شيءٌ عن الكرملي.. مجلسه.. مكتبته.. رحيله

شيءٌ عن الكرملي.. مجلسه.. مكتبته.. رحيله

وداد نجم عبود الدوغرجي
كانت بغداد في الربع الأول من القرن العشرين تعج بمجالسها التي تعقد في دواوين اسر بغداد واعيانها، إلا ان قيمتها العلمية تتفاوت من حيث روادها وحاضريها وما كان يجري فيها من مناظرات ومناقشات رفدت التيار الفكري بالكثير، ولولاها لأنطوى الكثير من اخبار العلم والعلماء،


وكانت هذه المجالس والندوات كاسواق العرب في الجاهلية والاسلام، واليها يرجع الفضل في نهضة الحركة الفكرية والعلمية الحديثة، ولها الفضل في احتكاك الافكار وتحديد اتجاه الصحافة عبر المناقشات والمحاضرات التي تجري فيها، لاسيما تلك المجالس التي كانت تعقد في بيوت العلماء، فاستمد اصحاب الصحف المواظبون على حضورها ما يجري فيها من قضايا تخص الاستقلال والوطن والنهضة ومنها مجلس»الكرملي».

عقد»الكرملي»مجلسا كان في طليعة مجالس بغداد اذ كان محفلا ادبيا ومجمعا علميا، وقد وصف بانه»اكبر مدرسة علمية وادبية، ولغوية، وتاريخية»، تواصلت جلساته زهاء ربع قرن، اذ امتاز بصفة لها رونق خاص اذ تجد فيه: (المسلم وغير المسلم متساوين اخوة في الوطن والانسانية، فيضم جمعا من اهل العلم ونخبة من الشعراء، والادباء، والمحامين، والكتاب، وكبراء الأمة، واعيان البلد على اختلاف مللهم ونحلهم)، وكان هناك من يلازم المجلس في ايام الجمع ملازمة دائمة، فتتواجد نخبة العلماء وطالبي العلم في الساعة الثامنة من صباح كل يوم جمعة في في دير الاباء الكرمليين للاستماع الى ما يدور في ذلك المجلس من احاديث ومساجلات، مستقبلا»الكرملي»لهم بكل سعادة متفقدا الحاضرين ومستفسرا عن الغائبين، ثم يفتتح الجلسة بعد ان يستقر المقام بالحاضرين.
اعتاد»الكرملي»على ان يضع ما يتوارد اليه من الكتب والمجلات على منضدة كبيرة يلتف حولها الحاضرون للاطلاع عليها ومطلعا زائريه على الكتب المطبوعة والمخطوطة التي وردت الى خزانته حديثا، ثم يقرا بعضهم مقالة او يتلو قصيدة، فتناقش وتنتقد ويحمى النقاش والجدال في ذلك الموضوع، ويغلب الغضب عليهم، فيسرع»الكرملي»الى اصلاح ذات البين بين المتجادلين، ويكون له الحكم القاطع، والقول الفصل باحضار كتاب من مكتبته، ثم يؤيده بكتاب ثان، وثالث...، دون ضجر او ملل، حتى ينهي الموضوع المختلف فيه، يدوم الاجتماع الفكري حتى الساعة الثانية عشرة ظهرا، بعد ان يدق ناقوس الكنيسة يدرك المجتمعون انه وقت الطعام للرهبان، فينصرف الحاضرون وتنتهي الجلسة.
امتاز مجلس»الكرملي»بمزايا لم تكن متوافرة في المجالس الاخرى التي كانت تعقد متزامنة في وقت انعقاده بـ:
1. يعرف كل من يحضر الى المجلس ان لا يتحدث في أمور الدين والسياسة، اذ ان الحديث فيهما يورث العداوة والبغضاء، ولانهما من الموضوعات الوعرة، وبما ان المجلس يضم اشخاصاً من الاديان والطوائف المختلفة، ويضم الاضداد والنقائض من الاشخاص في الدين والسياسة، فلم يكن بوسعهم التطرق الى تلك الأمور، وان تطرقوا اليها لما استمر انعقاد المجلس.
2. لم يقتصر الكلام في هذا المجلس على الاحاديث العلمية والمساجلات الادبية وحسب، بل ترى الطرائف، وابيات الشعر، والنكت، والنوادر الطريفة التي يعمر بها المجلس، وغالبا ما كان المجلس يغمر ويفتتح بمثل تلك الأمور التي تكون بمثابة الحافظ والدافع للبدء في النقاش بالموضوعات المطروحة.
3. لشهرة المجلس الواسعة في بغداد يندر ان يكون هناك عالم، او مستشرق، او اديب يزورها دون ان يحضر هذا المجلس او يزورالكرملي على اقل تقدير.
