باسترناك وعاصفة «الدكتور جيفاكو» الحياة ليست نزهة في الحديقة

باسترناك وعاصفة «الدكتور جيفاكو» الحياة ليست نزهة في الحديقة

بنـدر عبدالحميد
دخلت العاصفة التي أثارتها رواية باسترناك الشهيرة «الدكتور جيفاكو» الآن مرحلة النسيان تماماً. لكن أسرار تلك العاصفة لا تزال تغري الكثير من النقاد والكتاب، للبحث في صلتها بشخصيات واقعية ارتبط معها باسترناك بعلاقات قوية.


ينتمي بوريس باسترناك إلى جيل المعاناة في الأدب الروسي (السوفييتي سابقاً) وقد عاش هذا الجيل آلام الحربين العالميتين، الأولى والثانية، وما بينهما وما بعدهما من حروب أهلية وحروب باردة، وانعكست في أعمال هذا الجيل صور فاجعة للعذابات الإنسانية، إلى جانب صور أخرى من قوة الإنسان واحتماله وبطولته وقدرته على معايشة الظروف الصعبة، تلك التي صورها باسترناك في روايته الكبيرة: الدكتور جيفاكو.
هيأ باسترناك نفسه في البداية لكي يكون موسيقياً، تحت تأثير الفنان الروسي الكبير سيكريابن، ثم أعدَّ نفسه لدراسة الفلسفة في موسكو وماربورغ في ألمانيا، ولكنه ترك الجامعة ليتفرغ للكتابة، فأنجز أعمالاً شعرية وروائية مهمة منها: فوق الحواجز، أختي الحياة، القطارات المبكرة، رسائل من تولا، الدكتور جيفاكو؛ إلى جانب الترجمات المختارة من الأدب العالمي التي نقلها إلى الروسية. وكان قد تلقى في طفولته تربية فنية متقدمة، على يــد والده الرسام ليونيد باسترناك وأمه الموسيقية روز كوفمان، وقرأ الأدب العالمي، الذي ترجم منه فيما بعد، أعمالاً مهمة لغوته وشيللي وفيرلين وكلايست وشيكسبير.
كان باسترناك معجباً بشخصية ماياكوفسكي، وتحدث في مذكراته كثيراً عن لقاءاتهما المشتركة، وعن جماعة الروس المستقبليين وشعراء تلك الفترة، وعن آنا اخماتوفا التي فصلت من اتحاد الكتاب بعد أن هاجمها «جدانوف"عام1946 واختارت المنفى. كتب باسترناك عن أحد لقاءاته الأولى بماياكوفسكي يقول:
قرأ ماياكوفسكي قصيدته المأساوية التي انتهى منها مؤخراً، وكنت أستمع إليه بإعجاب، وقد نسيت ما حولي، فأنا لم أسمع من قبل ما يشبه ذلك، كانت القصيدة الجميلة تحمل كل شيء... فهي تصور حديقة الطريق والكلاب وأشجار الليمون والمستخدمين والحلاقين والخبازين والخياطين والآلات ذات الأزيز والهدير، وفي موسيقاها الداخلية حركة حياة الناس كلهم، وحرارة ذلك الصيف الغامض.
غير أن باسترناك في وقت آخر قال: إن ماياكوفسكي قد صنعته دعاية السلطة، كما هو الحال مع البطاطا في عهد الإمبراطورة كاترين الكبرى.
كان باسترناك يعاني من عدم قدرته على التواصل مع الحياة من حوله ولكنه كتب يقول:
إننا لا نستطيع أن نتطور من دون المعاناة، ولا تتلاحق بيننا الأجيال، كل جيل يتطور عن سابقه دون أن يكون صورة منه، كما تريد لنا الغرائز.. وكما تفعل هذه الغرائز، بضحاياها من الطيور والحيوانات والنباتات. لولا الحب والفــن لوقع الإنسان تحت رحمة الغريزة، غير أنه يتصدى لها بالحب والفن وينتصر.
في فترة الحرب العالمية الثانية وما قبلها، أنجز باسترناك ترجمات مهمة من الأدب العالمي، أهمها: مختارات من أعمال شكسبير: هاملت، روميو وجولييت، انطونيو وكليوباترا، عطيل، هنري الرابع، الملك لير، ماكبث.
