موقف المثقفين من  ترشيح الأمير فيصل بن الحسين ملكاً على العراق

موقف المثقفين من ترشيح الأمير فيصل بن الحسين ملكاً على العراق

سامي عبد مشعب الموسوي
توقفت المواجهة المسلحة بين أبناء الشعب العراقي وسلطة الاحتلال البريطاني عقب ثورة العشرين ، إلا ان الروح الوطنية لدى العراقيين ظلت مندفعة نحو تحقيق أهدافهم الوطنية وتطلعاتهم المشروعة في الحرية والكرامة والاستقلال وقيام حكم وطني منبثقاً منهم ومعبراً عنهم .
فقد فرضت الثورة الوطنية الكبرى واقعاً جديداً أمام المحتلين البريطانيين واوقفتهم مباشرة امام غضبة الشعب العراقي ،

فكانت بمثابة المفاجأة الكبرى التي أحدثت صدمة لديهم وأسقطت رهاناتهم الاستعمارية ، واجبرتهم على العودة لمراجعة حساباتهم تجاه العراق من جديد . لقد فشلت توقعاتهم في العراق بعد الاحتلال لاسيما عندما فرضوا الانتداب عليه فكان رد العراقيين عليهم هو الثورة الوطنية الكبرى . فما ان خول مؤتمر سان ريمو بريطانيا وفرنسا الانتداب على العراق وبلاد الشام حتى هب الشعب العراقي في ثورته التحررية 1920 ، التي كان من نتائجها الواضحة انها فرضت تراجعاً نسبياً في السياسة البريطانية تجاه العراق الأمر الذي أدى إلى اقتناع البريطانيين بضرورة اشراك العراقيين في حكم بلدهم. تطلع العراقيون إلى الحكومة الواجب اقامتها في العراق ، فاختلفت آرائهم حول شكل الحكومة . فالجمهورية لها دعاة ، والملكية الدستورية لها دعاة آخرون وكان أنصار النظام الملكي مختلفين فيما بينهم ، فمنهم من رأى ضرورة تتويج رجل عراقي ، امثال ، عبد الرحمن النقيب، أو طالب النقيب ، أو عبد الهادي العمري رئيس الأسرة العمرية في الموصل ، وفي الجهة الأخرى وقف آخرون وكان رأيهم ترشيح أحد أنجال الشريف حسين بن علي من الأسرة الهاشمية في الحجاز للملكية ، كالأمير فيصل أو الأمير عبد الله أو الأمير زيد ، وهنالك جماعة قليلة كانت تروج للشيخ خزعل شيخ المحمرة (1897 – 1925) ، فضلاً عن شخصيات أخرى. لقد ساعدت الظروف التي مر بها البلدان العراق وسوريا في تهيئة المناخ المناسب لمجيء الملك فيصل بن الحسين إلى عرش العراق .
ففي العراق شكلت الثورة الوطنية عام 1920 سبباً مهماً وعاملاً أساسياً في تراجع بريطانيا عن سياستها تجاه العراق الأمر الذي أدى إلى اقتناع بريطانيا بضرورة قيام حكومة في العراق .
وأما في سوريا ، فأن استيلاء الفرنسيين على دمشق في الخامس والعشرين من تموز عام 1920 ، غير مجرى الأحداث السياسية ، وأفرز رؤيا جديدة في المنطقة ، لاسيما بعد خروج الملك فيصل من سوريا ، فقد أخذت الآراء السياسية في ترشيح ملك على العراق تتجه نحوه ، لما يحمله من صفات سياسية ومكانة ممتازة وسمعة طيبة حازت اعجاب العرب والبريطانيين إضافة إلى جاذبية شخصيته وسحرها .
