إسماعيل فهد إسماعيل وريـادة أسلوب تيــار الوعي

إسماعيل فهد إسماعيل وريـادة أسلوب تيــار الوعي

أ.د. صبري مسلم
حين أصدر الروائي إسماعيل فهد إسماعيل روايته (الحبل) عن دار العودة ببيروت عام 1972 لم يكن أسلوب تيار الوعي قد شاع في الرواية العربية، كانت ثمة روايات عربية تعد على أصابع اليد الواحدة حاولت تجريب هذه التقنية السردية ومنها رواية (الحبل) التي مزجت بين أسلوب تيار الوعي (Stream of Consciousness)

بوصفه تقنية سردية وأسلوب الحوار الداخلي (Interiour Monologue) إذ يتماهيان في هذه الرواية فضلا عن تقنيات أخرى جربها إسماعيل فهد اسماعيل في إصداره الروائي الأول (الحبل) وعلى النحو الذي تكشف عنه السطور اللاحقة.
يخطف النص زمن الرواية خلفا ويحدد ليلة غير مقمرة من ليالي العام 1962 حيث ينفذ كاظم عبيد بطل رواية (الحبل) عملية سرقة ثأرية إذ لم يستطع بطل الرواية أن ينسى ذلك الضابط القاسي الذي سلبه عشرين دينارا وزجاجة عطر وخمس علب سجائر كان قد كسبها من عمله المضني في الكويت، وحين سلم نفسه للشرطة كي تعيده إلى البصرة سرق منه هذا الضابط ثروة العمر كله وثمرة الكد والإرهاق فأضمر الشر لضباط الشرطة جميعا، وعبثا يحاول أن يجد تبريرا لسرقته، إنه غير مقتنع بها في قرارة ذاته الضائعة، ولكنه يريد أن يعيد التوازن إلى كيانه »وأجد التبرير في أني أثأر لنفسي، وأجد التبرير في أني لا أسرق أيا كان...« الحبل ص ??.
أراد كاظم عبيد أن يعبر عن إحباط لأنه تبرأ من فكره السياسي الذي آمن به في يوم من الأيام و لكنه لم يواصل مسيرته، وكان يتذكر باعتزاز قصيدته التي هجا فيها رأس السلطة آنذاك حتى إنه يحس بأن تلك القصيدة تعادل عمره ووجوده »قصيدة واحدة، عمرك أنت، قصيدة واحدة، وفي كل عملية سرقة تنقص قصيدتك بيتا، ترى هل نفد الرصيد؟ وكم مرة تحديت نفسك لأن تكتب قصيدة ثانية، فلم تجد من تهجوه غير زوجتك لأنها لا تشاركك ولو وجدانيا بالسرقة« الحبل ص 25.
ويستعيد كاظم عبيد مقولة أحد المناضلين من رفاق السجن »المناضل الصلب هو الإنسان الذي لا يرصد وقته وإمكانياته لإمتاع نفسه... واندفع يبرر رأيه بكلمات كبيرة، كان مثلي بريئا وأعلن عن براءته، ما أسهل الكلام وما أيسر التبرير، وذات ليلة شاهدته رغم الظلام و(??) نيام كان يأكل البيض المسلوق، أهله أوصلوا إليه البيض بطريقة ما، هو أخفى ذلك عنا، كان يأكل البيض ويخفي القشور في طيات ثيابه« الحبل ص 94، وبذلك يحاول كاظم عبيد أن يخفف من إحباطاته إذ لم يكن المتداعي الوحيد بل انهار سواه أيضا ولكن ثمة من واصل الدرب بإصرار.
ويتولى أسلوب تيار الوعي استبطان أعماق كاظم عبيد بطل الرواية وهو يوازن بين ماضيه السياسي المحبط وحاضره المخجل إذ يقدم على فعل السرقة »والقصيدة هي الجهد الوحيد الذي تولد عبر وازع يكاد يكون مبهما، الوضوح... أنا بلا... وابنه أفضل مني ومنا (وهو يعني ابن الحارس داخل النص) ولولا تركه لمكانه بعد إشعاله سيجارته مباشرة دون أن يراني لحدث ما لا تحمد عقباه (عليكم السلام، الله بالخير) لو تدري من أنا في الليل؟ الليل وكانت البصرة تنام بصمت متحفز علها تصبح على ثورة جديدة. ضابط وجنديان. تحت ستار ليل آخر شهر قمري. هجرة الرسول. وابتداء التقويم الهجري« الحبل ص 74.
ويتابع النص الأفكار والصور التي تنساب في ذهن الشخصية الرئيسة في الرواية معتمدا على أسلوب تداعي المعاني طوال تلك الليلة متخذا من المشاهد (خارج الذات المتأزمة) ومن حركة كاظم عبيد وسلوكه محطات يقف عندها مازجا بين هذا الراهن الساخن والماضي الكامن في عمق العقل الباطن الزاخر بالمتناقضات والذكريات التي قد تقطع فجأة نتيجة لظهور محفز من الخارج يتطلب إنقاذ الموقف والتواصل مع اللحظة الراهنة المعبأة بالفخاخ التي قد تعيد كاظم عبيد إلى السجن مرة أخرى ولكن هذه المرة بتهمة السرقة لا السياسة »صوت صفارة حارس ما يصله من بعيد. يقف في الظل. يرهف أذنيه. ينتظر. في ليلة هربي ـ سن العاشرة. قال لي أحد حراس الأسواق. كنت في الظلام لكنه رآني. بيده مصباح بطارية. ماذا تفعل هنا؟ تلعثمت. لا شيء أنام فقط« الحبل ص (52)، وعبر حركة تيار الوعي المنسابة نكتشف أعماق بطل الرواية ونعرف دقائق وتفاصيل عن حياته، ولا تكتمل صورته إلا في خاتمة الرواية.
