الدكتور نور الدين فارس... الوطن أقدس عقيدة آمنت بها

الدكتور نور الدين فارس... الوطن أقدس عقيدة آمنت بها

قاسم حسن

ينحدر الفنان والكاتب المسرحي الدكتور نور الدين فارس من مدينة الليمون والبرتقال ( شهربان) في ضواحي المقدادية الى الشمال الشرقي من العاصمة بغداد هذه المدينة التي تُعرف بتنوع سكانها الثقافي والاثني وتعدد القوميات والأديان ، درس في مدارسها حتى انتقاله الى بغداد لإكمال دراسته الجامعية، في اللغة العربية حيث كان مولعا بها،

وكذلك حبه للمسرح لإدراكه أن للمسرح أهمية كبيرة في توعية وإمتاع الناس، كما يقول ، ومنذ الوهلة اولى لوجوده في بغداد تنوعت علاقاته بوسطها الثقافي والفني وكبرت وامتدت مع كتاب وفنانين ومبدعين، من كافة الاختصاصات الثقافية والفنية ، إضافة الى تدريسه في مدارسها (اللغة العربية ) في ستينات القرن الماضي ساعده ذلك على تأليف وكتابة المسرحيات حيث كان اولها العام 1965 بعنوان (أشجار الطاعون)

غادر الكاتب والفنان نورالدين فارس، بلده العراق العام 1974 ، لغرض الدراسة في صوفيا ، العاصمة البلغارية، في بداية اﻷمر ، مؤمنا بالتفوق العلمي والعودة للوطن ، كسائر الطلبة من مجايليه الذين كانوا شغوفين لطلب العلم ، لكن تدهور الوضع في الوطن ، عندما تسلم صدام حسين ونظامه المعادي للثقافة والمثقفين زمام أمور البلد منفردا وزمرته ، حيث تدهورت الأمور كثيرا ، الملاحقات والاعتقالات طالت أهله ورفاقه وزملاءه والمقربين منه ، والأكثر من هذا كله هي مأساته في إعدام شقيقه الدكتور شمس الدين فارس ، الرسام والفنان التشكيلي ، على ايدي جلاوزة النظام الصدامي ، هذا ما حال دون عودته ، ومن هنا بدأت رحلته في المنفى التي امتدت لغاية اليوم ، أي أكثر من أربعة عقود وهو يتنقل في بلدان الشتات ، لكنه كان يحمل العراق وهمومه في قلبه وضميره، أينما حل ، كتابته للمسرح والتلفزيون وتدريسه في اكثر من جامعة عربية ، وتأسيسه لأكثر من فرقة وتجمع .
في الجزائر أسس الدكتور نور الدين فارس أول أكاديمية للمسرح ، في مدينة وهران ، كان يشاركه فيها زملاء له من الفنانين العراقيين ايضا ، تخرج منها أجيال من المخرجين والممثلين المسرحيين ما زالوا يتذكرونه في نجاحاتهم في الجزائر والمغرب العربي، والمحافل الدولية والمهرجانات المسرحية في العالم العربي والدولي... محطته في الجزائر هي الأكثر عطاءا في حياته الأكاديمية والعملية ، مدرسا ومعلما ومشرفا على اطروحات طلبته في الماجستير وغيرها.
يُعد الدكتور نور الدين فارس من الكتاب المهمين للمسرح العراقي ، وبالرغم من كثرة بحوثه في الدراما والمسرح والدراسات الادبية والفنية التي نشرها في الصحف والمجلات المختصة ، العراقية والعربية منها، إضافة الى ترجماته في هذا المجال أيضا ، فهو مثابر في الكتابة للمسرح..
بعد نجاح مسرحيته الأولى ( أشجار الطاعون) في تشخيصها على خشبة المسرح بإخراج الفنان الكبير الراحل جعفر السعدي الى فرقة ( المسرح الشعبي) ونجاحها بشكل كبير ، بادر الى كتابة مسرحية ( البيت الجديد) التي قدمت من خلال فرقة ( اتحاد الفنانين) وأخرجها الفنان عبد الوهاب الدايني والتي لعب الدور الرئيس فيها الفنان الراحل منذر حلمي ... وعرضها في تلفزيون بغداد ، مما شجعه ايضا ، واضافة الى حماسه ليس للكتابة فحسب ، بل تعدتها الى مفاتحة زملاءه من الفنانين والمبدعين ممثلين ومخرجين وعاملين في المسرح ، الى التفكير في تأسيس كيان مسرحي مستقل ، حينها اجتمع فناني تلك المرحلة من المؤمنين بأهداف المسرح ورسالته الانسانية وحاجة المجتمع له لتأسيس هذا الكيان الذي اسموه (فرقة مسرح اليوم ) العام 1968وسرعان ما انضم إليهم الآخرون ... جنبا الى جنب من أجل المسرح ، فكان لها الفنانين .. ، منذر حلمي وعلي فوزي وفاروق أوهان وأديب القلية جي وقاسم حول وجعفر علي وعلي رفيق ومكي البدري وغيرهم ..
