عدسة معلم تكتشف فراديس بلاد الرافدين

عدسة معلم تكتشف فراديس بلاد الرافدين

فاروق سلـّوم
كان ضجيج المدينة وشيخوختها المتربة يكتسحان روحي لحظة صفير الظهيرة الرافدينية تلك في قلب بغداد المرهقة، وكانت خطواتي تبحث عن طفولة ضائعة منذ الخمسينات في شارع الجامع في الأورفلية او عند ظلال كشك الثقافة اليومية حيث كان يطلّ هاشم من خلف نظارتيه،

وبناي جار الله من بين فسحة الكتب ذات الأغلفة الكرتونية الملونة والطبعات الستينية الشعبية الرخيصة.. كنت اطوف عند آثار مقهى البيضاء.. ومقهى مجيد محاولا التشبث بما تبقى من تلك الروح اللائبة من الحزن الباحثه عن بقايا الخسائر والخيبات والأسئلة والوجوه البعيدة. كان اعلام الحرب يشق السكون الثقيل طوال الصباح، وحين اقتربت الظهيرة تلك ملتُ نحو صف المكتبات الأثيره عند حائط مدرسة الراهبات في مدخل شارع السعدون..
كان هاشم قد غادر سلة الزمان مبكرا نحو ابديته حاملا مرضه المفاجئ وضغطه الصاعد من الصمت، ولم يتبق لحظتها غير صورتي على زجاج واجهة مكتبته المغلقة، فيما كان على بعد خطوات يجلس بناي جار الله في مكتبته خلف صف من كتب التفسير والحديث مثل اسد جريح وهو يحمل كليته العاطلة لمواجهة زمن يسيل من نقص العلاج والأختناق و الرطوبة السياسية واللوعة الموحشة. تبادلنا حركة اليدين، ومددت رأسي الى مكتبة مجاورة، كانت قد افتتحت من سنوات قريبه الى الجوار، وهالني ان ارى كدسا من الكتب الغريبة وصفا من المطبوعات التي لم يكن مألوفا ان نجدها في تلك السنوات القاحلة ثقافيا حيث سادت ثقافة الأستنساخ . كانت مجاميع انيقة لكتب معرفية وجمالية بكل اللغات، كتب لأجيال من الرسامين العالميين من مختلف المدارس، تشير الى سيزان وكوخ وبول كلي وكاندسكي ونخبة مذهلة من رواد الحداثة، وكتب ذهبية ومغلفة ونادرة لمدارس العمارة من المغارة الى الباوهاوس الى مابعد الحداثة، وثمة مجلدات لرايت ولوكوربوزية.. اللذين اسهما في تصميمات اساسية لمدينة بغداد في الخمسينات لصالح وزارة الأعمار ابان الحكم المللكي، وكتاب مفاجيء الوجود لفينتوري الأشكالي الذي ترك مقترحه للجامع الكبير على ادراج امانة العاصمة عام 1982 ولم يلتفت الى الخلف.. كتب ومجلدات في الطباعه والتصميم ومجلدات مذهلة عن تاريخ التصوير الفوتوغرافي واهم رواده واتجاهاته ومجلات ودوريات لكل الفنون النادرة السينما والموسيقى والتصوير والطباعة وكل فن محتمل، كانت غيمة مذهلة من الكتب تجر وراءها جوقة من اسئلتي المتعاقبه حول هذه الكتب ومصدرها واثمانها.
التفتَ الى صاحب المكتبة وهو زميل دراسة سابق وقريب لمسؤول رفيع في الدوله وقال بلغة الرجاء: انني حائرٌ ايضا وحبذا لو تفكر معي في الأمر، قلت من اين لك هذه الكتب، ومن سرّبها اليك وهل هي مكتبة احد المثقفين معروضة للبيع. قال، وحجر الحيرة يطفيء عينيه و يدير العبارة العاصية على لسانه : انها مكتبة شخص معروف بينكم، وقد سيطر على بيته ابن الأخ غير الشقيق لرئيس الجمهورية ورمي كل شيء الى الخارج بقيمة التراب.. وقد اشتريتُ هذه المكتبة بتسعين الف دينار!! دهمتني شهقة المفاجأة والأستغراب وبالكاد سألته ومن هو هذا الشخص هل نعرفه بحق قال بعد تردد نعم انه بيت ومكتبة ناظم رمزي.

