الناقد العراقي عبدالواحد لؤلؤة في كتاب اشكالي ..هل يظل الشعراء هائمين في  مدائن الوهم ؟

الناقد العراقي عبدالواحد لؤلؤة في كتاب اشكالي ..هل يظل الشعراء هائمين في مدائن الوهم ؟

فايز القيس
يستعرض الناقد عبدالواحد لؤلؤة في كتابه "مدائن الوهم" ، بيروت، 2002 ، مسألة شعر الحداثة والشتات في الشعر العربي. ويناقش تطور الشعر الأوروبي والأميركي وانتقالهما، أو بالأحرى انتحالهما عربياً. وهذا ما نلحظه، اليوم، في كثير من جوانب الشعر الحرّ، أو الشعر المنثور تحت عنوان عريض هو "شعر الحداثة". وينجز المؤلف مقارنات تتناول مسائل تطور الشعر الغربي،

في كل حقبة من حقب صعوده، مع الشعر العربي مبدياً تعارضاً في المبدأ، انطلاقاً من مفهوم الحداثة التي أثبتها قدامة بن جعفر "كل قديم كان جديداً في عصره". ثم يستعرض المبادئ العامة التي انطلق منها عزرا باوند، ووالت وُثمن وصولاً الى ت.إس. إليوت وآرنولد وبودلير. ويقرر بعد عرضه لهؤلاء الشعراء والنقاد ان مفهوم الحداثة عندهم تأسس على اعتبار القديم والمجهول لأن الحداثة لا يمكن ان تصدر عن فراغ. ويقدّم أنموذجاً من شعرنا العربي القديم دليلاً على حركة التجديد - القديمة التي كان أبو نواس أحد فرسانها:
قلْ لمن يبكي على رسم درسْ
واقفاً، ما ضرّ لو كان جلسْ؟!
ويقتفي آثار البحث عن الجديد في الشعر الذي لا يمكن ان يلغي قديم اللغة، بل قد يجدد فيها، كما تتجدد الأفكار والنظريات ويكتشف من خلال عرضه أنّ دانته نقل القافية وتنويعها عن آرنولد دانييل الذي يعدُّ من أبرز شعراء "التروبادور"، الذين تعلموها بدورهم من شعراء الموشح والزجل في الأندلس. ومن خلال هذا الاتجاه مثّلث "القافية" تجديداً في أسلوب كتابة الشعر، وخروجاً على التراث اللاتيني والإغريقي العريق الذي لم يعرف القافية، بدءاً من هوميروس حتى روائع الشعر اللاتيني الذي عرفه دانته وغيره من شعراء القرن الثالث عشر في أوروبا.
ويخلص الباحث الى نتيجة مفادها ان الحداثة في الشعر العربي بدأت تتخذ صورة تشبه المذهب الجديد في نهايات القرن التاسع عشر وبدايات القرن العشرين، وهذا ما بدأت به "جماعة الديوان" في مصر من خلال عباس محمود العقاد 1889- 1964، عبدالرحمن شكري 1886- 1949، وابراهيم عبدالقادر المازني 1889- 1949. دعت هذه الجماعة الى تجديد الشعر العربي برفض المثال القديم في اساليب القول لأن الزمان متغيّر ومتطور. وبتقديرنا ان شعراء هذه المجموعة ونقّادها، لا يعقل، ان يكونوا بعيدين، عكس ما قرره المؤلف لؤلؤة عن تطورات الحركة الأدبية في فرنسا وبريطانيا.
ويميّز المؤلف بين مفهوم "الشعر الحر" وبين مفهوم "شعر التفعيلة" فيقول ص17: "إن شعر التفعيلة شيء، والشعر الحر شيء غيره تماماً. فشعر التفعيلة له وزن وقافية ومعنى. اما الشعر الحر، الأقرب الى النثر، فلم يتقيد بالوزن والقافية"، وبالتالي أهمل عنصر الموسيقى. وإذا كان "الشعر لا يترجم"، بحسب رأي الجاحظ، لأن الترجمة تفقد اللغة روحها ونغمها وعقلها، فكيف بنا نفهم ما يترجم، أو ينسخ من الشعر الغربي، وبخاصة عندما يقدّم بالعربية بأسلوب ولغة ضعيفة؟ إنها إساءة مثلثة الجوانب: للمترجم عنه، وللقارئ، وللمترجم.