ابتدأ العمل في هذه الفرقة التي لم تحصل على الاجازة من السلطات إلا نهاية العام 1969 حيث قدمت أول مسرحية من تأليفه ( الغريب) وإخراج الفنان جعفر علي.
ومن المفارقة الجديرة بالذكر أن هذه المسرحية لم تحصل على الإجازة الرسمية ، إلا قبل دقائق من عرضها بحضور رجال أمن وجلاوزة لا علاقة لهم بالمسرح ولا الثقافة ولا الفن ... ولم يسمح بعرضها أكثر من اسبوع
وبالرغم من قلة الفرق المسرحية في العراق ( وفي بغداد خاصة) كان كتٌاب ومؤلفي المسرح قليلين جدا ايضا ، حيث كان نور الدين فارس.. مؤلفا قد يكون الوحيد في فرقة مسرح اليوم ... أو على الأقل في بدايتها.. وسبق لفرقة ( المسرح الشعبي) وفرقة ( اتحاد الفنانين) أن قدمت مؤلفاته .. وتجدر الإشارة بأن هناك ظاهرة أو شبه عُرف أو تقليد دأبت عليه الفرق المسرحية في الستينيات من القرن الماضي وهو أن يكون في كل فرقة مسرحية مؤلف وكاتب ، ولا يعني هذا ان تكون الفرقة حكرا على مؤلفاته بل هو تقليد ، دون سابق إتفاق ، وهذا ما لمسناه في فرقة ( المسرح الفني الحديث) هناك كاتب كيوسف العاني مثلا ، والكاتب طه سالم في فرقة ( اتحاد الفنانين) ، وعلي حسن البياتي كان يكتب الى فرقة ( 14 تموز) وهكذا من الطبيعي أن يكتب المؤلف لفرقته ، ولا يمنع هذا أن تقوم فرقة أخرى بالاستعانة او بتمثيل مسرحياته.
سُأل الدكتور نور الدين فارس مرة ، إن أغلب المسرحيات التي كتبتها باللغة العربية الفصحى ، لكنها عندما تقدم على المسرح تكون باللهجة الشعبية ... كيف تفسر ذلك ؟ ولماذا ؟
يجيب نور الدين فارس بما يلي :- هذا صحيح ، وقد نُشرت كافة مسرحياتي باللغة الفصحى ، إلا أن للّهجة الشعبية سحر وطعم خاص لدى المشاهد العراقي لأنها تتحدث عن همومه وآماله ، وتلاقي إقبالا واسعا من الجمهور ، بالرغم من قناعتي بأن اللغة العربية الفصحى أجمل ، وفيها من الصور الجميلة والغنية، ومسرحية ( الينبوع) خير مثال على ذلك لأنها قدمت كما هي.
باللغة العربية الفصحى أغلب ما كتبه الفنان والكاتب منذ السطر الأول الى هذا اليوم ، وخاصة في التأليف المسرحي ، كان يلامس هموم الناس ومشكلاتهم ، وأمانيهم ويدافع بشكل جلي وواضح عن قضايا الناس وآمالهم وتطلعاتهم ... فمنذ أول مسرحية كتبها العام 1965 بعنوان ( أشجار الطاعون) الى آخر مسرحية قدمت له على المسرح العراقي في بغداد العام 1973 بعنوان ( عروس بالمزاد) ، هذا حتى خروجه من الوطن ، وبالرغم من تأليفاته التي مُنعت او حُرم على المسرحيين من تداولها لكنه إستمر في التأليف والانتاج الابداعي ، حتى وهو على مقاعد الدراسة وفي المنفى ، وأخرجت له عشرات المسرحيات في خارج الوطن ، ومن عناوين مسرحياته يستدرك القارئ ، موضوعاتها وأهدافها ولمن كتبت ، وأي موضوع تناولت ، بعد مسرحية ( الغريب) كانت مسرحية (العطش والقضية) و( القضية رقم 1) ومسرحية ( الينبوع) .. فضلاً عن الكثير من المؤلفات التي تناولها المسرح الجزائري أثناء أقامته فيها ... ومازال بحوزته الكثير منها الذي لم ينشر بعد.