مجلس الثلاثاء
لقد انبثق الفراغ في رأسي فجأة مثل زمن واقف، وانحبست العبارة في فمي وتأرجحت الفكرة وحيدة دون دلالة فتوهمت انني اقول شيئا فيما كانت شفتي تقبض على التمتمة الحائرة، حاولت التفكير سريعا وكأني اعتصر رأسي، ولست اعلم ساعتها اي نمط من القدرية تلك التي كتبت هذا التصادف الغريب في تلك اللحظة، وذلك اليوم، فدهمتني موجة باردة من الراحة الغريبة والمفاجئة، وتذكرت في الحال انني كنت طوال الصباح في قاعة بغداد حيث ينعقد مجلس الثلاثاء الثقافي الذي تنظمه الرسامة سميرة عبد الوهاب، وكان من بين الحضورالخبير المالي والمثقف المهتم وصديق ناظم رمزي السيد محمود عثمان وزوجته، وكانت زوجته قد اشارت ونحن نودعهم ان ( ام خالد) زوجة الفنان ناظم رمزي هنا في بغداد، فبلغتها التحية ساعتها.. وقد تذكرت تلك الجملة السريعة التي تُركت في اذني لحظة غادر الجميع قاعة اللقاء.
اسرتني تلك اللحظة بكل تداعياتها وحزنها واختراقها المفاجيء وتوهمت انني قلت له شيئا غير رجائي له ان لايبيع اي كتاب لأني سمعت ان صاحبة المنزل هنا في بغداد. في الطريق قابلني الصديق جون لي اندرسون محرر النيويوركر، وبدا عليه الأستغراب من منظري، فقلت له لاشيء سوى المفاجأة والأستغراب من اقدار هذا الزمن ومصادفاته . مشينا معا الى مكتب العمل القريب ونحن نحكي التفاصيل عن ناظم رمزي ومكتبته واثره الفني وهجرته الى بريطانيا ومشاريعه الفنية والطباعية، وكان جون لي اندرسون وزوجته يقيمان في مانشستر ووعد بالبحث عن ناظم رمزي لكنه كان كثير الترحال بين امريكا والشرق الأوسط وامريكا اللاتينيه ومناطق التوهج الساخن وقد عرف بكتابه عن جيفارا الذي شكل مدخلا لسلسلة من الكتب عن ساسة وحركات ثورية واشخاص هم بين مناضل يشق تاريخه وبين دكتاتور يبتكر الظلمة للتواريخ والناس ويؤثث رحلة الفناء. حكيت له القصة وكنت اعرف ان جون بأسلوبه الروائي سيوثق اللحظة وسيستفيد من الحدث وهو في بغداد يخطط لكتابه القادم عن العراق ويكثر من الأستشارة مرة عندي ومرة عند صديقه الأثير د. علاء بشير وقد ظهر كتابه الأكثر مبيعا سقوط بغداد في عدة طبعات لاحقا.

قرب مطبعة رمزي
في مكتب العمل اتصلت ببيت السيد محمود عثمان واهله ورجوتهم ان يبلغوا (ام خالد) الأمر وتعهدا ان يقوما بالواجب في الحال بعد ان اخذا عنوان المكتبه واسم الشخص الذي بحوزته مكتبة ناظم رمزي المنهوبة.. وحكيت مع ابي سدير يومها، جبرا ابراهيم جبرا الذي انعقد لسانه للحدث الذي حاولت ان افهمه دون تفصيل ان هناك من اقتحم المنزل او وضع اليد عليه بالقوة، وحالت موجودات المكتبة الى شخص يحترف البيع والشراء ووعد الراحل ابو سدير ان يقوم باللازم بعد ان طمأنني انه سيستعمل من يعرفهم لايجاد حل لهذه المشكله. كانت كتبة ناظم رمزي التي في مطبعته او في منزله واجهة ترقد من خلفها المعرفة الأنتقائية الأنيقة. وكان ضياعها يعني الكثير من الخسائر الوجدانية والذكريات اذ كنت اعرف ان ابا خالد ينتقي الكتب والمراجع بنفس الأصابع اليقضة تلك التي اضاءت سراج الفوتوغراف ولاحقت كل تفصيل في عمليات مونتاج الأغلفة والصفحات التي مرت بين يديه وبين اصابع فريق عمله المعروف من حوله، لقد ذلك النهار بالنسبة الى نهارا قاتلا ترك في روحي غصة طفل يلهج بتفاصيل خسائرة المرة.