وكتب ملاحظات حول هذه الترجمة قال فيها: كما هو الحال عند الكاتب، يجب على المترجم أن يكيـِّف نفسه مع المفردات الطبيعية، ويتجنب التورط بالحرفية المزيفة في الأسلوب، فالترجمة الجيدة هي التي تخلق إحساساً بالحياة، وليست هي الحشو اللغوي المقابل للنص الأصلي.
ويضيف قائلاًَ حول شكسبير: إن اللغة المجازية هي وليدة عدم التجانس بين حياة الإنسان القصيرة وتطلعاته ذات المهام الطويلة المتراكمة، التي يكرس نفسه لإنجازها، ولهذا يتحتم عليه أن ينظر إليها بحدة، مثل الصقر، وأن ينقل رؤياه في ومضات يمكن إدراكها فوراً، وهذا هو الشعر: شخصيات تفوق حجمها، تستخدم الاستعارات لاختزال الروح.. إن سرعة ضربات رامبرانت ومايكل انجلو وتتيان هي ثمرة اختياراتهم المحضة، إن الحاجة إلى رسم العالم كانت تسيطر عليهم، ولم يستطيعوا أن يرسموا بطريقة أخرى.
في عام 1957صدرت عن دار «فيلترنيلي» الإيطالية ترجمة لرواية «الدكتور جيفاكو» لباسترناك، ثم ترجمت ونُشرت في أكثر اللغات الحية بعد ذلك، وفي عام 1958حصل باسترناك على جائزة نوبل للآداب عن هذه الرواية، التي تحولت إلى فيلم سينمائي عام 1966، لعب فيه دور البطولة عمر الشريف في دور «جيفاكو» وجولي كريستي في دور «لارا»، وكان من إخراج ديفيدلين.
أثار حصول باسترناك على جائزة نوبل عاصفة سياسية وصحفية واسعة، كان من نتائجها فصل باسترناك من اتحاد الكتاب السوفيات واعتذاره عن قبول الجائزة، وكان أول تعليق من إذاعة موسكو على حصوله على الجائزة، يقول، إنه «إجراء سياسي موجه ضد الاتحاد السوفييتي». وأعلن وزير الثقافة أن باسترناك مترجم بارع وشاعر مجيد، ولكنه في النثر ليس موهوباً بشكل خاص، ورأت الأوساط الرسمية أن هذه الرواية تؤكد أنه ما من ثورة يمكن أن يبررها التاريخ، وأن ثورة أكتوبر عمل غير مشروع، وأنها يمكن أن تودي بروسيا إلى كارثة تقضي على المثقفين النابهين فيها. ووجه باسترناك رسالة إلى خروتشوف ينفي فيها ما قيل بأنه ينوي الهجرة إلى الغرب، ويؤكد أن الرحيل إلى خارج وطنه يعادل الموت بالنسبة إليه.غير أن الحملة، ضد باسترناك، لم تنته حتى وفاته عام1960.
إذا كانت هذه الرواية تتحدث عن فترة من التحولات الكبرى في حياة الشعب الروسي، تحمل معها مآسي الحرب الأهلية وأحلام التغيير، فإنها تجري على خلفية أخرى هي المأساة الشخصية للشاب يوري زيفاكو، الذي يبحث عن الحب المستحيل ويشعر بالضياع بين زوجته والجميلة «لارا» التي يصفها باسترناك بأنها «ذات عبقرية واضحة، وهي شخصية رقيقة ووسيمة جداً» فمن هي الشخصية الحقيقية التي أوحت لباسترناك بشخصية «لارا»؟
إنها أولغا بافنسنكايا التي كانت في ربيعها الثلاثين حينما التقى بها باسترناك وهو في حدود الستين من عمره. كانت شقراء ذات جاذبية خاصة، وهي منفتحة الذهن، تعتقد أن الحياة لم تعطها حقها. انتحر زوجها الأول لأنه شعر أنها لا تحبه، أما زوجها الثاني فقد توفي بين ذراعيها... تقول «أولغا»: كان ثمة الكثير من المسرات والأحزان، لكن باسترناك اكتشف روحها من دون أن يتخذ منها موقفاً.
يقول يوري زيفاكو في الرواية: أنا لا أحب الإنسان الكامل الذي لم يرتكب أي خطأ، لأنه من البشر الذين لم يسبق لهم أن اكتشفوا جمال الحياة.