أنهى الدكتور نور الدين فارس دراسته الأكاديمية في صوفيا ( بلغاريا) العام 1979 حاصلا على شهادة الدكتوراه في ( فلسفة الفن) على أمل العودة للعراق لكن ما منعه من ذلك هو تدهور الوضع وتصاعد وتيرة القمع للوطنيين العراقيين وإعدام أخيه الدكتور شمس الدين الفنان وصاحب أجمل جدارية في واجهة سينما بابل وسط بغداد والتي مازالت شاخصة بالرغم من الاهمال والحروب والكوارث التي مرت على العراق .
لم يستطع البقاء في ( بلغاريا ) بعد أن اكمل دراسته فيها ولا يستطيع العودة للوطن لأسباب قاهرة ( أشرنا لها) وعليه مغادرة البلد الذي هو فيه لأن قانون الدولة ( بلغاريا) لايسمح للطالب في البقاء بعد إكمال دراسته ، لذا لم يجد أمامه سوى السفر الى اي بلد يمكنه العيش فيه، وكان لا خيار امامه سوى المغادرة الى الجزائر الى منفى آخر ، لم يكن اختياره سهلا ، خاصة في تلك الظروف ، ومع هذا وصل الجزائر العام 1979 ليباشر عمله في مجال التدريس حيث عُين استاذا في كلية الآداب في جامعة وهران أحد اكبر الجامعات في الجزائر ومحاضرا في قسم/ النقد والأدب التمثيلي/ وايضا مشرفا على طلبة الماجستير حتى تأسيسه لأكاديمية المسرح والتمثيل في وهران.
لم ينقطع عن التأليف المسرحي وعن الكتابة للأدب والفن من بحوث ودراسات ... حيث نشر وأخرجت له العديد من الاعمال المسرحية والتلفزيونية و كتب مسرحيات كثيرة منها على سبيل المثال ( الدوامة ) و( القيثارة والجلاد) و( ينبوع القيامة) و( كوميديا الأرض) ولا تبتعد مواضيع مسرحياته عن بلده العراق ووضعه ومحنته ولاعن قضايا الناس عربيا وعالميا.
نور الدين فارس مؤسس مجدد
يقول الفنان علي رفيق الذي عاصر الفنان نور الدين فارس ومَثلَ في أكثر من مسرحية من تأليفه...
ما أريد قوله عن نور الدين فارس رغم انني لست ناقداً ، الا انني انطلق في قولي من مواكبتي لنتاجات نور الدين فارس ، أغلبها وليس جميعها، كممثل فيها فقد مثلت دور “غضبان” في مسرحيته “ اشجار الطاعون” التي انتجتها فرقة المسرح الشعبي واخرجها الفنان الراحل جعفر السعدي العام 1967 وعرضت على المسرح القومي في بغداد وكان نصها بشهادة الكثير من النقاد والمهتمين في المسرح نقلة نوعية في الكتابة المسرحية العراقية فهي عالجت قضية مجتمعية معقدة هي موضوعة الأقطاع ،حيث يعالج الشخصية – النموذج وهي تغتصب الأرض ”الوطن” والمرأة ”الشعب” مدعومة من نظام جائر . وتأتي إيجابية نص نور الدين انه تخلص من تلك التقريرية والمباشرة الفجة التی کانت تسود اغلب النصوص التي سبقته، فضلاً عن ان " اشجار الطاعون" تجسدت نصا واخراجا في عرض مميز بأسلوب واقعي وبمعمار أرسطي محكم.. وقد أثبت الكاتب درايته بفن الكتابة للمسرح ، علاوة على استخدامه للغة جديدة على المسرح العراقي توزعت على الشخصيات ولكل منها مفرداتها التي تعكس بعدها الطبقي والاجتماعي والنفسي .. فكان المشاهد يميز بين اللغة التي يستخدمها الإقطاعي المتجبر وبين تلك اللغة التي يتحدث بها الفلاح الفقير المسحوق ، وهنا لابد من الإشارة ان نور الدين فارس في " اشجار الطاعون " قدم الشخصية (النمطية) النموذج واستطاع ان يغور في عمقها الفكري والنفسي .