كان الموسم صيفا معتما يقترح هزيمة روحينا انا والصديق موسي الخميسي، وكان ذلك عام 1969، يوم مررنا عند الغروب قرب مطبعة رمزي في موقعها الأول القديم في الصالحيه. كان يتحلق من حول ناظم رمزي عند مدخل المطبعة مجموعة من الفنانين والشعراء وبعض العاملين في مطبعته، وحين القينا التحية اجاب رمزي ببرود ساخط، وكنت قد لمحت شحوبا غريبا وحيرة تائهة تمتليء بها عينيه.. وكنا انا وموسي وابناء جيلي نحب تلك الروح المتواضعة والعاطفة التي يمحضنا اياها ناظم رمزي برغم اختلاف اجيالنا لكنه بروح الطفولة كان يعيش اجياله المتعددة هو كفنان ببصيرة ورؤي تمثلان أفقا يشبهه هو : ناظم رمزي . قال موسى الخميسي بلهجته الجنوبية مشينة خوية.. وطفق يحكي عن معجزة خروج ناظم رمزي من السجن حيث رتبت له تهمة انتماء الى جمعية او تشكيل وقد واجه كل انواع التعذيب في زمن الأنقضاض على الحرية حيث كتب لرمزي بعد جهود جبارة من اصدقائه في وزارة الثقافة والأعلام ان يستعيد حياته وحضوره المهددان، ولما انتقلت المطبعة الى مقرها التالي في سارة خاتون ذهبت للتبريك والبدء بطباعة بضعة كتب للأطفال.. هناك.
كان ناظم رمزي روحا مرحة تستعرض ينابيع التلقي التي في ارواحنا لتضيء عشرة خاصة تمتزج بالفن والمتعة والأتقان. كان يكثر من اسماء التصغير يطلقها علي وعلى اصدقائه تحبيبا وترفقا، وفي تلك الفترة تعرفت الى افضل اثنين من معاونيه في فريقه للطباعة : مريوش ومحمد دحام، وكانا في خبرتيهما وتواضعهما يلامسان ثنية ارواحنا ويجعلان من زيارة المطبعة يومذاك مثل اكتشاف عالم مجهول ومحبب .
لم اكن حتى تلك اللحظة من اوائل عقد السبعينات اعرف الكثير عن الورق واوزانه وابعاده ودرجة تحمله للون عند الطباعة، ولا اوزان ورق الأغلفه وانواعها ومعالجاتها الطباعية كما لم اكن اعرف عن المونتاج وصفائح الطباعة شيئا.. وكانت كل خبرتي تنحسر في تصفح البروفة المطبوعة بالأسود والأبيض مع ملاحظات المنفذ ورئيس القسم الفني وحين كنت اضع توقيعي على البروف للبدء بالطباعه لم اكن اعرف اي مطبوع سيكون بين يدي غدا، لكن ناظم رمزي برفق الصديق ولمسة المعلم فتح آفاق معرفتي من خلال تواضعه واشارات اصابعه وهو يتلمس مخمل الورق ومكبرته الصغيرة وهو يخترع زهرة المعرفة البسيطة على صفحة محببه في وقت يشح فيه الأسطوات والخبراء بخبرتهم على التلاميذ، كما في تقاليد الشرق القاحل، واذا نظم رمزي يطلق حرية انتقال الخبرة هكذا بفطرة محبته للأنسان والصديق..
وكنت بين فترة واخرى اشارك محمد دحام مراجعة افلام المونتاج والماسكات والتصحيحات الممكنة كما كنت اشارك مريوش تأمل الماكنه وفلاتر اللون وصفائح الزنك وهي تمضي تحت عجلة الطباعة ودورتها السريعة انتظارا للحظة المطبوع الرطب الأول قبل ان تواصل العجلة دورة الطباعة..
