من كتابات الراحل صادق الازدي

من كتابات الراحل صادق الازدي

كان الصحفي العراقي الرائد الراحل صادق الازدي قد كتب الكثير من ذكرياته الطريفة عن الحياة الاجتماعية في العراق قبل عقود ، تحت عنوان ( والذكريات صدى السنين )، وننشر هنا شيئا من هذه الذكريات النادرة .


الماطورات.. تلاحق الجسر الهارب
حتى احتلال الانكليز بغداد خلال الحرب العالمية الاولى، لم يكن في بغداد غير جسر خشبي واحد، تمتد الواحة فوق "جساريات" وهي جنائب ـ دوب ـ كانت في السابق خشبية مطلية بالقار، ثم استبدلوها باخرى حديدية. وكان يربط ـ الجسر ـ بـ "طوافات" شبيهة بالبراميل مصبوغة باللون الاحمر، وكانت موزعة على جانبي الجسر، وقد ثبت بأرض النهر بواسطة اثقال من حديد، ويتم وصل الجسر بكل منها بواسطة حبال معدنية مبرومةّ!
كيف صار قديما؟
وقد عرفنا هذا الجسر في العشرينيات وما بعدها، وحتى ازالته وبناء جسر الشهداء الحالي في مكانه، باسم "الجسر العتيك". بعد ان اقام الانكليز "جسر مود" في "شريعة العمار" حيث يقوم اليوم جسر الاحرار، وكان بطبيعة الحال احدث من الاول، واكثر متانة بفضل الكتل الخشبية الضخمة التي وضعوها في الماء عند مدخليه، لأنهم كانوا يستعملونه لعبور وسائل نقلهم الآلية.
و "مود" هو الجنرال ستانلي مود الذي دخل بغداد على راس قواته بعد ان انسحبت منها القوات العثمانية، وكان له تمثال عند باب مبنى السفارة البريطانية في محلة الشواكة فحطمه الناس في صباح يوم 14 تموز 1958. ويقول الاديب المحقق الشيخ جلال الحنفي في الجزء الثاني من كتابه "معجم اللغة العامية البغدادية" ان الجسر القديم كان طوله 220 مترا، وكان يقوم على 24 جسارية".

مدير الجسر
وكان يشرف على ادارة ذلك الجسر موظف انكليزي، يتقاضى راتبا ضخما وكان مقر عمله في بناية صغيرة تقوم على مرتفع عند مدخل الجسر في الرصافة غير بعيدة عن جامع "الوزير" وقد كتبت عنه جريدة "حبزبوز" في احد اعدادها تقول انه يتقاضى راتبا ضخما لقاء قوله للعمال العاملين بأمرته: "فك جسر.. سد جسر"، ففي حوالي الساعة العاشرة صباحا، كان العمال يقومون بتنحية عدة جساريات من وسطه لتمر السفن عبر الفتحة، فكان الناس يقولون: "انكطع الجسر" فيهرع الرجال الى مقهى كان يقوم عند جدار المدرسة المستنصرية، يشربون الشاي والقهوة، ويدخنون النراكيل، ويتفرجون على السفن المارة من فتحة الجسر، اما في جانب الكرخ فكانت المقاهي تحتل الارض المطلة على النهر من جانبي رأس الجسر، ومازالت بعضها باقية، وقد جددت بنايتها!

كيف "ينهزم" الجسر؟
وكان نهر دجلة، والفرات مثله، يفيض في فصل الربيع، وكانت فيضاناته حتى وقت غير بعيد مدمرة، وكانت بغداد تتعرض للغرق، وقد غرقت مرات، وكان الاتصال ينقطع بين جانبيها جراء صعوبة المرور على الجسر عندما يبلغ الفيضان ذروته، كما تتوقف حركة الزوارق والقفف بين ضفتي دجلة، وكان ضغط المياه يؤدي في بعض الاحايين الى تحطم الجسر، وجرف دجلة بعض جسارياته وما عليها، فيتحدث ناس بغداد عن "انهزام الجسر"، ويظل الاتصال بين الرصافة والكرخ متعذرا، حتى تنخفض مناسيب الفيضان فتستأنف الزوارق والقفف عملها، ثم يجلبون "القطعة المنهزمة" من الجسر بواسط’ الماطورات" من المكان الذي رست عنده، فيهرع الناس لاستقبال الجساريات المعادة، وهم يقرعون الطبول، احتفاء بعودة الجسر!!