كما ان معظم العراقيين كانوا مجمعين على تأسيس حكومة ديمقراطية دستورية برغم اختلاف الآراء حول نوع الحكومة الواجب اقامتها في العراق . وهذه كلها كانت تقف إلى جانب الملك فيصل وتزيد في احتمال ترشيحه ملكاً على العراق . وزيادة على ذلك فأن أهم ما قرره مؤتمر القاهرة الذي عقده السير (ونستون تشرشل W. Churchill) وزير المستعمرات البريطانية لقادة الشرق الأوسط في الثاني عشر من آذار 1921 ، الذي حضره الوفد العراقي المؤلف من السير برسي كوكس (Percy Cox) ، وجعفر العسكري وزير الدفاع وساسون حسقيل وزير المالية (في الوزارة النقيبية الأولى) والسير هالدين (Halden) القائد العام للقوات البريطانية والمس بيل (Miss Bell) ، هو إنشاء حكومة عربية يرأسها ملك عربي من البيت الهاشمي ، وقد وقع الاختيار على الأمير فيصل بن الحسين بعد ان اشترط ان يكون حكمه دستورياً نيابياً وان تكون الحكومة ديمقراطية يقيدها الدستور .
كل تلك الظروف والآراء التي قيلت في شخصية الملك فيصل ، جعلته المرشح الأول والمفضل لدى البريطانيين لاعتلاء عرش العراق ، كما ان الشخصيتين العراقيتين اللتين حضرتا مؤتمر القاهرة ، جعفر العسكري وزير الدفاع وساسون حسقيل وزير المالية كانا من المتحمسين لموضوع اختيار فيصل ملكاً على العراق ، حيث كانا يمثلان رأي النخبة العراقية المثقفة في كون فيصل مقبول دينياً من الطائفتين الإسلاميتين في العراق ، كما انه مقبول ايضاً من القوميتين الأساسيتين في العراق : العرب لأسباب دينية ونسبه من الرسول (صلى الله عليه وسلم) ، ومن الكرد لأسباب دينية ، وهي أمور لم يكن بوسع البريطانيين أيضاً ان يأخذوها بنظر الاعتبار كما ينظر إليها المسلمون عامة والعرب خاصة .
كان مؤتمر القاهرة بمثابة نقطة البداية المهمة للدعاية البريطانية لترشيح فيصل لعرش العراق ، والعمل من أجل ازاحة المطالبين الآخرين به ، وعلى رأسهم وزير داخلية الحكومة العراقية المؤقتة طالب النقيب الذي كان أكثرهم تحمساً للموضوع ، فتم اخراجه من البلاد ، ونفيه إلى الهند في السادس عشر من نيسان عام 1921 بعملية مسرحية غريبة ، تحولت إلى إشارة واضحة للمرشحين الآخرين . انعكست هذه الأحداث المهمة في تاريخ العراق المعاصر على مواقف الفئة المثقفة العراقية لاسيما الصحافة العراقية التي أخذت تتحدث شعراً ونثراً عن فضائل فيصل وأرجحيته وتؤكد على لسان تشرشل
ان الحكومة البريطانية تعتقد ان انتخابه يعني التوصل إلى (حل ينطوي على أكبر الأماني في مستقبل سعيد) وهو ان ينال العراقيون الاستقلال.
عملت الصحافة العراقية في تلك الفترة على إظهار الاتجاهات العامة للشعب التي تؤشر ميولهم نحو مرشحيهم ، وعن شكل النظام الذي يتبعه من يتولى إدارة شؤون البلاد العامة ، وبرزت في هذا الميدان السياسي جريدة العراق وكانت من الصحف السباقة لتغطية الحدث المهم في حياة الشعب العراقي. ودافعت بحماس شديد في الترويج للبيت الهاشمي وأظهرت الجريدة رغبتها في ان يتولى عرش العراق أحد أبناء الشريف حسين بن علي .
فقد نشرت جريدة العراق مقالاً في 4/أيار/ 1921 وصفت فيه البيت الهاشمي بأنه (أقدم البيوت حباً ونسباً ومجداً ، وأنه فرع من فروع الشجرة الطاهرة النبوية) . كما واصلت الجريدة إبراز الغاية في الملكية من خلال إظهار محاسن البيت الهاشمي ، وطرحت تساؤلاً في مقالها : (من يجب ان يكون ملكاً على العراق) ، وأجابت عن تساؤلها ، بأن غاية الملكية هو ان يكون الحكم للأمة أما الملك فأنه تابع لإدارتها ، واختياره من هذا البيت يمنح العراق مركزاً سامياً.