طرقٌ تمضي واخرى تقفل وانا استعيد الوقت، فقد كان انتقال مطبعة ناظم رمزي الى غرب بغداد حدثا آخر في فترة الثمانينيات، وقد اضفيت على مكاتب المطبعة صورة من الحذر والرسميه خمنت ان الدولة ادخلت اصابعها للهيمنة على المشروع، وكان ناظم رمزي الوحيد الذي منح المكان روح الأنسان وحميميته.
كانت مكاتب مجلة فنون عربية وكل العرب في حي المنصور قد اتاحت فرصا يومية للقاء والكتابة. كان جبراابراهيم جبرا في مكتب فنون عربية كل مساء حريصا على مواصلة اللقاء بالفنانين والكتاب وقراءة المسودات وتدقيق كل عدد من فنون عربية ذلك المطبوع الباهر، وكان اللقاء هناك متفرقا وثريا وخاصا.. ولا اخفي ان ثمة حذرا خفيا بدأ يحيط كل تلك الانتقالات والمتغيرات اذ كنت احسها وقد تركت بصمتها على ناظم رمزي الرجل الذي يهش طوال النهار واذا به يختصر مرحه ويكثف ضحكته ويغيب طويلا بين فترة وأخرى مبتعدا عن جو العمل الذي كانت تربطني به عقود طباعة كتب الأطفال ومطبوعات اخرى متنوعة كانت تحظى بدعمه واهتمامه بل ان ناظم رمزي كان مصدرا مشجعا لتلك المشاريع الطباعية. وحين اهداني ناظم رمزي كتابه وجوه من العراق الصادر بالأنكليزية منحني فرصة آسرة لقراءة تجربة فنية تشير الى هويتها، والى بصيرة مدققة في البيئة لتعيد تأسيسها، لكن بصمت وتواضع لايريد ناظم رمزي ان يرافق ذلك اي ضجيج وما ازال اذكر عبارته الصداقية الرقيقة في الأهداء التي وضعها على صفحة الكتاب عنوانا لمحبه كبيرة واعجاب ظل يرافقني طوال الوقت.
كان يرى عبر كاميرته الأولى فراديس بلاد الرافدين في فطرة الحياة وشخوصها واحداثها اليومية وقد طاف المدن واللأزقة الضيقة والصحارى المفتوحة والجبال جاعلا من تلك البيئات المتنوعة اشارة تنوّع وثراء للهوية العراقية. بكل الوانها وقوس انتمائها التاريخي الى بلاد الرافدين.. وقد وثّق ذلك في كتب لاحقة هي شهادة مهمة على بلاد ووجوه وخبرات استطاع ناظم رمزي ان يستنطقها في لقطة فوتوغراف نابضة.كنت احس ان رحلاته الى خارج العراق بشأن طباعة القرآن الكريم او تفصيلات فنية اخرى توحي بأشارت غامضه، وكانت دورة الحرب تمضي وهي تقضم ايامنا واعمار الآلاف من ابناء العراق ونخبه ومبدعيه، اؤلئك الذين وهبوا انفسهم وتواريخهم للبلاد وهم يؤمنون بدورهم ازاء الفضاعة والقدرية وقد طوقتا حياة ابناء الرافدين منذ وهج الحضارة واندثارها حيث رماد زهرة البقاء الصعب تطل على شفاه الوقت الذي رسمته الحروب. واستقر ناظم رمزي في لندن فيما بقيت بيننا تنتقل التحيات والمحبة علي طريقته التي تشبه الأمل كان ناظم رمزي فضاء فسيحا.
وكان نشيدا لكل الفنون في احاديث هاربه من بين اجنحة الوقت ولهيب الأحداث، تاركا في مواقد ارواحنا، نحن الذين عرفناه عن قرب، كل معنى يحنو على ذاكرتنا، ويترفق بوجودنا كبشر متيّمين بانسانيتنا المهددة، بخشوع مقدّس ينطوي عليه الوجدان.
كاتب عراقي مقيم
في السويد