ذكريات اخرى!
مما اذكره وانا طفل في الدراسة الابتدائية انني ذهبت الى بيت عمي في محلة الشيخ بشار، ولما اردت العودة الى بيتنا في القره غول وجدت الجسر ينهزم كالمرجوحة جراء الفيضان الذي رافقته عاصفة ترابية، فلم اجرؤ على اجتيازه، ورأيت بعض الرجال وهم يجتازونه زحفا على صدورهم!
واذكر ان كل الذين كانوا يعملون في الهيئة التعليمية بمدرستنا ـ التفيض الاهلية ـ والذين يقيمون في الكرخ وكذلك طلاب المدرسة في الكرخيين كانوا ينقطعون عن الدوام ليومين او ثلاثة، في ايام فيضان دجلة وتعذر اجتياز الجسر!!
واذكر ان "الجسر القديم" قد نقل عندما بوشر ببناء الجسر الحديد الى مكان غير بعيد عن الاول، وصرنا ندخله عندما نريد الذهاب الى الكرخ، من مدخله الواقع بين بناية القشلة، وبناية المحاكم قرب سوق السراي، اي نهاية شارع المتنبي!
وقد نقل الجسر بعد ذلك ليكون بديلا عن الجسر الذي كان يربط بين الاعظمية والكاظمية، ثم نقل الى احدى المدن بعد بناء جسر الائمة الحديدي في نهاية الخمسينيات!
كما ذكر ان "جسر مود" لم تشتد حركة العبور عليه الا بعد ان تنامت الحركة العمرانية في منطقة "الصالحية" وقامت المقاهي الصيفية، ثم اقيم مبنى الاذاعة فيها، والتي بدأت بثها عام 1936.
فما اعجب حكايات ايام زمان، غير البعيدة كثيرا؟
من هو ؟فيلم (ليلى في العراق)...
كانت وزارة نوري سعيد العاشرة هي الوزارة التي جاءت في اول سنة 1949، فقد تالف في يوم 6 كانون الثاني من ذلك العام وهو من ايام العطل الرسمية فهو يوم عيد الجيش الباسل.. وقد تألف على الوجه التالي:
نوري سعيد للرئاسة ولوزارة الداخلية وجلال بابان للمواصلات والاشغال ووزيرا للاعمال وكالة، وعبد الاله حافظ للخارجية، ومحمد حسن كبه للعدلية، وشاكر الوادي للدفاع، ونجيب الراوي للمعارف، وضياء جعفر للاقتصاد، وبهاء الدين نوري للشؤون الاجتماعية.!
وبعد شهرين، على وجه التقريب، صرنا نسمع ان النية متجهة الى تعيين نائب لرئيس الوزراء، ثم جرى تعديل الدستور، فكتبت اقول في احد اعداد مجلتي، ان تعيين نائب لرئيس الوزراء يعني ان منصب الرئاسة يتعب الرئيس، فكيف يصبح ذلك وهو يشغل وزارة الداخلية، فاذا كانت رئاسة الوزراء تتعبه ويحتاج الى نائب له فيه، فلم لا يتخل عن الداخلية؟
تعديل وزاري!
وعندما حل يوم 7 آذار 1949 جرى تعديل وزارة السعيد العاشرة، فتم تعيين، عمر نظمي وزيراً بلا وزارة ونائبا لرئيس الوزراء، وتعيين فاضل الجمالي وزيرا للخارجية، وتوفيق النائب وزيرا للداخلية!
معارضة عنيفة..
وكان مجلس النواب القائم يومها يضم عدة نواب من المعارضين المثقفين، مثل فائق السامرائي.. وعبد الجبار الجومرد، وحسين جميل، ومحمد حديد والشبيبي، والظاهر، ومحمد مهدي كبه، وغيرهم، وهنا صار بعض نواب الحكومة يصرخون ويقولون ان الاقلية، اي نواب المعارضة، يريديون التحكم بالاكثرية، اي نواب الحكومة، فكتبت في العدد 49 اقول تحت العنوان التالي:
الاكثرية والاقلية!
النغمة الجديدة التي صرنا نسمعها في الاونة الاخيرة، نغمة الاقلية والاكثرية في مجلس النواب، وقد قيد الشيء الكثير فيما دعي بتحكم الاقلية بالاكثرية، فاين هو التحكم يا ترى!
ان المقصود بالاقلية (جبهة المعارضة) وهي في الواقع تضم اقلية من النواب، واما الاكثرية فهم من المؤيدين.
