روميل قال لي..

روميل قال لي..

عندما احتلت جيوش المحور واحة سيوة في الصحراء الغربية خلال الحرب الاخيرة.. كان مأمورها وقتذاك "الاستاذ عبد الرحمن زهير".. وها هو ذا يروي ذكرياته عن تلك الفترة الدقيقة التي مرت بها سيوة.

مركز مخابرات!
كانت الجيوش الانجليزية تتخذ من "واحة سيوة" قاعدة "ستراتيجية" هامة خلال الحرب العالمية الاخيرة.. وكانت مركزاً رئيسياً لنشاط المخابرات البريطانية في الصحراء الغربية كلها.

وكانت خطة دفاع الجيوش الانجليزية عن سيوة تنحصر في حماية خط مواصلاتها مع مرسى مطروح مركز تموينها على مدى 300 كيلو متر في الصحراء..
فلما انهزمت جيوشهم في العلمين وانهار خط مواصلات سيوة، اضطروا الى الانسحاب عنها الى طريق منخفض القطارة والواحات البحرية في يوم 25 يونيو سنة 1942، وبمجرد انسحابهم عنها احتلتها فرقة كاملة من الجيش الايطالي، ووحدة ميكانيكية المانية مصفحة بقيادة جنرال ايطالي.

حادث العلم
وكانت طلائع هذه الجيوش المحتلة فرقة صغيرة من الجنود الايطالية مؤلفة من 50 جنديا يقودهم ضابط برتبة "كولونيل" وبمجرد دخول هذه الفرقة سيوة اتجهت الى الساحة المقابلة لمركز البوليس واصطفت فيها.
وتقدم احد ضباطها الى السارية المرفوع عليها العلم المصري فأنزله من مكانه وربط معه العلم الايطالي ورفعهما معا الى قمة السارية.. فعل ذلك أمامي أنا ومفتش الصحة ووكيل البريد والاعيان والمشايخ، وكنا واقفين واجمين مذهولين.
وكان حولي عساكري الذين تتألف منهم قوة بوليس المركز – ولم يكن عددهم يتجاوز العشرين – فحركت الوطنية احدهم.. عندما رأى الضابط الايطالي ينزل العلم المصري، وإندفع يريد الهجوم عليه ليمنعه من إنزال العلم، ولكنني أمسكت به واثنيته عن التقدم.. ولاحظ الضابط الايطالي ذلك فالتفت الى الجندي، وتكلف الابتسام، وقال له:
- ما تخافش.. احنا مش ح ننزل العلم المصري.. احنا ح نرفعه مع العلم الايطالي سوا.
ثم تتابعت وفود باقي القوات المحتلة.. وأصدر قائدها منشوراً للاهالي يقول فيه ان جيوش المحور انما دخلت مصر لتطرد الانجليز منها، مع احترامها لاستقلال مصر.. وكان هذا المنشور يذاع عدة مرات يوميا من محطتي باري وبرلين وكانت القوات البريطانية عند انسحابها من سيوة قد حطمت اجهزة التليفون السلكي واللاسلكي فانقطعت كل صلة لي بحكومة بلادي.. وصرح القائد بأنني سأبقى في منصبي انا وغيري من الموظفين لمباشرة اعمالنا دون اي تدخل من القوات المحتلة.
وبعد ثلاثة ايام دعا الشيخ علي جيدة – أحد أعيان سيوة – القائد الايطالي ومعه 60 ضابطا من الايطاليين والالمان الى وليمة حضرتها أنا والطبيب ووكيل البريد، وجلست أنا الى يمين القائد.. فأخذ يحدثني عن نيات حكومته ومبلغ احترامها للتصريح الذي تضمنه منشوره الذي أذاعه بين الاهالي، فابتسمت وقلت له.
- لقد سبق ان أذاعت الجيوش البريطانية علينا مثل هذا التصريح عند احتلالها بلادنا منذ 60 عاما.. وللآن لم يخرجوا منها.. !
- ولكننا نرعى كلمتنا ونبِر بها.. وانتهت الوليمة، ودعوت القائد للركوب معي في سيارتي لاوصله الى مقر قيادته فقبل.. وفي الطريق أوقفت السيارة امام المركز واشرت الى سارية العلم، وقلت للقائد:
- وما رأيك في انزال علمنا .. ايتفق هذا العمل مع مغزى تصريحكم؟
- نعم.. فلقد رفعناه مرة اخرى مع علمنا..!
- ولكنكم عندما اتيتم رفعناه مرة اخرى مع علمنا..!
وقد جئتم الى مقر الحكومة المصرية الرسمي وانزلتم من فوق ساريته العلم المصري ورفعتم العلم الايطالي الذي لا يحق لكم ان ترفعوه هنا ولا في أية بقعة من بقاع الاراضي المصرية.. وكل ما يباح لكم هو ان ترفعوا على مقر وحداتكم الاعلام العسكرية المميزة لها فقط.
وما كدت انتهي من حديثي حتى التفت القائد الى الكولونيل الذي انزل العلم، وكان يركب في المقعد الخلفي للسيارة واشتبك معه في نقاش حاد. استمر حتى اوصلت الرجلين الى مقر القيادة الايطالية وعدت الى بيتي.
وقبيل المغرب في نفس اليوم بحوالي نصف ساعة جاء الكولونيل مرة اخرى الى ساحة العلم وانزل العلم الايطالي من فوق السارية، وطواه ووضعه تحت ابطه ومضى..
وكان انتصارا قوميا ابتهجنا له نحن الموظفين وجميع الاهالي واحتلفنا به احتفالا عظيما.

