نور الدين فارس.. مبدع يرحل في مغتربه القسري

نور الدين فارس.. مبدع يرحل في مغتربه القسري

عواد علي
مريضا، واهنا، حالما بالعودة إلى وطنه وأهله في مدينة الليمون والبرتقال «شهربان»، فارق الحياة الكاتب المسرحي والأكاديمي العراقي البارز نور الدين فارس
يوم الخميس 17 كانون الأول الحالي، في مغتربه القسري بهولندا، تاركاً ذخيرةً من النصوص المسرحية، أغلبها بالعربية الفصحى، تزيد عن عشرين نصاً، ابتداء من أول نص كتبه في العام 1965، منها: جدار الغضب، أشجار


الطاعون، لتنهضوا أيها العبيد، الينبوع، البيت الجديد، الغريب، عروس بالمزاد، الوريث، كوميديا الأرض، الكراكي، الأبرة واللهب، جنة الأسلاك الشائكة، ودراسات وترجمات عن مختلف قضايا الدراما والأدب والفن، ومقالات في النقد المسرحي.
تعرّفت على كتابات الراحل المسرحية أول مرة في النصف الأول من سبعينيات القرن الماضي حينما قدمنا له في مدينة كركوك مسرحية «البيت الجديد»، التي تتناول موضوعة الصراع الطبقي، وأطماع الفئات الاجتماعية المتنفذة في الاحتفاظ بسلطتها البطرياركية ومصالحها، والإبقاء على عبودية المرأة، ووقوفها ضد التغيير.
ولم يتسن لي اللقاء به في بغداد لأنه غادر العراق إلى بلغاريا في العام 1974 للدراسة في معهد التمثيل العالي بصوفيا، حاملاً شهادتي الدبلوم في التمثيل والإخراج وبكالوريوس لغة عربية.
وبعد خمس سنوات نال الدكتوراه في الأدب المسرحي عن أطروحته حول «المسرحية العراقية بين 1958– 1974»، لكنه لم يستطع العودة إلى بلده بسبب إعدام شقيقه الفنان التشكيلي شمس الدين فارس إثر انهيار الجبهة بين السلطة والحزب الشيوعي الذي كان من أنصاره أيديولوجيا، وما نتج عن ذلك من
ملاحقات واعتقالات طالت أهله ورفاقه وزملاءه.
كما عانى من صعوبة البقاء في بلغاريا لأن قانونها لا يسمح له بذلك بعد إكمال دراسته، لذا لم يجد أمامه سوى السفر إلى أي بلد يمكنه العيش فيه، فكانت الجزائر خياره حيث استقبلته للتدريس في كلية الآداب بجامعة وهران، وتقديم المحاضرات في قسم النقد والأدب التمثيلي حتى تأسيسه لأكاديمية المسرح في وهران مع عدد من زملائه المسرحيين العراقيين.
وكان له دور بارز في تخريج عشرات الممثلين والمخرجين الجزائريين، والإشراف على رسائل طلبته في مرحلة الماجستير.

مؤسس وممثل
لم تقتصر جهود نور الدين فارس المسرحية على التأليف فقط، بل كان واحدا من مؤسسي «فرقة مسرح اليوم» في العام 1968، التي ضمت مسرحيين وسينمائيين كبارا مثل: جعفر علي، منذر حلمي، علي فوزي، فاروق أوهان، أديب القليه جي، قاسم حول، علي رفيق، وداد سالم, فاطمة الربيعي، مكي البدري، سعدية الزيدي، عزالدين طابو، عبدالوهاب الدايني، وجدي العاني، صفوت الجراح، فيصل المقدادي،
وبسام الوردي. وقدمت أول مسرحية من تأليفه «الغريب» وإخراج جعفر علي.
وقد واصلت الفرقة إنتاج مسرحياته (الينبوع، العطش والقضية، عروس في المزاد وغيرها)، واحتلت مكانة مرموقة في الحركة المسرحية العراقية خلال السبعينيات الى جانب الفرق التي سبقتها (فرقة المسرح الفني الحديث، فرقة المسرح الشعبي، فرقة اتحاد الفنانين، والفرقة القومية).
وكان فارس كثيرا ما يواكب تمرينات الفرق التي تنتج نصوصه بشكل يومي، ويسهم في نقاشها وتحليلها وتعديلها مع مخرجيها وممثليها.
ومثّل دورا وحيدا على المسرح في حياته خارج معهد الفنون وهو دور «لينين» في مسرحية «أجراس الكرملين» التي قدمتها «فرقة الصداقة» بإخراج أديب القليه جي.

أشجار الطاعون
كانت مسرحيته الأولى «أشجار الطاعون»، التي أخرجها الفنان الراحل جعفر السعدي لفرقة المسرح الشعبي في العام 1967 نقلة نوعية في الكتابة المسرحية العراقية، فقد قارب فيها موضوعة مجتمعية معقدة هي موضوعة الإقطاع، من خلال شخصية إقطاعي يغتصب الأرض (رمز الوطن) والمرأة (رمز الشعب) مدعوما من نظام
سياسي جائر.
وتميزت فنيا بصنعتها الدرامية المحكمة، وتنوع شخصياتها، وابتعادها عن التقريرية أو المباشرة التي كانت تطبع أغلب النصوص السابقة.
كما استقبلها الجمهور بإعجاب كبير، وذاع صيتها فسجلها التلفزيون وبثها مرات عديدة، في حين كان ينأى عن تسجيل المسرحيات الجادة آنذاك.
الغريب
تدور مسرحية «الغريب» حول شخصية كادح بسيط وساذج اسمه «شدهان» لم يكن ليتصور أن الإنسان يمكن أن يُباع ويُشترى مثل أي بضاعة في السوق، لذلك كانت ردة فعله عنيفة جدا، على نحو غير متوقع في بيئة تعودت على استغلال عمل الإنسان بحكم القانون والنظام، فهو ينشده وينذهل حين يتساوى هو ودابته في كفتي ميزان العمل.. إنه الأمر الواقع الذي لم يستطيع أن يدركه بفطرته السليمة وقلبه الكبير ونفسه الصافية.
ومن هنا كان الصراع مزدوجاً بينه وبين نفسه، وبينه وبين من يريد شراء قوة عمله. المسرحية تجسيد لمقولة ماركسية بمقاربة درامية تضعها في سياق الواقعية الاشتراكية.

خصاله
قبل وفاة فارس تحدث عنه الممثل علي رفيق، الذي عاصره ومثّل في عدد من مسرحياته، قائلاً إنه «يتمتع بأخلاق عالية، محب لمن حوله، يضحك من القلب ويحزن من القلب، ومن المؤسف أن ينتهي به مريضا واهنا، بعيدا عن وطنه وأهله وناسه، ومسرحه العراقي الذي طالما أعطى له جهده ووقته وضحى بالغالي والنفيس من أجله».