4. اسهم هذا المجلس في وضع اللبنات الأولى في بناء الحركة التعليمية في البلاد واذكائها لانه استقطب خيرة العلماء من المختصين في المجالات المختلفة بعامة، والمختصين في الحركة الادبية، والشعرية، والصحفية بخاصة، فعد خير ندوة ثقافية تجمع الشباب مع العلماء.
5. لم تكن توزع في المجلس القهوة، او المرطبات، او السكائر، كالمجلس الاخرى لان»الكرملي»راهب ولا يملك من متاع الدنيا شيئا.
لم ينقطع انعقاد المجلس زهاء ربع قرن إلا في اوقات معدودات هي:
* عند إصدار الكنيسة الكرملية في اواخر عام 1924 م امراً يلزمه بالاعتكاف
* عند حضور اجتماعات مجمع اللغة العربية (مجمع فؤاد الاول سابقا).
* عند حضور اجتماعات المجمع العلمي العربي بدمشق.
* لزيارة قطر من الاقطار والفترات التي كانت حالته الصحية في تدهور.
مكتبة الكرملي:
اشتهرت بانها اعظم خزائن العراق خاصة، واوسعها نطاقا، وكانت عامرة بالكتب المطبوعة والمخطوطات النادرة، إذ تحوي مراجع المصادر الغربية القديمة واللغة والادب والتاريخ، والبلدان، والتراجم، وغيرها من الموضوعات العربية والاجنبية مما انفردت به، فقد جمع كل ما وصلت اليه يده من كتب خطية ومطبوعة انتجتها مطابع الغرب والشرق، وبناء على ذلك قسم»الكرملي»مكتبته على قسمين.
اولهما: خزانة الكتب الشرقية: حوت (1100) احد عشر الف كتابا و(27053) سبعة وعشرين الف وثلاثة وخمسين تصنيفا خطيا مؤلفا لمختلف علماء العالم يقصدها طالبو العلم والعلماء من ديار قاصية ودانية، نخص منهم علماء النجف وكربلاء، والكاظمية، والاعظمية، والبصرة، والمانيا، وايطاليا، وفرنسا.
ثانيهما: خزانة الكتب الغربية: حوت على اكثر من (8000) ثمانية الاف مجلد فضلا عن المؤلفات الخطية التاريخية الشرقية، لاسيما – ما كان فيها يبحث عن العراق عامة، وبغداد خاصة من خرائط ورسوم وصور والواح حسنة النقش والطبع.
عني»الكرملي»بمكتبته، فجعلها اكبر مرجع للعلم والعلماء ومضمونها متاح لكل من يريد الافادة منها، على ان إخراج الكتب لم يكن مباحا، فمراجعتها تتم عادة داخل الدير، إذ اقبل على اقتناء كتبه بيد مبسوطة، دون تردد، فكانت له وللاجيال خير عون على البحث والتحقيق والتأليف وجمع من اجلها النقود الفضية والذهبية، وكان لا يقبل من المكتبات المقتنية لكتبه الا باوراق النقد الجديدة.
حرص كل الحرص على ما يقتنيه من الكتب حتى انه كان لا يفرط في إعارة كتاب واحد لمن يطلبه منه على الرغم من تشجيعه على المطالعة والتعلم، لندرة الكتب التي تضمها مكتبته ولأهميتها ونذكر ان»الكرملي»كان يملك نسخة من مخطوط معجم العين واراد احد تلاميذه ان يطلع عليه ليعده الى الطباعة فاجابه برسالة يقول فيها:»اني لاشجعك على عزمك طبع العين، لكنك لم تر نسختي فقد صرفت عليها اكثر من خمسمائة دينار.. ان اهبك هذا فهو مستحيل، بل ظلم، بل سرقة، بل اثم عظيم.. هنالك معاجم اخرى، اما عيني فيبقى كعيني».
نفى العثمانيون»الكرملي»واحتلوا دير الاباء الكرمليين عام 1917 م، فكانوا اذا اشتد بهم البرد فعمدوا الى بعض الكتب في الخزانة، فاحرقوها، واصطلوا بنارها، ثم نهب منها ما سلم من النار، اما الجزء المتبقي حفظ بجهد الاباء الكرمليين اذ اودعت في صندوق حديدي ووضعت في باطن الارض.