وبطبيعة الحال لايمكن ان تكون الاكثرية معارضة، اذ لو كانت لما استطاعت الوزارة البقاء في الحكم، اللهم الا في حالة واحدة، وهي حل المجلس واجراء انتخابات جديدة!
والاقلية مهما عارضت لايمكن ان تتحكم ما دامت الاكثرية ستصوت لصالح الحكومة، فما الداعي اذن للقول بان الاقلية تريد ان تتحكم بالاكثرية!
ان الاكثرية تريد ان تمنع المعارضة من الكلام، وقد يكون في خطاب المعارضين مالا يبرره الوضع، وقد يتمادى بعضهم في النقد العنيف، ولكن هذا هو شأن المعارضة، فاذا حدث، كما حدث عندنا، وتقدمت الاكثرية باقتراح لمنع المعارضة من الكلام، فهذا هو التحكم!
من هو ص؟
وسألني احد القراء قائلاً: "من هو قرندل؟".. وبعد ان حدثته عن "قرندل البغدادي" الذي كان يدق الكبة ولايأكل منها قلت:
ونبهني بعض الظرفاء من اصدقائي الادباء الى وجود (قرندل) في العصر الجاهلي، وهو الذي قال البيت التالي:
واذا تكون كريهة ادعى لها واذا يحاس الحيس يدعى جندب!
اي انه كان يدعى عند نشوب المعارك، ولكنه لايدعى عند اعداد (التمرية)، وانما الذي يدعى هو (جندب).
وقال اديب آخر من اصدقائي: ان قرندل العصر الاسلامي هو الذي قال:
اذا قتلنا وما يرثي لنا احد
قالت قريش: الا تلك المقادير
نعطى السوية من طعن له نفذ
ولاسوية اذ تعطي الدنانير
وهكذا خلد التاريخ اكثر من قرندل، وهناك الالوف بل الملايين من الذين لم يذكرهم التاريخ، فانظروا حولكم لتجدوا المئات من اشباه هذا القرندل وذاك، وسبحان مقسم الارزاق!
"من هل بركه"!
وتحت هذا العنوان كتبت انتقد تفشي الرشوة في ذلك الوقت، وكانت الكلمة تحت عنوان: "من اين لك هذا؟!.. من هل بركه؟! " قلت في مستهله:
اعلن معالي سعد صالح وزير الداخلية في مجلس الاعيان انه سيخرج لائحة قانون الاثراء غير المشروع الى النور بعد اجراء تعديل جوهري فيها بحيث تشمل الموظفين كبيرهم وصغيرهم.. كلهم يك حساب، ماكو فرق.
ثم اوردت نادرة تقول انه في العهد العثماني زار احد الولاة انحاء الولاية، ولما وصل الى مدينة جد صغيرة، دخل على موظف فيها، وهو بداره، فوقع نظره على مائدة عليها كل مالد وطاب.
فقال الوالي للموظف:
يابه هاي منين جبت فلوس هالميز؟!
فابتسم الموظف وقال: مولاي هذا من هل بركه!
واشار بيديه اشارة ذات معنى، فقهقه الوالي.. واكتفى بذلك الجواب!
واشرت في مستهل ذلك المقال الى انه كان قد نشر يوم 7 نيسان 1946 في جريدة النديم وقلت: "وها انا اعيد نشره بعد ثلاثة اعوام مرة اخرى، فهل ساعيد النشر بعد ثلاثة اعوام ايضا.."!؟
ليلى في العراق!
ونشرت الجرائد والمجلات في ذلك العام تقول ان فلم "ليلى في العراق" ستعرضه سينما روكسي ابتداء من مساء السبت 10/12/1949.
وكان ذلك الفلم من انتاج ستوديو بغداد ومن تمثيل محمد سلمان، نورهان، عفيفة اسكندر، ابراهيم جلال، عبد الله العزاوي، جعفر السعدي، وغيرهم.
صح القول إن "الحلاقة" واحدة من أقدم المهن التي مارسها الإنسان، وقد يستغني إنسان اليوم عن شراء حاجة من الحاجات، كما قد يقاطع أكلة أو فاكهة أو خضرة، ولكنه لا يستطيع الاستغناء عن مراجعة الحلاق الذي يشذب شعر رأسه، أو يزيل لحيته أو يقوم اعوجاج شاربه، وليس بين العالمين كلهم من لا يفعل ذلك مع وجود ماكنة الحلاقة اليدوية والكهربائية لحلق اللحى، ولكن تظل بعض لمسات أصابع الحلاقة ضرورية للرؤوس، وبضمنها رؤوس الفلاسفة الذين أطلقوا شعور رؤوسهم!.