وينقل المؤلف موقفاً موثقاً عن امين الريحاني أعلنه في سنة 1911، "ان كتابات والت وُثمن من "الشعر المنثور" ص78. ويضيف ان مصطلح "الشعر المنثور" يعي التراث وعياً تاماً، حيث يوصف الكلام شعراً أو نثراً. فتسميته "شعراً" لا تغمط الكلام حقّه في الشعرية، وبخاصة الجيد من "الشعر الحر"، ووصفه بالمنثور يجنبنا الجدل حول اشكالية غياب الوزن والقافية، وثمة مزلق ظهر في العقدين الماضيين يشير الى أن بعض اصحاب "الشعر الحر" صاروا يتجنبون وصفه بالحر، وراحوا يكتفون بوصفه "شعراً"، ووصف كاتبه "شاعراً"، قبلت بهذه النتيجة أم لا، على رغم غياب الشعر والشاعرية في مثل هذه النصوص. ويعدو القول الى عرض اعمال من الشعر الحر الجيد أنتجها كل من: جبرا ابراهيم جبرا، توفيق الصايغ، ومحمد الماغوط. ويرى في شعر جبرا صفات الشعر الحر التي حددها باوند، وإليوت، ووثمن من قبلهما. وقصيدة "اللغز" ص80 التي بعضها للطَّيْف وبعضها للجسد، نظمها جبرا بعد وفاة زوجته في 1992. والقصيدة أنموذج من الشعر الحر. وهي مستوحاة من الأسطورة الإغريقية القديمة لسوفوكليس في القرن الرابع ق.م. في مسرحيته "أوديب ملكاً". ويقرر المؤلف ان هذه القصيدة لا تعتمد في ايصال اثرها على وزن وقافية وبلاغة ألفاظ ومحسنات بديعة، لكنها تتسم بالثقافة الشمولية واتساع الأفق المعرفي. ويتخذ نموذجين من شعر سعاد الصباح، التي اجادت في شعر الشطرين، وفي شعر التفعيلة، وفي الشعر الحر. والملاحظ ان الشعر الحرّ، في امثلته الجيدة، استطاع ان يثبت قدرته في قول يفيد معنى، ولو كان خلواً من الوزن والقافية، كما قال ت.إس. إليوت. ويعالج الناقدة "لؤلؤة"، بعد ذلك، شعر مجلة "الناقد" معتبراً أن هذا الشعر يصطنع الحداثة من عدة وجوه. ويقرر ان غثّها يفوق سمينها. ويتساءل من يقرأ هذا الشعر بعد عشرة أعوام؟ انطلاقاً من تساؤل الناقد الإنكليزي ف.ر.ليفز من سيقرأ هذا الشعر بعد مئة عام؟
ويطالعنا بنص للشاعر صلاح نيازي من ديوانه "الصهيل المعلّب".
ونلاحظ ان الصورية من أبرز معالم الحداثة. وهذا ما أثبته عزرا باوند، وت.إس. إليوت بقولهما إن "الصورية تعبير عن الفكرة بالصورة". وتغتني الصوريّة بغنى الثقافة وسعة الاطلاع. وتزدحم الإشارات الثقافية/ التاريخية التي تفسر مصرع توماس بيكيت رئيس اساقفة كانتربري الذي اغتاله فرسان الملك هنري الثاني بعد عام 1154، ورئيس الأساقفة، هذا، لم يكن على اطلاع بما يجرى في أروقة الدولة. كذلك، نلاحظ ان الرموز مستوحاة من كتاب "حظيرة الحيوان" لجورج اورويل. يستنتج من هذا النص ان الإنسان المعاصر عند صلاح نيازي حيوان في حظيرة يحكمها الخنزير الذي يمثل صورة السياسة القذرة.