وعندما عاد»الكرملي»من المنفى، بدأ يجمع الكتب من سارقيها بقوة السلطة البريطانية فتجول مع البريطانيين في الازقة، والشوارع مستعينا بالاهالي ليمكنوه من اعادة كتبه المسروقة، وبدأ يجمع الكتب من جديد اما هدية، او مبادلة، او شراء جامعا نقودها من المبالغ التي يحصل عليها من مقالاته التي ينشرها وظل يسعى لاستعادة نماذج من الكتب التي فقدت وتجديد ونماذج اخرى التي ضمتها خمس غرف من الطابق الثاني لدير الاباء الكرمليين.
وتلقى في احدى رسائله تعزية واسفاً لما حل بمكتبته، ولتخفيف وقع المصيبة عرض عليه مد يد العون لارجاعها الى سابق ازدهارها ولكي يسترجع مكانة مكتبته من جديد كمرجع لأهل العلم.
جمع الكرملي رسائلة التي كانت تصله يوميا من المستشرقين والعلماء العرب والاجانب واساتذته وتلاميذه في احدى زوايا مكتبته على شكل تل مكدس، ولما راها تلميذاه (كوركيس عواد) و(ميخائيل عواد) اقترحا عليه اخذها من اجل تبويبها وترتيبها وارشفتها، فوافق الكرملي على ذلك، واستمرا في عملهما ذلك زهاء السنة ونسقت على اساس ان لكل مرسل ملفاً خاصاً به وبعد اتمام العمل ارجع التلميذان.
الرسائل الى»الكرملي»، إلا انه لم يستلم رسائله منهما وقام بتحرير ورقة واهبا بطيب خاطر ذلك الركن من مكتبته الذي يحوي الاف الرسائل اليهما، وبعد وفاة صاحبها عمل التلميذان على نقل تلك الرسائل وايداعها في مكتبة المتحف العراقي كجزء من الوفاء له.
توفي»الكرملي»واخذت التساؤلات تظهر عن مصير تلك الخزانة التي كانت بغداد تتباهى بها من بين سائر خزائن الكتب في العراق والبلاد المجاورة، فارتأى الدير الاستئناس باراء ببعض اصدقاء الفقيد في ذلك الشأن، فاجمعوا على تهيئتها بالوسائل اللازمة لكي تنطبق عليها متطلبات المكتبة العامة من ثم اعادة فتحها، لكن الدير كان حينذاك في وضع مالي لا يساعده على تحقيق ذلك المقترح.
اقفلت المكتبة مدة غير قصيرة، فاقام ذووه (براتراند ماريني) ابن اخيه دعوى من اجل الحصول على مكتبة الفقيد لانه الوريث الشرعي لعمه، وكانت النتيجة ان اسقطت الدعوى وردت، بسبب عدم وجود سند لها وأن المتوفى راهب ومن شروط الرهبنة الفقر، فالرهبان لا يملكون شيئا وكل ما تحت ايديهم في حياتهم وبعد مماتهم يخص الدير والكنيسة، فضلا عن ان»الكرملي»كان قد وضع وصيته قبل ثلاث سنين من وفاته يهب فيها كل يملك ومن ضمن ذلك مكتبته الى الدير الذي عاش فيه والكنيسة الكرملية.
فضل الدير ان يحقق ذلك المقترح ويجعل المكتبة عامة من جهة ويرفع عن كاهله نفقات ذلك الاقتراح من جهة اخرى، فاهدى المكتبة فيما بعد – الى وزارة المعارف في عام 1949م، اذ بلغ حجم الهدية (7335) سبعة الالاف وثلاثمائة وخمسة وثلاثين اثراً، منها (1335) الف وثلاثمائة وخمسة وثلاثون من المخطوطات التي تخص التاريخ والادب والطب والصيدلة، و(6000) ستمائة الف مطبوع متنوع، وزعت بين مكتبتي المتحف العراقي ومتحف الموصل، واحتفظ الدير بالكتب الدينية والنصرانية والاجنبية، والمخطوطات القديمة، والمؤلفات الخطية الشخصية»للكرملي»لاسيما معجم المساعد.
مرضه ووفاته ورثاؤه:
اصيب»الكرملي»في عام 1945 م بمرض عضال الى جانب تفاقم امراض الشيخوخة، وهو في التاسعة والسبعين من عمره، فالح عليه المقربون من اصدقائه وجوب التداوي والمعالجة، فانصاع الى رجائهم وسافر الى فلسطين في اوائل عام 1946م، وكتب من هناك رسالة بعثها الى رفيقه (طه الراوي) يقول فيها:»... لقد تحسنت صحتي نوعا ما، لكن ضعف الشيخوخة لا يداوى، ولا امل في شفائه»، ثم تحسنت صحته قليلا فعاد الى بغداد في اوائل تشرين الثاني 1946 م، على الرغم من الحاح اصدقائه عليه ضرورة بقائه في فلسطين مدة اطول، إلا انه اراد ان لا يموت إلا في الدير الذي عاش فيه معظم حياته مرددا امنيته الوحيدة هو ان يرى العراق قبل ان يموت.
