عنوانه (النور في مستودع الخوف)،وكان النور الذي يعنيه، هو معاني وزير المعارف الذي اتخذ هذا الاجراء، حلمي عيسى باشا اذ ذاك، وكان مستودع الخوف هو الجامعة وطلبتها واستاذها المحبوب.
وقررنا نحن ان نقيم حفلا لتكريم السنهوري، وارتكبنا خطأ فلم نستشره وذهبنا ندعوه لحضوره.
وقال السنهوري:
- أنا لا أقر الاحتفال بتكريم من لم يعمل عملا، ولذلك لن أحضره.
وقررت الحكومة ان تمنع الحفل، وقررنا نحن ان نتحدى الحكومة فأقمناه، وكان الوحيد الذي لم يحضره هو السنهوري ورحنا نقص عليه نجاح الحفل، وكان هو الوحيد ايضا الذي لم يؤمن باننا نجحنا..
وجاءت وزارة نسيم باشا.. وتلتها وزارة الوفد"وكنا قد نفذنا نصيحة استاذنا، فطوينا صفحة جماعتنا الى حين"وعاد السنهوري الى الجامعة مرة ثانية على اكتاف طلابه، في استقبال تحدثت عنه الصحف.
ورأى بعضنا ان الفرصة سانحة.. وبدأ الحديث مرة اخرى عن الجمعية، وبدا ان السنهوري لا يمانع في ان يسدي الى الشباب نصائح، فهو على استعداد لان يواصل ما بداه من اعدادهم اعداداً وطنيا صحيحا ولكن لم يمض غير قليل حتى ابدى السنهوري باشا لمن فاتحه في عودة نشاط الجمعية، رأيه بصراحة من انه غير مستعد للاشراف على المشروع الذي بدأه وأعد له قانونا.. ولم يبد الاسباب..
وعرفنا الاسباب بعد ذلك.. فقد توجه الى السنهوري عضو بارز من اعضاء الوفد الذين اطاح بهم النحاس باشا بعد ذلك، توجه اليه ليقول له:
- ان الوفد يرحب بك كاستاذ في الجامعة فقط وترجمتها في لغة الحزبية.. ان الوفد يرحب بك كاستاذ في الجامعة، ولا يرضى ان يكون لك نشاط آخر.. ويحاربك ويحارب كل نشاط لك في غير ميدان تدريس القانون..
ولهذا ابى السنهوري ان يجر علينا المتاعب وقال، ولا ازال اذكر معنى كلماته وان خانتني الالفاظ..
- ليس من المصلحة ابدا ان يدخل الشباب في حرب مع اي حزب، لان لديه رسالة أسمى من ذلك.. هي ان يحارب من اجل وطنه..
ولم يمضِ عام على ذلك حتى خرج النقراشي باشا من الوفد والنقراشي باشا رحمه الله كان من اصدق اصدقاء السنهوري. ولم يكن هناك ما يمنعنا من الانضمام اليه.
وفي اندفاع الشباب ذهبنا الى النقراشي باشا.. وكان مكتبه اذ ذاك، حجرتين في الدور الاول من المنزل الذي يحتله الان نادي سعد زغلول بشارع سليمان باشا.
وقلنا للنقراشي باشا:
- ان لنا بضع مئات من الجنيهات في بنك مصر، ولدينا قانون يحدد نشاطنا، ونحن نريد الان، وقد خرجت من الوفد ان تنضوي تحت لوائك بجمعيتنا وقال النقراشي باشا، وانا انقل هذه المرة كلماته رحمه الله بالحرف:
- انتم من؟
- جمعية الشبان المصريين.
- وكيف وانا رجل خرجت من الوفد، اشرف على جمعية للشبان المصريين، انني اعرف ان جمعيتكم مبنية على الشباب، وان فكرتها لا تمت الى السياسة ولا الحزبية بصلة.. فكيف ابيح لنفسي ان اهدمها بهذا الشكل..
قلنا:
- انك مصري.
فقال:
- انا مصري نعم.. ولكنني كنت عضوا في الوفد.. وساكون عضوا في حزب آخر.. حزب يناوئ الوفد..
