أي ملامح ظلت لشارع الرشيد الذي اختزن ذاكرة بغداد؟

أي ملامح ظلت لشارع الرشيد الذي اختزن ذاكرة بغداد؟

علي عبد الأمير
أعلن في بغداد حديثاً عن حملة للحفاظ على الطابع العمراني الخاص لأعرق معالم العاصمة العراقية: شارع الرشيد. وأكد رئيس بعثة صيانة الدور الآثارية في الشارع محسن كاظم عباس في تصريحات صحافية ان الحملة تهدف الى الاهتمام في بيوت تراثية وأبنية متوزعة على الشارع وتعود الى العقود الثلاثة الاولى من القرن الماضي، وبناء ما تهدم منها وفق الطابع المعماري المميز لها.


وشارع الرشيد الذي شق مطلع القرن الماضي ما بين"الباب المعظم"و"الباب الشرقي"في بغداد وعرّف باسم"جادة خليل باشا"نسبة الى الوالي العثماني الذي امر بشقه وجعله محاذياً لامتداد نهر دجلة وسط عدد كبير من الاسواق والمحال الشعبية، يكاد يختصر في قيامه وبنائه وتشكيل عمارته حال العاصمة العراقية. فهو ازدهر مع خطوات البلاد في انفتاحها على المعاصرة خلال العقود الخمسة الاولى من القرن الماضي، بل صار تاريخه. وبدأ تراجعه العمراني الخاص ليتحول البناء فيه فوضى ثم ليتوقف فيما آلت العمارات القديمة الى السقوط بعد تفاقم مشكلات المياه الجوفية التي تتصاعد مستوياتها مع صعود مياه نهر دجلة المحاذي للشارع. وتزامن التراجع في عمارة شارع الرشيد وعموم موقعه الاجتماعي والفكر مع تراجع حال البلاد سياسياً وفكرياً في العشرين عاماً الماضية.

الرشيد ايام مجده في اوائل ستينيات القرن الماضي
"ساحة الميدان"فقدت فسحتها الواسعة منتصف الثمانينات حين احتلت عمارات اسمنتية لا ملامح مميزة لها مواقع المقاهي التي كانت تطل على الساحة. وفيها كان يقضي موظفون وطلاب جامعة وكتّاب وأدباء اوقات ما بعد الظهر حتى اول الليل لتبدأ حركة جماعية على امتداد شارع الرشيد وصولاً الى منتهاه وليبدأ مشوار ليلي آسر مع مقاهي وكازينوات شارع"ابو نؤاس"المطل على دجلة.
"التحديث"ايضاً نال مكانين يتصلان بشارع الرشيد الذي كان عالم الاجتماع العراقي الراحل علي الوردي يسمّيه"مدينة في شارع"، فتم بناء جزء من"شارع المتنبي"بناء حديثاً وسط طراز معماري تقليدي، ليصبح شارع دور المعرفة والكتب ومتاجر الورق والقرطاسية ما بين متغيرين، الأول يندرج في محاولة تكريس تجار الورق والقرطاسية للشارع كأكبر تجمع لهم في بغداد، والثاني يتضمن رغبات مخنوقة بالكاد يظهرها اصحاب المطابع ودور النشر ومخازن الكتب في ان يظل الشارع"عتيقاً"ومحافظاً على ملمحه القديم لا سيما ان هجرة عشرات الكتّاب والصحافيين العراقيين الى"شارع المتنبي"اخيراً ليصبح مكاناً مفضلاً لممارسة مهنة تقيهم الحاجة و"مكارم"المؤسسة الثقافية المشروطة بتحولهم الى كتّاب مديح"للقيادة التاريخية"، وهي مهنة بيع الكتب والمجلات والدوريات الثقافية والعلمية النادرة، هذه الهجرة أمالت الكفة لمصلحة بقاء الشارع، شارعاً للمعرفة والفكر والطباعة ازاء كفة تجارة القرطاسية والورق غير المعنيين بإرث يعود الى مكتبات، كانت المؤسسة لثقافة البلاد وفكرها، ومنها"مكتبة المثنى"التي جاءت عليها نيران"مجهولة المصدر"قبل عامين لتحرقها ولتحرق مرحلة من مراحل تطور المعرفة في بغداد.
المكان الثاني من شارع الرشيد الذي امتد اليه"التحديث"كان المكان الذي نفذ فيه صدام حسين ومجموعة من مسلحي"البعث"محاولة اعدام الزعيم عبدالكريم قاسم عام 1959، فأمر صدام بهدم جزء من المكان الذي يسمى بـ"رأس القرية"وإقامة عدد من العمارات الجديدة تتقدمها فسحة ضمت تمثالاً لعبدالوهّاب الغريري رفيق صدام الذي قتل في محاولة الاغتيال. حال التدهور التي تميّز"شارع الرشيد"اليوم، تصفها مجلة"ألف باء"الاسبوعية الصادرة في بغداد فتقول:"ابنية شارع الرشيد تؤول الى السقوط... واحسرتاه". لافتة"جار الزمن على شارع الرشيد وتهدمت بناياته ولكن ما زال يحتفظ ببقايا جمال قديم ووقار واضح وأبهة اكيدة ومزاج خاص، وذاكرة شيخ تنطق بذكريات".
دور السينما في شارع الرشيد التي كانت عروضها تشكل حدثاً ثقافياً وترفيهياً، تراجعت لتصبح مخازن للبضائع ثم استولى عليها لاحقاً اصحاب الملاهي والنوادي الليلية المغلقة عام 1994 لتصبح مسارح لعروض تستعيد نجومية الراقصات اللائي اصبحن"نجمات"المسرح العراقي الآن.
مقاهي الشارع التي كانت ذات يوم"أمكنة الباشوات وكبار موظفي الدولة والكتّاب وأساتذة الجامعة والمحامين والصحافيين"لفظت انفاسها هي الاخرى، ليظل من بين العشرات منها مقهيان، الاول"مقهى الزهاوي"والثاني"مقهى حسن عجمي"، بينما"مقهى البرلمان"صار مكاناً لمطعم ومحل بيع احذية و"المقهى البرازيلية"التي يحمل فضاؤها عبق القهوة المميز وخشب مقاعدها يشير الى عز قديم، ما زالت مكاناً مهجوراً ومنذوراً للخراب والظلام.

