انهارت جبال الثلج بين دمشق وبغداد

انهارت جبال الثلج بين دمشق وبغداد

بيروت – من سليم اللوزي:
حدث ذلك فجأة فأدهش جميع المراقبين السياسيين.. ان جبال الثلج التي قامت منذ عام 1949 في وجه العلاقات بين سوريا والعراق، قد إنهارت في الاسبوع الماضي، في نفس الوقت الذي كانت السيول والزوابع والامطار تجتاح فيه البادية التي تفصل بين دمشق وبغداد!

مقابلة عاطفية!
ولم يكن هناك "تكتيك" سياسي معين هو الذي قلب الموقف، كما يحلو للبعض ان يتصور، فان عقدة الخلاف التقليدي التي تكونت خلال عهود الانقلابات العسكرية في سوريا، قد حلت في مقابلة عاطفية!
كان ذلك يوم الاحد قبل الماضي، في 21 نوفمبر وفي القصر "السرصقي" الذي نزل فيه الملك فيصل الثاني ضيفا على الحكومة اللبنانية، ففي تمام الساعة الثالثة بعد الظهر، وصل الشيخ الجليل الرئيس فارس الخوري وبرفقته وزير خارجيته، السيد فيضي الاتاسي، وصعدا معا سلم قصر الضيافة لمقابلة الملك العراقي الشاب!
ووقف حفيد قائد الثورة العربية الكبرى، في أعلى السلم، يستقبل زميل جده في الكفاح والجهاد.. وقاد الملك الشاب، الشيخ الجليل الى صالون القصر، وهو يمسك بيده..

ولما هدأت أنفاس الشيخ الجليل، فتح عينيه الصغيرتين، ومر بكفه على شعره الابيض، وقال: "الحمد لله الذي مد بعمري حتى رأيت حفيد فيصل، شابا يملأ ضمائر العرب املاً وبهجة".
وتمتم الملك الشاب وفي عينيه بريق التأثر الممزوج باحترام كبير للشيخ الجليل، فقال: "شكرا".
لماذا؟... ولماذا؟
وخلال هذه الزيارة العاطفية اجتمع في زاوية من صالون القصر وزيرا الخارجية العراقية والسورية، فقال السيد موسى الشابندر الوزير العراقي: "لماذا لا تردون علينا السلام عندما نقرأه عليكم؟".
ودهش السيد فيضي الاتاسي الوزير السوري وقال: "وهل هذا معقول؟" وضحك الوزير العراقي وقال: "هذا ما حدث بيننا منذ عام 1949 فقد أرسلنا لكم من بغداد، مشروعا لالغاء تأشيرات الجوازات بيننا وبينكم فلم تردوا علينا، وهناك المشروع الاقتصادي الذي وقع بيننا بالاحرف الاولى عام 1949 ثم ركن فوق الرف"!

النتيجة المدهشة
وعاد الوفد السوري في المساء الى دمشق، وعقدت الحكومة السورية اجتماعا ليليا، برئاسة الشيخ الجليل فارس الخوري، وفي ساعة متأخرة اذيع بلاغ رسمي في دمشق جاء فيه: "أقرت الحكومة السورية مشروع قانون الغاء تأشيرات السفر بين سوريا ودول الجامعة العربية".
وعلى هذا الاساس اصبحت تأشيرات السفر ملغاة، بين الدول الاربع في وادي الهلال الخصيب وهي: لبنان، الاردن، سوريا، العراق!

المفاجآت تستمر
ولم تعقد المفاجآت عند هذا الحد، بل تتابعت على وقع انغام الامطار المتساقطة التي كانت تنهمر طيلة الاسبوع الماضي، وكأنها ستار من الصمت والكتمان ضربته الطبيعة حول مباحثات بيروت – دمشق – بغداد!
ففي اليوم الاول – اي الاثنين22 نوفمبر – أذيع ان الحكومة اللبنانية قد وافقت على مشروع تحويل انابيب البترول العراقي، التي كانت تصب في حيفا، الى شاطئ لبنان الجنوبي.
وكان هذا المشروع موقوفا منذ عام 1949 ايضاً، بسبب الجفاء الذي قام بين العراق وسوريا ولبنان، وكانت الخزينة العراقية تخسر كل سنة عشرة ملايين دينار بسبب رفض السوريين تحويل خط الانابيب للبترول العراقي وفي اليوم الثالث – اي الثلاثاء 23 نوفمبر – ارتفعت اصوات المسؤولين في بغداد ودمشق وبيروت، تطالب بتنفيذ الوحدة الاقتصادية بين العراق وسوريا والاردن ولبنان، بموجب اتفاقية موحدة، وبذلك تصبح منطقة الهلال الخصيب كتلة اقتصادية واحدة، لها سياسة جمركية واحدة، تطلق فيها حرية الانتقال للاشخاص والرساميل، وتؤلف قوة هائلة من 12 مليونا من السكان!