زيارة روميل
وفي ظهر يوم 21 سبتمبر سنة 1942 جاءني رسول من قبل القيادة الالمانية ينبئني بوصول "المارشال روميل" وانه قادم لزيارتي في القسم. وعلمت فيما بعد انه وصل في منتصف الليلة السابقة وكتم أمر وصوله خشية إصابته بأي مكروه.
ولما جاء استقبلته أنا ومشايخ وأعيان سيوة أمام القسم رسميا بقرقول حرس شرف، وكان يصحبه "الجنرال فون ارنهايم" القائد الالماني المشهور الذي أسره الحلفاء فيما بعد في موقعة "رأس بون" والقائد الايطالي وهيئة اركان حرب ومترجمان: ايطالي والماني، وعندما صافحني روميل قال لي مبتسما:
- انا مسرور اذ اقابل أول مصري له صفة رسمية.
وأدركت من قوله هذا انه كان على اتصال بمصريين ذوي صفة رسمية من أعراب الصحراء الغربية لاستخدامهم في اغراضه، ورأيت ان أبادله المجاملة فقلت له:
- انه حلم جميل لدى كل انسان ان يرى البطل روميل.. وقد اصبح هذا الحلم حقيقة بالنسبة الي فكم انا سعيد..!
ثم دعوته لتناول فنجان من القهوة فاعتذر بانه على عجل.. اذ ان القائد الايطالي قد دعاه للغذاء على مائدته، فدعوته لتناول الشاي بعد الظهر معي ومع أعيان سيوة في حديثه احدهم فقبل.
وفي منتصف الساعة الخامسة جاء هو وحاشيته الى حفلة الشاي. وجلست الى جانبه نتحدث في مختلف الشؤون.. وفاجأته بهذا السؤال:
- متى تنتهي وقفتكم في العلمين؟
وسكت لحظة.. وشعرت بخطئي وتسرعي في توجيه هذا السؤال الدقيق المحرج، ولكنه ما لبث ان إبتسم واجابني قائلاً:
- يلزم الصبر.
وبعد ان سكت فترة اخرى وجه الي السؤال الآتي:
- ما هو شعوركم انتم المصريين نحونا نحن الالمان؟
فاجبته على الفور:
- يا سيدي نحن مغرمون باستقلالنا وملكنا.
ثم وقف ايذانا بانتهاء زيارته، وقرب وجهه مني – وكان بيني وبينه الجنرال فون ارنهايم – وقال :
- ولكن يجب ان تعلموا لاستقلالكم.
فابتسمت ولم اجب.. وكانت مجاملة طيبة منه ان أمر احد المترجمين عند ركوبه في السيارة بان يهتف بحياة جلالة الملك فاروق.