الرشيد في الايام الاولى لافتتاحه

والشارع الذي افتتح في 23 تموز يوليو 1916 كان يضم معظم ادارات الصحف العراقية قبل ان"تؤمم الحكومات الثورية"صحافة البلاد وتجعلها صوتاً واحداً يثير الملل. كذلك كان موقعاً لعيادات افضل اطباء العراق وأمهرهم، كما كان يضم بيوتاً اصبحت علامة دالة على عمارة مميزة للشارع وتعود الى نخبة السياسيين في العهد الملكي وإلى شركات اجنبية، وما لبثت حكومات العهد الجمهوري ان حوّلت هذه البيوت الى مقرات لمؤسساتها ودوائرها. ومع انتقال هذه الدوائر الى مجمعات حكومية، اتجهت النية الى اعادة تعمير هذه البيوت وتحويلها الى متاحف فنية ومؤسسات ثقافية، فضم الشارع"منتدى المسرح"في بيت المس بيل السياسية الانكليزية التي اشرفت على بناء الدولة العراقية المعاصرة، كما ضم احد البيوت القديمة"متحف الرواد للفنون التشكيلية"وكان في الأصل بيتاً لعائلة الكيلاني البغدادية الشهيرة، فيما كان"معهد الدراسات الموسيقية"اصلاً بيتاً من بيوت عائلة شهيرة اخرى هي عائلة الخضيري. هذه البيوت وغيرها بالعشرات"أكل عليها الدهر وشرب"ما حدا بـ"الهيئة العامة للآثار والتراث"الى اتخاذ خطوات يقول مهندسها محسن كاظم عباس انها تعتزم"اعادة الحياة الى الكثير من هذه البيوت وجعلها مناطق سياحية او متاحف تاريخية يؤمها السياح لكي يطلعوا على تاريخ بغداد".
ومن هذه البيوت التي سترممها الهيئة، بيت الوالي العثماني جمال باشا الذي انتهت ولايته على بغداد عام 1912 حين انتقل منها الى بلاد الشام. والبيت بعد سقوط الدولة العثمانية آل الى الادارة الانكليزية واتخذ مقراً لشركة النفط البريطانية حتى عام 1958.
وبما ان للبيوت رائحة ولوناً وطعماً، ولها مذاق خاص، وبما ان المسافر كان يقال له انك لا تعرف مدينة من دون ان تشم روائح جدرانها، لذلك يأمل البغداديون ألا يظل الاهتمام محصوراً ببيوت من دون غيرها، فثمة بيوت من الكاظمية والكرخ والأعظمية ومنطقة الشيخ عبدالقادر والبتاويين والدوريين والشواكة، تستحق ان تظل علامات على مراحل من حياة بغداد ودالة على ازمنتها.
* نشرت في"الحياة"2001