واستعرضت الجريدة في مقال آخر دور فيصل في الثورة العربية ومؤتمر الصلح وتغنت بمزاياه السياسية والعسكرية ، وانه (نابغة العرب في القرن الرابع عشر الهجري) . وأضافت موجهة الجريدة كلامها إلى العرب أنه (من حق العرب ان يفتخروا بفيصل كما يفتخر الألمان ببسمارك والايطاليون بغاريبالدي) .
لقد أكدت جريدة العراق موقف الفئة المثقفة العراقية في مؤازرتها للأحداث المهمة في العراق ، كتأييد الملك فيصل في اعتلائه عرش العراق . وبالمقابل أتاحت الجريدة الفرصة أمام الأقلام الحرة لنشر آرائها على صفحاتها والتي عبرت عن جهاد الشعب العراقي في سبيل الحرية والاستقلال ومساهمتهم في النهضة العربية ، ففي مقال تحت عنوان : (حول عرش العراق) ، قال كاتبه (عراقي مفكر): "ان النهضة العربية اشترك فيها كثير من أبناء الشعب العراقي وجاهدوا في سبيل الحرية والاستقلال" ؛ وقد أنهى مقاله قائلاً : "بما ان العراق للعراقيين ، يجب ان تعطى الرئاسة لأحد أبنائه". ان موقف هذا الكاتب (عراقي مفكر) قد مثل رأي قسم كبير من أبناء الفئة المثقفة العراقية فيمن يتولى الرئاسة ، وأكد على ضرورة ان تكون الرئاسة للعراقيين إشارة منه إلى ان الملك فيصل وان كان عربياً فهو ليس عراقياً.
انبرى للرد على هذا المقال عدد من المثقفين العراقيين الذين يؤيدون ويروجون للبيت الهاشمي بأكثر من مقال تدحض هكذا آراء لا تؤيد تنصيب احد أبناء الحسين بن علي ، وساهمت بصورة فعالة جريدة العراق في التصدي للأصوات المعارضة للبيت الهاشمي ، ففي رد مباشر على المقال السابق (حول عرش العراق) ، نشرت الجريدة مقالاً يحمل نفس العنوان (حول عرش العراق) دعت فيه العراقيين ان لا ينسوا فضل الأسرة الهاشمية على الأمة العربية . وانه لن يكون هناك رجل تجتمع فيه الصفات ليكون ملكاً على العراق من غير الأسرة الهاشمية. كما واصلت جريدة العراق تأييدها لترشيح أحد أبناء الحسين بن علي ، فهي ترى أنه لا يوجد أحد أحق من أبناء الحسين بن علي في تولي عرش العراق، وطرحت تساؤلاً . مضمونه انه يوجد بين العراقيين رجال ، كل واحد منهم يتصف بالحكمة واصالة الرأي ، ولكن هل يتفق عليه الشعب، إشارة إلى مقال (عراقي مفكر) الذي دعا فيه كاتبه إلى ان تكون الرئاسة بيد أحد أبناء الشعب العراقي .
كانت الدعايات والاراء كثيرة تروج للملك فيصل وللبيت الهاشمي ، فقد نشرت جريدة العراق وحدها بهذه المناسبة بين العاشر من نيسان 1921 وحتى نهايته سبع عشرة كلمة تضمنت أغلبها التشويق للملك المنتظر ، وخمس كلمات اختصت بالرد صراحة على الاعتراضات التي وردت ضد تنصيب الملك فيصل وبذلك حاولت اقناع الشعب العراقي بأن زمام الأمور بيده ، فما عليه إلا ان يختار الشخصية الجديرة بعرشهم ، لكن مجلس الوزراء العراقي بتاريخ الحادي عشر من تموز 1921 قرر بالاجماع المناداة بالأمير فيصل ملكاً على العراق.
استمرت الحملات الاعلامية والدعائية التي كان يقوم بها المثقفون العراقيون لتأييد فيصل ملكاً على عرش العراق واتخذت حيزاً واسعاً في الشارع العراقي طغت من خلاله على الاتجاه المناقض لفكرة تولي فيصل عرش العراق وولدت قناعات لدى أصحاب هذا الاتجاه بأن فوز فيصل بات حقيقية واقعة .