أستقبل الجمهور هذه المسرحية بترحاب بالغ وذاع صيتها مما أضطر التلفزيون الى تسجيلها وبثها لمرات عديدة وهو الذي كان ينأى عن تسجيل المسرحيات الجادة.
تكريم نور الدين فارس مطلوب الآن وليس غدا
ومن جانب آخر يقول الفنان الكبير علي فوزي الذي رافقه في رحلته الفنية والنضالية :
مثلت أدوارا رئيسية في أغلب مسرحياته التي قدمتها فرقتنا( فرقة مسرح اليوم) منها مسرحيات الينبوع ومسرحية الغريب، العطش والقضية، وعروس في المزاد ... وغيرها ايضا من الأعمال التلفزيونية ( الإبرة واللهب) لكن وقوفي امامه كممثل في الدور الذي لعبه ، وهو الدور الوحيد الذي لعبه كممثل في حياته المسرحية ، كان له طعم خاص حيث جسد شخصية تاريخية مهمة ومثيرة للجدل وقائد أممي بارز لم يسبق لأحد ان جسدها على المسرح خاصة ، في المسرح العربي ألا وهي ، شخصية القائد الأممي ( لينين) في مسرحية ( أجراس الكرملين) التي قدمتها ( فرقة الصداقة) بإخراج الفنان أديب القلية جي ... كان دوره مميزا ونادرا جدا في المسرح العراقي ، وكان لي الفخر أن اكون ضمن هذه الفرقة التي انضم اليها اجمل وارقى الفنانين المبدعين من ذلك الجيل الصاعد والمناضل....
مواضيع مسرحياته تدور دائما عن هموم الناس الفقراء وطيبتهم ومعاناتهم بشكل جريء ومسؤول ، حيث تتضمن النكتة الجارحة ، والهادفة بنفس الوقت ... بالرغم من أنه معروف بتضمين مؤلفاته حوارات طويلة قد تضطر المخرجين للتعامل معها بصعوبة ، لكنه يتقبل الأمر، ويحذف من الحوار، بروح رياضية عالية وبأخلاق فنان كبير حتى أنه لا يظهر عدم الرضى في داخله ، ديدنه دائما ان العمل للناس ، المهم فيه ايصال الفكرة النيرة والملتزمة بقضايا الناس والوطن .
نور الدين فارس من اعلام المسرح العراقي ... زميل ورفيق درب ،يتمتع بأخلاق عالية ، محب لمن حوله ،يضحك من القلب ويحزن من القلب... من المؤسف أن ينتهي به مريضاً واهناً ، بعيداً عن وطنه وأهله وناسه ، ومسرحه العراقي الذي طالما أعطى جهده ووقته وضحى بالغالي والنفيس من أجله ... على المعنيين في الدولة ونقابة الفنانين وأتحاد الأدباء تكريمه تكريما خاصا.
ويبقى نور الدين فارس واحدا من أهم المؤلفين للمسرح العربي ، كتب ونشر ومثلت له أغلب الفرق المسرحية العراقية والعربية العديد من المسرحيات .
ويؤكد ذلك الفنان علي رفيق بقوله:
ان دخول نور الدين فارس معترك الكتابة المسرحية جاء بعد متابعة متواصلة وجادة منه في هذا الحقل وعمله الدؤوب في الاطلاع على عيون الادب المسرحي العالمي، وهو بعد انهائه تحصيله الجامعي في اللغة العربية دخل معهد الفنون الجميلة – فرع المسرح ودرس الإخراج والتمثيل لخمس سنوات وشارك في جميع النتاجات المسرحية في المعهد وانغمر في ورشات العمل المسرحي التي كان يشرف عليها أساتذة المعهد . وعندما كان يكتب نصا يضع هدفه الأساسي تجسيده على الخشبة ولا يدعه حبيس الكتاب على الرغم من حرصه على طباعة معظم نصوصه في كتب .. ونور الدين فارس كان كثيرا ما يواكب تمرينات الفرق التي تنتج نصوصه بشكل يومي ويساهم في نقاشها وتحليلها مع مخرجيها وممثليها ، وكانت تلك التمرينات تشهد التعديلات والتدقيقات التي أسهمت في تقديم اعماله الناضجة.
مازال يعيش في هولندا .. كبيرا ومسنا .. الأمراض تدب بجسده الواهن يتابع قدر المستطاع ما يدور في بلده العراق .. لا يقوى على الكتابة ومازالت الكثير من مؤلفاته في ادراج مكتبته تنتظر من يخرجها الى النور ..