كان باسترناك غارقاً في حب أولغا، متأثراً بوجودها الذي يشبه المعجزة، ويقول لها"أنت هدية ربيعي، يا روحي العزيزة"ويضيف: إنها لارا التي تشعر بنفسها، مع أنها تدرك بأن في داخلها القليل من «زينايدا» زوجة باسترناك، ومنافستها الفعلية؛ وهذا هو دورها في الرواية أيضاً. تقول أولغا:
كنت معجبة به وأنا طالبة، في نهاية عام 1946كان شاباً أنيقاً ومهذباً، انضم إلى هيئة التدريس في معهد «السلام الجديد"وأوحى لي بأنه يشبه معبوداً أفريقياً. كان لقاؤنا أمراً محتوماً، وفي اليوم التالي حمل لي كتبي وأوصلني إلى المنزل، وبدأت حواراتنا، وخلال فترة وجيزة وقعت في حبه، ولكنه كان يكتم مشاعره. وحينما كنا نشق طريقنا في ساحة بوشكين، في إحدى الأمسيات، طلب مني أن استخدم أسلوباً أليفاً في مخاطبته، ولم يكن لدي هاتف في المنزل فأعطيته رقم هاتف الجيران، وبعد محادثة هاتفية طويلة اكتشفنا أن كلا منا يحب الآخر، وكانت تلك بداية لنزهات طويلة فوق الثلج وتحت الأشجار. وفي الربيع حينما يكون الطقس جميلاً، نتمشى تحت المطر الدافئ.
وقد بدأت حياته المنزلية تزداد سوءاً بعد أن علمت «زينايدا» بالأمر، وأخذت تصرخ في وجهه «يمكن أن أبصق على هذا الحب». وكان باسترناك يشعر بالمهانة، ولم يكن باستطاعته أن يتخذ قراراً سريعاً، وقالت عنه الشاعرة «آنا اخماتوفا» آنذاك: بوريس منافق متعجرف.
تقول أولغا «كان باسترناك ذا شخصية مندفعة، يؤمن بالقدر الذي جمعنا معاً؛ وأدرك أننا لا يمكن أن نفترق، كنا نلتقي كل يوم، وطلب مني أن أشاركه في الموضوعات الأدبية فسرني ذلك، وساهمت معه في رسم خطوط رواية «الدكتور جيفاكو» ولم أتخل عنه أبداً. وقد اعتقلت لفترة بعد أن دبّرت لي السلطات تهمة بأن لي علاقة ببعض الجواسيس؛ وشعر بوريس بالأسى العميق من أجلي، وابتعدت عنه قسراً، وأنا في منتهى السعادة والحب، فقام بمساعدة عائلتي وطفلي الذي كان يعيش من راتبي. ثم عدت، وبقيت معه حتى وفاته، وقد كانت كل قصائده صدى لحوارات أجراها معي.
كان يكتب في الغرفة التي نعيش فيها، ولهذا فإن في أعماله ظلالاً من القنديل الأصفر، ونزهاتنا تحت أشجار البلوط المنتحبة. وفي العام الذي سبق وفاته، كان لديه هاجس بأن علاقتنا توشك أن تنتهي، لكنه لا يريد أن يسبب لي قلقاً أو فزعاً. وفي شهر مارس/آذار التقى بالممثلين الذين يتدربون على تقديم مسرحية فاوست، التي ترجمها عن غوته، وكان متألماً جداً لشعوره بأنه مطارد على الدوام.
في عشية يوم من يونيو/حزيران وصل جثمانه إلى المقبرة، وكان الكفن مفتوحاً حسب العادة الروسية، يحيط به عدد من الأصدقاء الذين أحبوه وعدد آخر من الريفيين. وتم دفنه تحت شجرة صنوبر عتيقة، فوق هضبة. وبعد عزف المقطوعة الجنائزية لشوبان، حفروا اسم باسترناك على شاهدة القبر، إلى جانب عام مولده وعام وفاته (1890-1960) مع سطر من نهاية قصيدة كانت بعنوان «هاملت"من مجموعة أشعار يوري زيفاكو الملحقة بالرواية، يقول: الحياة ليست نزهة في الحديقة.
هكذا يتذكر باسترناك المعاناة دائماً، تلك التي ارتبطت بحياته العاصفة وصوّرها في قصيدة الطريق:

ها نحن نعبر الطريق الصاعد.
مرة أخرى، ونغادر الجسر.
والآن نصعد متسلقين إلى الأعلى
تماماً كانت الحياة هكذا وفعلاً
كدّ في الصعود والاندفاع الدائم
مع آلاف الرغبات الخفية
عبر الأزمنة والأمكنة، صعود وهبوط
عبر المغريات والمنغصات
التي تسبقنا بقوة نحو الهدف
هكذا عشت حياتك بكل أبعادها.

عن مجلة الكويت