الملك يؤجل سفره
وكانت المفاجأة الاخيرة، ان الملك العراقي الشاب لم يسافر يوم الثلاثاء من بيروت طائرا الى بغداد – كما كان مقررا – بل أجل موعد سفره بسبب الامطار والعاصفة في الجو الى اليوم التالي..
وبسبب الامطار والعاصفة ايضاً، تقرر ان يسافر الملك يوم الاربعاء 24 نوفمبر بالسيارة الى بغداد مارا بالعاصمة الشقيقة دمشق!
وخرج رئيس الجمهورية اللبنانية وأعضاء حكومته وهم يرتدون السموكن والرنجوت والبونجور، ورافقوا الملك الشاب الى الحدود تحت وابل من الامطار حتى ان الماء كان يقطر من ثيابهم، واضطر بعضهم فيما بعد، الى ملازمة الفراش من شدة البرد!
وتحت مظلة سوداء للوقاية من الامطار، وقف الملك العراقي يصافح الرئيس اللبناني، فقال: "لن أنسى هذه الزيارة".
واجاب الرئيس اللبناني: "اعتقد انها ستكون زيارة تاريخية".

في دمشق
وفي الجانب الاخر، على الحدود السورية، كانت حكومة دمشق، قد استعدت لاستقبال الملك العراقي.. كان هناك وفد رسمي يتقدمه وزير الخارجية السيد احمد قنبر..
وقبل ان يصل الموكب الى دمشق، جاء ضابط الطائرة الملكية يقول: "تحسن الطقس، ويمكنناا السفر بالطائرة من مطار دمشق".
وتقرر ان يسافر الملك بالطائرة، ولكن بعد حضور مأدبة الغداء الفخمة التي أقامتها الحكومة السورية في مطعم المطار الدولي.. وكان المليك الشاب باسم الثغر، وكانت كلماته وتصرفاته تتم عن سعادته بهذه الزيارة المفاجئة للعاصمة السورية وكان يتطلع الى وجه الشيخ الجليل ويتأمل شعره الابيض كالثلج، وهو يردد: "أنا سعيد جدا، بلقاء رجل عظيم كفارس الخوري". وعاد الملك الشاب الى بغداد، وترك دمشق وبيروت تحلمان بالخيوط الجديدة.

... ولكن
ولكن ما هي الخيوط الجديدة التي تنسج اليوم في العواصم العربية الاربع، عمان – بيروت – دمشق – بغداد!؟
هل هي خيوط سياسية؟ عسكرية؟ أم اقتصادية فقط؟
اذا صدقنا الرجال المسؤولين، فهي خيوط اقتصادية بحتة ومشروع الوحدة الاقتصادية بين البلاد العربية، ليس جديدا، فقد سبق للحكومة اللبنانية ان تقدمت منذ نحو ثلاث سنوات، عن طريق امانة الجامعة العربية في القاهرة يطلب وضع ملحق لميثاق الضمان الجماعي، ينظم الوحدة الاقتصادية بين البلدان العربية، ولكن الاقتراح ضاع بين سحب الدخان في اجتماعات الامانة العامة بالقاهرة.. ويظهر ان النية قد إتجهت الآن الى البدء بتنفيذ الوحدة الاقتصادية بين تلك الدول.

الاوضاع النقدية
ومن أهم الاقتراحات التي يدور حولها البحث الآن، ما يتعلق بالاوضاع النقدية، اذ من المعروف ان العراق والاردن ينتميان الى كتلة الاسترليني، ولبنان ينتمي الى كتلة الفرنك، وسوريا مستقلة بتقدمها لا تنتمي الى احد.
وحيث انه من الصعب جدا – اذا لم نقل من المستحيل – توحيد النقد بين البلدان الاربع، فقد اتجهت النية الى وضع تعادل رسمي لاسعار النقد، فتجري المدفوعات بالاسترليني القابل للتحوّل الى حساب البلد الآخر، او باية عملة اخرى يقبلها البلد الدائن، ولهذا تسمح كل من الدول الاربع بتحويل العملات المنوه بها الى فريق البلد الاخر لتسديد المدفوعات الناتجة عبر تطبيق الاتفاقية الاقتصادية.

الاتفاق على التفصيلات!
ويبدو ان توقيع الاتفاق المبدئي قد تم بين الدول الاربع على هذه التفصيلات ولم يبق الا وضع النصوص وتوقيع الاتفاقية!
وقد تكون من غلاة المتفائلين اذا توقعنا ان يتم وضع الاتفاقية والتوقيع عليها بسرعة، فالحقيقة ان الخيول السياسية التابعة لدول الهلال الخصيب قد اجتمعت تحت الامطار!
ويبقى بعد كل هذا، او قل قبل كل هذا، الكلمة التي ستقولها مصر لمعرفة الطريق الذي ستسير فيه مركبة الدول العربية!

المصــــــور - 1952