فقد تراجع الكثير من أصحاب الاتجاه المضاد لترشيح فيصل عن مواقفهم وآمنوا برغبة الثوار والشعب والحكومة المحتلة ؛ ومن هؤلاء المثقفين الذين تراجعوا عن اتجاههم المعارض لترشيح فيصل ، سليمان فيضي الذي تخلى عن مساندة صديقه طالب النقيب لأن " الثوار والشعب والحكومة المحتلة" أجمعت على تأييد فيصل على حد تعبيره ، كما سلك مثقفون آخرون الاتجاه نفسه في التراجع عن مهماتهم التي كلفوا بها لمعارضة فيصل .
فقد اعتذر مزاحم الباجه جي للشيخ خزعل الذي كلفه بالدعاية له لعرش العراق ، وكشف له عن الصعوبات التي يلاقيها وان مهمته أصبحت "عسيرة ومن اصعب الأمور( لا بل هي من المستحيلات) .
اتخذ تأييد فيصل ملكاً على العراق عند بعض المثقفين العراقيين اتجاهاً متطرفاً في الحماسة ومبالغة شديدة في إظهار الدعاية الاعلامية للنظام الملكي المنتظر . ومن هؤلاء الأخوان (رشيد ومحمد الهاشمي) وهما صحفيان ، فقد كانا من أشد المتحمسين لفيصل والنظام الملكي ، حتى أن أحدهما (رشيد الهاشمي) تخلى عن عمله في جريدة "دجلة" إذ كان يعمل محرراً فيها لأنه شعر ان اتجاه الجريدة يؤيد النظام الجمهوري ، كما قام اخوه (محمد الهاشمي) بحملات دعائية إعلامية تؤيد فيصل ، من خلال نشره للمقالات والقصائد الحماسية التي تمجد فيصل وتشييد بدوره القومي ومؤهلاته لعرش العراق . قبل ان يصل إليه .
ومن المواقف المسجلة لدور المثقفين العراقيين في خضم الأحداث الوطنية ، لاسيما ترشيح فيصل لعرش العراق ، ان شاعر ثورة العشرين محمد مهدي البصير قدم كتاباً خطياً في السادس عشر من تموز 1921 وقدمه لفيصل معلناً فيه مبايعته له وكان محمد مهدي البصير من أشد المعجبين بشخصية فيصل ، حتى انه نظم قصيدة فيه ونشرها بعنوان (فيصل في عالم الخيال) في عام 1919 ،أي قبل ترشيح فيصل لعرش العراق بمدة طويلة ، يقول فيها :
ليحيا الأميــر لنــا فيصل
شريف النجار كريم النسب
ومطلع القصيدة ينم عن التأييد والاعجاب اللذين يحملهما الشاعر للملك فيصل . كما بادر محمد رضا الشبيبي في آواخر عام 1920 إلى إظهار موقفه في ترشيح فيصل لعرش العراق ، في كتاب خطي قدمه إلى رجال ثورة العشرين عندما سافروا إلى الحجاز بعد انتهاء الثورة ، ذكر فيه :
(ان العقلاء والمفكرين يتفاءلون خيراً ، خصوصاً وأقول سمو الأمير فيصل وأصغي إلى أقوال المخلصين العاملين من أهل البلاد وخاصة أولئك الأبطال المجاهدين الذين اشتروا استقلال العراق بدمائهم وأموالهم).
تتابعت مواقف المثقفين العراقيين بمختلف اتجاهاتهم الثقافية والفكرية ، تؤيد فيصل بن الحسين ملكاً على عرش العراق ، مما يعكس النظرة المستقبلية لهؤلاء المثقفين وادراكهم للواقع الذي يسيرون في فلكه .
كما أدرك المثقفون العراقيون مؤشرات عدة تدور حولهم تنم عن تصميم بريطانيا على تنصيب فيصل ملكاً على عرش العراق وأنها تدعمه اعلامياً وسياسياً إضافة إلى القوة التي تتمتع بها بريطانيا فانها ستسند بها فيصلاً في حال مقدمه إلى العراق ، فقد كانت بريطانيا في تلك المرحلة من أكبر الدول الاستعمارية وهي الامبراطورية التي لا تغيب عنها الشمس (بريطانيا العظمى) كما تطلق على نفسها . وما تملكه من اسباب القوة العسكرية والسياسية لقهر الشعوب لإرادتها.