إن إسماعيل فهد إسماعيل لا ينسق صوره المنسابة في ذهن بطل روايته كاظم عبيد وفقا لترتيب زمني مقصود فهو يوردها كما ترد في الذهن الإنساني بتلقائية وبدون أن يقسر بطله أو يثقل كاهله بأفكار خارج إطار السياق الروائي، ويلجأ النص إلى عملية تقطيع وبتر للصور في أجزاء كثيرة من الرواية، وهي لا تتصل إلا في ذهن القارئ الذي سيقوم بعملية تقطيع سينمائي (مونتاج) مكملا من خياله الأجزاء الناقصة (تلتفت إلي، عيناها ود وعطف، صحيح تعال إلى المطبخ. سأعد لك شيئا. ماذا تحب أن تأكل، أنت تضحك حتى يميل جسدها إلى وراء. وهو أيضا كان يضحك حتى سقط على قفاه. اعتدل في جلسته، أمسك مطرقته. قال: دعني أتم عملي ـ لن أبيعك حدوة الحصان هذه، إذهب لبيتكم« الحبل ص 103 ـ 104.
وفي رواية الحبل نجد سمات خاصة وطابعا متميزا في الأسلوب السردي، ومن هذه السمات الاعتماد على المفردة الواحدة الموحية بوصفها بديلا عن العبارة توخيا لمزيد من التكثيف، ويكرر النص المفردة الموحية بحيث تستثير حدثا أو خاطرة أو ذكرى مرت في حياة كاظم عبيد »حدوة الحصان. النجار. المسامير. أمه. أبوه. الحبل« (عنوان الرواية وأداة السرقة) الخشبة الناتئة، الصعود، النزول، الدم، وجه أمه الملطخ بدماء كفه، الإناء المعدني الذي ما عاد يصلح للطبخ، المطر، السيارة، البرتقالة المثلومة، تذكرة السينما«. الحبل ص 122.
ويفيد النص من المتن الطباعي إذ يميز بين زمن القص الراهن الذي طبع بحروف كبيرة بارزة وبين الزمن الماضي الذي يرد عبر وعي كاظم عبيد وقد طبع بحروف أصغر وهو ذو امتداد وسعة تستوعب حياة بطل الرواية كلها مرورا بطفولته ونشأته ومرحلة انتمائه وسجنه ورحيله، ويوظف النص لغة البياض إذ كثيرا ما يبتر الجملة بهدف أن تستكمل في ذهن القارئ وتوخيا للنص الدال، ونلمس احتفاء لافتا بالتنقيط وعلامات الترقيم، وهو يكثر من وضع النقاط بديلا عن الفاصلة لأن النقطة تشير إلى اكتمال الفكرة أو الصورة وإن كانت لفظا مفردا، وثمة إشارة خفية في هذه التقنية مفادها أن هذه الفكرة أو الصورة مرت بشكل سريع خاطف في ذهن كاظم عبيد: »أصابعه تحاول التشبث بالحبل. الطفلة. الفزع. السطح. الأرض...« الحبل ص 118، ويصل تيار الوعي ذروته حين يكون كاظم عبيد على وشك أن يفتضح سره وأن يلقى القبض عليه إذ تستيقظ الطفلة ابنة الضابط وسط تلك الليلة المظلمة »حدوة الحصان. النار!! الحبل!! ماما!! أمه! الحبل الليفي!... النار!! ماما!! النار!! الدم!! ماما!!« الحبل ص109.
وبذلك نؤرخ لرواية رائدة في مجال أسلوب تيار الوعي الذي يزود النص برؤية مركبة للشخصية الروائية يتآزر فيها باطن الشخصية مع ظاهرها بحيث تبدو الشخصية حية نابضة، صحيح أن رواية (الحبل) لم تتقيد بتفاصيل أسلوب تيار الوعي وكما وردت لدى جيمس جويس في روايته الشهيرة (يوليسيس) التي أرهصت بهذا النمط السردي والتي رصد فيها جويس ثماني عشرة ساعة في حياة بطلة مستر بلوم أو رواية (مسز دلواي) للروائية فرجينيا وولف التي سارت على خطى جويس في روايته الرائدة يوليسيس إلا أن إسماعيل فهد إسماعيل حاول الإفادة من هذه التقنية وبما ينعكس إيجابا على تجربته الروائية الأولي (الحبل) بل إن خيار أسلوب تيار الوعي هو الخيار الأمثل لأن بطل الرواية كاظم عبيد وقع فريسة لإحباط حاد ممتزج باغتراب أكثر حدة حين تبرأ من انتمائه وانهار تحت وطأة السجن والتعذيب ولم يجد ذاته بعد ذلك في أي انتماء، وهنا يكون أسلوب تيار الوعي مناسبا تماما في استبطان الشخصية وكشف عالمها الداخلي بلك مكابداته وإحباطاته.