وأضاف:
- ان السنهوري نفسه سيغضب لو اني قبلت ان ازج بجمعيتكم في مثل هذا الموقف.
وعند هذا الحد ودعنا النقراشي باشا، وقد فهمنا مرة اخرى، من هو السنهوري.. حتى في نظر اصدقائه..
من هو السنهوري؟
عبد الرزاق احمد السنهوري الموظف بمصلحة البوستة.. وعبد الرزاق السنهوري طالب الحقوق.. والدكتور عبد الرزاق السنهوري المدرس بكلية الحقوق.. والاستاذ بالحقوق والمحامي بعد ذلك، ووكيل وزارة العدل، ثم وكيل وزارة المعارف.. ثم وزير المعارف.. ثم رئيس مجلس الدولة.. من العجيب ان كل هؤلاء شخص واحد.. في مصر التي يتغير فيها الموظف حين يرقى من الثامنة الى السابعة...
شخص واحد بنفس الخلق ونفس الصفات ونفس العادات..
يحب الادب، ويقرأ فيه في اوقات الفراغ.. واوقات الفراغ في حياته أندر من الذهب..
جلس مرة يناقش نجيب الريحاني في ادب برنشتين، فقال نجيب الريحاني ببساطته المعهودة رحمه الله:
- ايه الراجل ده.. لازم ما بتفوتوش رواية؟
ودار الحديث بينه وبين كاتب ناشئ ذات مرة، وكان قد اهداه مؤلفا جديداً وضعه، فاذا به يفاجئ هذا الكاتب قائلا:
- عيبك انك لا تكتب ما تؤلفه مرتين، ووقف مرة اخرى يناقش استاذا في الفنون، في مشروع ما، وكان حينئذ وزيرا للمعارف، فاذا بالمناقشة تطول ساعة يقول بعدها السنهوري للاستاذ:
- متشكر جدا.. لقد فهمت شيئا لم اكن اعرفه.
وبعد ايام ابدى رأيه في هذا المشروع.. فاذا بالاستاذ يقول لنا:
- غريبة.. هذا الرجل قطعا كان يضحك حين قال انه لم يكن يفهم هذا الموضوع.. ان رأيه يدل على انه يعرف عن الفن كما اعرف انا..
وذلك هو الواقع.. لأن السنهوري أنصت لشرح الاستاذ، ثم قرأ عنه قراءة وافية.. ثم فكر فيه طويلا.. ثم ابدى رأيه.. ويحب السنهوري العمل.. يعمل الساعات الطوال دون كلل.. لا تقل ساعات عمله في اليوم عن اربع عشرة ساعة. يأكل جيدا ويعمل جيدا، ولا يحب المجتمعات ولا الاحاديث، ولا الصور.. يكره اشد ما يكره ان تؤخذ له صورة.
كان له ثلاثة اصدقاء في منزله الإخوة.. طه حسين وأحمد أمين والنقراشي باشا.. مات النقراشي باشا رحمه الله وعاداه طه حسين لانه اختلف معه، ايام كانا معا في وزارة المعارف.
وبقي له احمد امين.. مد الله في عمر كليهما..
وعندما يدق التليفون في بيت احمد امين او السنهوري يوم الجمعة، لا تجد كليهما، لسبب واحد هو انهما يخرجان دائما يوم الجمعة خارج القاهرة لقضاء اليوم في الاستجمام والتأمل.. واحب رياضة الى السنهوري باشا هي ان يقضي يوما كاملا في الخلاء بعيدا عن المدينة وعن الناس.
وثمة رياضة اخرى للسنهوري... هي ان يصوم يوما كاملا عن الطعام فلا يأكل غير الفاكهة.. واظنه يوم الثلاثاء..
ان السنهوري باشا يسكن بيننا بالايجار.. وله زوجة وابنة، ولا يملك عمارة واحدة ولا رصيدا ضخما..
وكدت انسى، فله شيء آخر، هو صفحة في تاريخ مصر.
انه الرجل الذي حارب الفوضى ويحاربها.. منذ كان طالبا.. حتى اصبح رئيسا للمجلس.. انه يحارب روح التتار.
آخر ساعة/ كانون الأول- 1951

ذات صلة