هذا مثال من "الصورية" التي لا "تقول"، بل "تصوّر" وتوحي بالفكرة. ويحدد المؤلف أن مظهر الحداثة في اصطناع اسلوب الصورية يغتني كثيراً بعدم خروجه على التراث وبتعلقه بحضارة المكان. غير ان بعض مظاهر الحداثة في اسلوب الشعر الحر تشكل خروجاً على التراث في شكل القصيدة، وفي عدم التزام الوزن والقافية ص95. وعندما يناقش، في فصل مستقل، شعراء الاغتراب والشتات يرى ان في شعرهم شتات التراث وضياع اللفظ والمعنى. ويقدم المؤلف العديد من الأمثلة والنصوص التي تمثل شعر الاغتراب والتشرد والحنين الى الوطن. ويتجلى المؤلف في تحليله النقدي، في الفصل الأخير. ففي تصنيفه شعر محمود درويش يصفه بالشاعر الذي يجري ولا يُجرى معه. ويرى ان موضوع الشعر عند درويش يقوم على ثنائية فلسطين/ الحب. وفي تنويعاته على هذه الثنائية لا نجد قصيدتين متشابهتين. ويلاحظ من خلال الأمثلة التي يقدمها أن شعر التفعيلة يتطور مع محمود درويش الى ما يشبه التدوير في الشعر العربي. ويمكننا طرح مقولة على شعر درويش انه عازف متنوع النغم، تنوع تفعيلات البحور، وعاشق فلسطين والمرأة ما زال على حاله عاشقاً. ثم يحلل شعر سميح القاسم الذي ظل ملتصقاً بتراب فلسطين، ولم يغادر رباها سوى ايام معدودات. ويرى المؤلف ان سميح القاسم يعكس في شعره أفكار ضراوة العيش تحت نير الاحتلال. من هذا المنطلق يمكن ان نفهم صور الرعب والموت والقنص والجماجم. وسميح القاسم مثل صديقه محمود درويش تتزاحم في شعره صور الحب والوطن. لكن صور الموت والرعب عند سميح تتحول الى مزهريات تزين فضاء وجودها. وهنا تتوحد صورة الحياة والجمال مع صورة الموت. وسميح القاسم، كما محمود درويش، اكتفى من نهر الحداثة بجدول التفعيلة وبروز القافية، ولم يتطرق، إلا لماماً، الى الشعر الحر. وعندما يناقش شعر "أمجد ناصر" يرى أنّ لا أثر لغير الشعر الحر في مجموعة "وصول الغرباء". وكأن جيل الثمانينات من الشعراء لم يعودوا يسيغون التفعيلة، ولا شعر الشطرين ص241.
ولا يغفل المؤلف ذكر الشعراء الذين من حقك ان تصفعهم، معيداً قول ألكسندر بوب في قصيدته "مقال في النقد": "من الصعب التمييز بين نوعين من الخطيئة: كتابة بأسلوب رديء، أو نقد مضلل". لكن كتابة تبعث على الضجر أهون شراً من نقد يفسد الذوق. إنني أشارك المؤلف مصابه لهذا الانحدار في الفكر، والثقافة عموماً، واللغة التي هي فكر. إن الأمثلة التي يطالعنا بها المؤلف ص245- 255 تكفي لدعم قولنا السابق. وهاك مثال على ذلك ص254: الأرض - كالجثة بعد الدفن - ممدودة/ أرخت يداً صفراً ووجهاً فارغاً وجديلة/ بالرعب معقودة/ واستسلمت للنوم/ في جحر ضبٍّ مليء بالنخل والأشجار/... هذا الجحر الذي لا يتسع للضب كيف تحول الى بستان مملوء بالنخيل والأشجار؟! هذا لا يعلمه "إلا الله والراسخون في العلم قالوا آمنّا".
يختتم الناقد المتميز عبدالواحد لؤلؤة كتابه بالقول: "لا بد من العودة الى رأي زعيم الحداثة الشعرية في العالم إليوت الذي يجب ان يبقى ماثلاً في ذهن كل من يعنيه الشعر. يقول إليوت: "على من يريد ان يبقى شاعراً، بعد الخامسة والعشرين من العمر، ان يكتب وهو يحسّ حضور الشعر، من هوميروس الى أفضل شاعر معاصر، في جميع اللغات، حضوراً ماثلاً في دمه وفي نخاع العظام منه".
ترى هل استطاع شعراء الحداثة إدراك هذا المطلب؟ أم تُراهم سيبقون هائمين في مدائن الوهم؟ كتاب غنيّ، ومرجع مهم يسهم في فهم العمارة الشعرية الحديثة في اصول بنائها، وفي ارتفاع مداميكها، مظهراً الحسن والجيد منها، ومنتقداً الغثّ الذي لا يستحق عناء النقد.

عن جريدة الحياة اللندنية