تحققت امنية (الكرملي) والى جانبها رعاية السيد (ارشد العمري) لانه بعث برسالة الى لجنة وزارة المعارف بتاريخ (10 تشرين الثاني 1946م)، لعدم تمكنه من حضور جلسة اللجنة لهبوط قواه الجسدية معتذرا الى الجميع واصفا اياهم بالكرماء لقبولهم اعتذاره، وقد ذكر ان الرهبان اكرهوا على عمارة الدير المتهدم ولا يستطيعون مساعدته طبيا، ويطلب المساعدة الطبية من وزير المعارف واصفا اياه بانه افضل من قدر العلماء لاسيما من بلغ الثمانين من عمره، فتلقى عناية من السادة الوزراء، واعضاء لجنة التأليف والترجمة، والصحافة اشد الاعتناء إذ اخبر»الكرملي»تلميذه عنهم بقوله:»ان رعايتهم خففت عني الام الشيخوخة، واوجاع المرض وبعثت الغبطة الى نفسي».
ويذكر (رفائيل بطي) قول الكرملي في ايامه الاخيرة:»لا يخيفني الموت يا ولدي لكني متألم إذ ستحول المنية بيني وبين خدمتي للغة العربية التي افنيت عمري في خدمتها»، وفي اوقات اخرى كان يشكو سأمه من الحياة وطولها وهو يعاني اوجاعاً فكان كلما قرأ نعي احد المعمرين او الشيوخ يحسده لأنه نجا من هذه الحياة ويتذكر قول الشاعر:
فمتى اهلك فلا احفله
بجلي الان من العيش بجل
من حياة قد مللنا طولها
وجدير طول عيش ان يمل
اشتد المرض عليه ووصف»الكرملي»ايامه الاخيرة بقوله:»لقد نفد الزيت من المصباح، وها إنني ارى الحياة تفارقني مفارقة الضوء لذلك للمصباح».
تردت صحته، وتبددت قواه فتم نقله الى المستشفى التعليمي ببغداد، فلم يلبث طويلا حتى فارق الحياة في صباح يوم الثلاثاء السابع من كانون الثاني عام 1947م، عن عمر يناهز احدى وثمانين سنة وخمسة أشهر، شيع جثمان الفقيد من المستشفى الى كنيسة اللاتين، وشارك في تشييع الفقيد جمهور من طبقات المجتمع باختلاف مللهم، ودفن في الساحة عند الباب الغربي للكنيسة إذ كان في السنوات الاخيرة يجلس هناك صباح كل يوم من ايام الصيف.
ترك الكرملي وصية وضعها منذ العام 1936م، ثم اكدها في العام 1943م، وهب مكتبته وكل ما يملك الى الدير الذي عاش فيه معظم سني حياته، وكان مجمل ما تركه للدير مكتبة عريقة ومبلغ (6000) ستة الالاف دينار كان قد جمعها من كتاباته الصحفية.
نعته الاوساط الصحفية، والادبية في العراق في العراق والعالم العربي، والمستشرقون في العالم متطرقين الى نبذة مختصرة عن تاريخ حياته ونضاله في سبيل العلم ذاكرين اهم اعماله اللغوية، والتاريخية والصحفية، الى جانب رثائه بالقصائد الشعرية ذاكرين فيها شخصه الكريم واثاره الصحفية ونذكر مثالا لذلك:
لغة العرب هد صرحها موت
همجي يتولى عليها بالحدثان
جمع الموت بالرصافي وطه
وانستاس صفوة الخلان
يا موت لطفا بالعراق فأنه
فقد الاسد من ليوث البنان
انستاس لا تبعد فذكاك خالد
الذكر للانسان عمر ثان
وقول الشاعر:
عشنا وعاشت في الدهور بلادنا
جوامعنا في جنبهن الكنائس
سوف يعيش الشعب في وحدة له
عمائمنا في جنبهن القلانس
وقول الشاعر:
فالقلب من دين ابن مريم وحبه
والفكر من لغة النبي محمد (ص)
ان ابن مريم والنبي محمدا
نوران نور هدى ونور توحد
اقيم له مجلس تأبيني بمدرسة القديس يوسف اللاتينية، حضره جمع من الوزراء والنواب والاعيان وكبار العلماء والادباء واصدقائه وتلامذته ومحبيه، الى جانب مجلس تأبيني مماثل في نادي الكرمي بفلسطين كجزء من الوفاء له.

عن رسالة (الاب الكرملي وجهوده الصحفية)