من اجل ذلك شكلت الرؤى الجديدة التي أفرزتها الظروف السياسية في العراق في تلك المرحلة هاجساً ايجابياً لدى المثقفين العراقيين . فعلى الرغم من اختلاف اتجاهاتهم السياسية والفكرية إلا انهم اجتمعوا في نهاية المطاف على رأي سياسي ان لم يكن موحد فهو متقارب في ترشيح فيصل ملكاً على العراق .
فالمثقفون الوطنيون الذين وقفوا في الجبهة المعادية للدولة العثمانية ثم وقفوا ضد الاحتلال البريطاني قد آمنوا بأن طريق (خذ وطالب) ، والكفاح على مراحل وفي إطار زمني متدرج مدروس هو الطريق الأسلم ، كما أدركوا المقارنة بين قوة بريطانيا السياسية والعسكرية مع درجة تطور المجتمع العراقي آنذاك .
أما القسم الثاني من المثقفين العراقيين ، فقد رحبوا بالتغيير الجديد الذي حل محل دولة الاتحاديين ، كما ان رغبتهم في الحصول على المنافع المادية في العهد الجديد ، والوصول إلى السلطة ، ولدت لديهم القناعة الكافية بالرضا والاستسلام لما تريده بريطانيا ، وكان ترشيح فيصل من جملة الارادات التي تريدها بريطانيا ، وعلى الرغم من كل التغييرات التي حدثت في العراق اندفع المثقفون العراقيون المؤيدون للنظام الملكي الجديد في المساهمة الفعالة في إظهار التأييد لفيصل والتخلي عمن يقف ضده أو ممن لا يرغب في ترشيحه على عرش العراق .
ومن هؤلاء المثقفين الذين رفضوا ان يتخلوا عن مناصرة فيصل والدعاية له ، عبد الغفور البدري صاحب جريدة الاستقلال البغدادية ومؤسسها فقد رفض عرضاً مالياً مغرياً قدمه له طالب النقيب وقيمته اثنا عشر ألف روبية مقابل عدم ذكر اسم فيصل في جريدته ، إلا انه (رفض العرض بأباء واستمر على السير في جريدته وفق منهجها الوطني المعروف ، وهي تدعو الناس إلى المطالبة بفيصل ولاترضى عنه بديلاً000).
ومن المثقفين العراقيين الذين تحمسوا للدعوة لترشيح فيصل لعرش العراق ، الصحفيان ابراهيم حلمي العمر وعبد اللطيف الفلاحي ، فقد أصدرا جريدتي "لسان العرب" ، و"الفلاح" قبيل وصوله إلى العراق ببضعة أيام وجعلا منهما منبراً لحملات التأييد الشعبية لفيصل من خلال المقالات التي نشراها في الجريدتين .
إضافة إلى ما سبق فقد اتخذت مواقف الفئة المثقفة العراقية المؤيدة لترشيح فيصل أسلوباً آخر في المساهمة لكسب التأييد العام لفيصل من خلال التجمعات الثقافية التي يدعون لعقدها . فقد دعا ناجي السويدي ورفاقه إلى عقد اجتماع عام في بغداد ، يوم السابع عشر من حزيران عام 1921 ، حضره ما يقارب من خمسمائة من العراقيين بمختلف انتمائاتهم الثقافية والفكرية والمهنية تمهيداً لاستقبال فيصل في العراق .
وحرصاً من المجتمعين على تطويق عملية ترشيح فيصل وسد منافذ مناوئيه وابعادهم عن طريقه ، فقد اقترحوا ايقاف وزراء الحكومة المؤقتة عن العمل ، واحلال مسؤولين بريطانيين محلهم في المدة التي يعرض فيها اسم فيصل للترشيح ، ويبدو ان هذا الاقتراح كان بمساندة ومباركة سلطة الانتداب البريطاني في العراق.