مهنة صعبة!
ولو عدنا الى العهود القديمة، وفكرنا بالأدوات البدائية التي كانوا يستعملونها في الحلاقة، عندها سندرك كم هي صعبة مهنة حلق الرؤوس واللحى في تلك الأيام الخوالي، بل حتى لو عدنا الى الوراء.. الى القرن التاسع عشر لوجدنا ان الحلاقة كانت تتم بصعوبة بالغة، وان الذي يشع رأسه بين يدي الحلاق لا يمكن ان تتم حلاقة رأسه ووجهه الا بعد اصابته بعدة جروح تسيل منها الدماء وقد انتشرت في الوجه والرأس!.
وإذا كان الإنسان اليوم يضع رأسه بين يدي الحلاق دون ان يرهبه "الموس"، فان الحلاقة قديما كانت مثل العملية الجراحية، ولا تتم إلا بعد مشقة!.

الحلاقون القدامى
وعندما نذهب اليوم إلى الحلاقين وهم يعملون في صالوناتهم وبعضها تستقبل أكثر من زبون في آن واحد، وتحلق لهم رؤوسهم ولحاهم، فان الحلاقين القدامى لم يكونوا كذلك!.. كان لكل محلة حلاقها وهو من سكانها، كما كان في معظم أسواق المدن بعض الحلاقين، وكذلك الأمر بالنسبة للشوارع الرئيسية، ولكن الدكاكين التي كانوا يعملون فيها غاية في البساطة، فليس في دكان الحلاق إلا المرآة والكرسي والمقعد الواسع الذي يجلس عليه بعض الزبائن، ثم أدوات الحلاقة وضرورياتها!.
الحلاق المتجول
وكان بعض الحلاقين يعملون وليس لأي منهم دكانه، فأنهم يتجولون في الأزقة والشوارع والأسواق، وهم يحملون "عدتهم" على بطونهم وقد الصقوا المكان المخصص لوضع أدوات الحلاقة على أحزمتهم عن البطن، او أنهم يضعونها في حقائب يدوية صغيرة، كما يحملون معهم مقاعد صغيرة يتم طيها وحملها باليد!.
وكان بين سكان محلتي – القره غول – احد اولئك الحلاقين واسمه "جرمط"، كما كان غير بعيد عن المحلة في منطقة "كهوة حجي عزيز" يقوم دكان "الحلاق حوكي" وقد كنت من زبائن الثاني في طفولتي، وان كان الأول قد علق بذهني كذلك لانه كان لا يكتفي بالحلاقة، بل كان يمارس "الحجامة"، ولست ادري هل كان يؤدي "خدمات طبية" اخرى مثل "حوكي" ام لا!.
أطباء
فان "حكومي الحلاق" مثل غيره من حلاقي أيام زمان كان يحلق الرؤوس واللحى، ويقوم بـ "ختان" الأطفال، كما كان يعالج بعض الأمراض ويصف الأدوية لها، وكان يتم الحصول على الأدوية من العطارين القريبين او من زملائهم في "سوق الشورجة"، ومعظم تلك الأدوية تتألف من النباتات والأعشاب.
وكان "حوكي" مثل غيره من الحلاقين، لا يقوم بالحلاقة وختن الأولاد حسب، بل كان يقوم بالحجامة كذلك، ولا لوم عليهم، فان اوضاع التخلف هي التي أعطتهم الحق في القيام بكل تلك الأعمال بسبب الجهل العام، والفقر السائد! فالحلاق كان لا يتورع عن ان يكون من أطباء الأسنان، فيخلع لك السن الذي تتألم منه.. وبـ "الكلابتين"!.
دكاكين حلاقة حديثة
وبعد قيام النظام المكلي، وتبليط شارع الرشيد، نشطت الحياة في "منطقة الميدان" فقد قامت في تلك المنطقة عشرات الفنادق والملاهي والدكاكين الحديثة للحلاقين والمخازن، وكان من أشهر الحلاقين في الميدان صالون عزت وصالون ياس، وكان معظم رجالات الدولة يحلقون رؤوسهم ولحاهم عندها، وكنت تجد في "صالونيهما" قبل حلول المساء بعض زبائنهما من العسكريين والمدنيين الذين دخلوا التاريخ بحكم اشتراكهم في الوزارات السابقة أو اشتراكهم في الحركات السياسية!.
وقد حل محل "عزت وياس" بعض الذين تعلموا منهما، وكان آخرهم "محمد مكي" الذي ترك العمل مؤخرا لاسباب صحية، وقبله فعل "مثله" عبدالله نصيف"، وهما من اشهر حلاقي الميدان، وكان يعمل في "الحيدرخانة" الحلاق كريم عباس – رحمه الله – وكان يقوم بحلق راس الملك فيصل الثاني.!

صالونات نسائية
ولم تكن صالونات الحلاقة النسائية معروفة عندنا، وقد تم فتح بعضها أول الأمر في "منطقة السنك" حيث كانت تقوم اهم الفنادي في حينه مثل: "زيا وسمير اميس وريجنت بالاس" وغيرها، ولما كانت نساء الانكليز العاملين في بغداد، وبعض الممثليات الاجنبية في العاصمة يحتجن الى من يحلق لهن شعورهن بعد ان شاعت في اوروبا موضة قص الشعر اثناء الحرب العالمية الاولى، فقد تم بعض الصالونات النسائية، وصارت بعض العراقيات من روادها بعد ان صرن يقصرن شعورهن، ثم صارت تلك الصالونات للتجميل اكثر مما هي لقص الشعر، وتكاثرت كصالونات الرجال التي نجدها انيقة، وواسعة، ونظيفة، وفي معظم مدننا، او كلها على الاصح!.