سارع معظم المثقفين العراقيين إلى إظهار تأييدهم لترشيح فيصل بمختلف الأساليب فبادروا إلى إعطائه مبايعتهم خطياً وشفهياً وإعلامياً عن طريق الصحف العراقية ومنهم في تلك المرحلة شكري الفضلي ومحمد باقر الشبيبي ومحمد ناجي القشطيني وابراهيم الباجه جي ، كما انسحب موضوع المساندة والتأييد لفيصل على كافة الأصعدة والتيارات والأديان ، فقد بادر إلى تأييد فيصل المثقف اليهودي الشاب المعروف أنور شاؤول ، وبعث مكي الشربتي العضو السابق في جمعية العهد برقية تأييد لفيصل بتاريخ الخامس والعشرين من تموز 1921.
يظهر من خلال مبادرات التأييد وتتابعها لترشيح فيصل من قبل الفئة المثقفة العراقية انها بدت قريبة العهد بموعد وصول فيصل إلى العراق ، وهذا يعني ان المثقفين العرقيين قد لمسوا حقائق مؤكدة على فوز فيصل بعرش العراق وان مسألة ترشيحه باتت من المسلمات اليقينية ، ففي الثامن والعشرين من حزيران 1921 ، أعلن كاظم الدجيلي وهو صحفي ، عن تأييده لفيصل مؤكداً فوزه بعرش العراق وأما الشاعر جميل صدقي الزهاوي فقد أعلن عن تأييده لفيصل بعد يومين من وصول الأخير إلى بغداد فسماه في الأول من تموز 1921 الملك الأجل الأكبر مما يدل ان الزهاوي كان مدركاً فوز فيصل بالعرش. كما أعلن عبد الحسين الأزري صاحب (جريدة الروضة) في اليوم نفسه تأييده للأمير فيصل ، وبعد مرور يوم واحد فقط أعلن الشاعر محمد باقر الحلي مبايعته له كما بايعه داود صليوا صاحب جريدة (صدى بابل) ، وعبد الرزاق عدوه من (النخبة القانونية) الذي أعلن ان جميع الطبقات الاجتماعية والفئات المثقفة قد (رحبت بمقدمه).
ومما سبق يتضح ان السياسة البريطانية قد أدت دوراً ملموساً ومؤثراً في ترشيح فيصل لعرش العراق ورتبت أمر قبوله لدى الفئات المثقفة العراقية بشكل خاص ولدى جميع العراقيين بصورة عامة ، عبر أساليبها المتعددة في وسائل الاعلام والدعايات والترويج للبيت الهاشمي ، ومن خلال الشخصيات العراقية التي رافقت فيصل في سوريا والحجاز. ومن ذلك انها أكدت في خطابها الاعلامي للعراقيين على إثارة العاطفة الدينية والقومية ، لكسب التأييد الشعبي العراقي العام لترشيح فيصل ، كونه من نسل النبي () وأنه عربي أصيل من الحجاز مهد الرسالة المحمدية الإسلامية. فقبل مجيء فيصل إلى العراق بمدة قصيرة ، نشر المندوب السامي البريطاني برسي كوكس بلاغاً إلى الشعب العراقي بتاريخ الخامس من تموز 1921 ، أشاد فيه بكل معاني التمجيد وكلمات الاطراء بالعائلة الهاشمية ، وقد أعلن كوكس في ذلك البلاغ عن قدوم فيصل إلى العراق ، وكان ذلك بمثابة اعتراف بريطاني صريح بتوليه العرش ، وبعده بأيام أعلن مجلس الوزراء مبايعته لفيصل في الحادي عشر من تموز 1921 .
لقد أسهمت الفئة المثقفة العراقية في بلورة الظروف السياسية والفكرية والعرقية في العراق وهيئتها لصالح فيصل ، وبذل المثقفون جهوداً ملموسة ومؤثرة في كسب التأييد له سواء في الأوساط الثقافية أو عامة الشعب العراقي . كما بدأ الاتجاه المضاد لفيصل بالانحسار ، واخذ أصحابه يخطون خطوات ايجابية نحو تأييد فيصل واعلان ولائهم له .