قراءة في تجربة طالب مكي الفنية.. لغز القناع ومشفرات العلامة

قراءة في تجربة طالب مكي الفنية.. لغز القناع ومشفرات العلامة

عادل كامل
لاأقول أنه يستعير آليات عمل البذرة: موتها، كشرط من شروط الإنبات فحسب، بل لأنه تعلم، بالدرجة الأولى، ذلك الاكتفاء بلملمة الضجات داخل صناديق وأجساد مختزلة، ووجوه لا تذكرنا إلا بطوفانات وأوبئة وأحزان وماس ٍ حافظ النص الفني على صياغتها بكرامة. وقد يعترض علي أصحاب المناهج الحديثة، بألف حجة، ولكني اكتفي بإشارة واحدة تدحض أوهام مناهجهم الحديثة،

التي لا تكمن في الأفكار، بل في اللغة. فقد استعرنا من القرن الثامن عشر، والتاسع عشر، الأفكار، أما أن ننقل الاستعارة إلى المنهج، وسياقه، وتفاصيله، فإنها ستخص اللغة، وأساتذة هذه المناهج، بالدرجة الأولى، لا يغادرون حدود العربية. فأية حداثة، عدا مصلحاتها، سترن، بعض الوقت، وتختفي قبل أن تتلمس تراب مدفنها وبعثها..! إن طالب مكي تلمس هذا المشروع، ببساطة.

فبدائيته كانت مشبعة باللغز الذي صاغته أقدم الأصابع: دمى طينية سبقت عصر التدوين بزمن بعيد: دمى
لها نظام التوصيل. فالنحت، وضمنا ً النحت الفخاري، امتلك لغز الأبجدية: حروفها وأصواتها. فثمة نظام مكث في حدود تلك النصوص التي لا تقارن إلا بمنجزات الحداثة الأوربية. وستشكل كل قراءة، للقراءات السابقة، تمهيدا ً لقراءة تناسب إعادة صياغة نصوص الماضي. لقد تعلم طالب مكي الاقتصاد. فقد كانت حكمة جواد سليم، هي الأخرى ـ ولقد نبهنا شاكر حسن إليها قبل نصف قرن ـ تذهب حيث الملغزات وحدها جديرة بالعناية. فالفن لا ينتظر شروحات، لأنه ليس عملا ً[ أخلاقيا ً] أو [ أيديولوجيا ً] إلا في حدود تجانسه وتماسكه البنيوي الداخلي. فلماذا، على سبيل المثال، امتلكت تماثيل الآلهة عشتار، أو تماثيل الأم، قدرة الامتداد مع الأزمنة المتعاقبة، ولم تدفن، كما دفنت تلك الأزمنة بكائناتها..؟ ولماذا مكثت أشكالها تزداد دينامية مع تطور أدوات الوعي، ولم تفقد باثاتها الملغزة..؟ إن تلك الوحدة الداخلية، اختزلت أكثر العلاقات حميمية وتعقيدا ً. وغدا النص الفني ـ الذي لم يصر سلعة ـ مستقلا ً بشروط مكث التشفير يعمل بها في هذه الحدود. لقد تعلم طالب مكي كيف يسمح لكيانه ـ كحواس مجتمعة ـ أن يستنطق، بعد الإصغاء، لمفهوم النص في عصر مختلف: تلك المحركات المجهولة وهي تحول عشوائية خامات الطين إلى أشكال صاغها صانعها كإشارات ـ ومن ثم إلى علامات ـ اتصال. إن نصوص طالب مكي النحتية، إلى جانب رسوماته، هي الأخرى، تكف أن تصبح أنصابا ً للذكرى، كي تحتفل برمز ما للقوة : إنها على العكس، كما شرع جواد سليم، يتلمس صياغة أدلة من مساحات شاغرة وفجوات معتمة، ين علاقاتها ّتعمل عمل الأبجدية في تدو بالمحيط؛ الوجود أو الجماعة أو الذات. إننا إذ نستعيد، بعد نصف قرن، حقبة ريادة لم تدحض بحداثات تم استعارتها، بأخلاق السوق، وليس بـ [خلق] تلك الوحدة الداخلية لثنائية النص الفني، نستعيد هذا المفهوم، وهو يشتبك، ويتداخل، باجتهادات منحوتات مكي، أولى الصياغات التي منحت النص الفني خلقه، وليس دلالاته أو جمالياته ـ في حقبة الرواد .. جواد سليم ورفاقه ـ فالمشروع لا ينبني على استعارات مباشرة تلغي أسئلة الذات ، بل تمنح المتلقي قدرة التدريب على التوازن في الذهاب وراء الأشكال، ولكن ابتداء ًمنها، نحو محركاتها. لقد علم جواد سليم مكي الدخول إلى المحترف ـ المعبد السومري بما يتضمن من إشكاليات
حياة لا تهب إلا بقدر آثامها، ولكن، بقدر عشقها أيضا ً ـ وهو الذي تعلمه طالب مكي من جواد: الإخلاص للنص الفني بما يمتلك من مواجهة لا تدمر بتحديثات التقنية، ومهاراتها، بل باستعادة منطق البدائي الذي صاغت تدشينات وعيه بالعلامات الفنية، بكل يسر، بعيدا ً عن قوانين الأنظمة التالية. فجواد مكث يعمل بأصابع كأنها تمتلك سحرها الأول: العلاقة مع الوجود. وطالب مكي لم يستعر شيئا ً من مهارات الحداثة. بل مكث يحافظ على براءة أصابعه، في صياغة هذا الذي نراه، ويرانا. فالخلق، ف كمصطلح، ّفي هذا السياق، لا يعر وإنما هو تلك البساطة المستحيلة التي تكاد تكون هبة، لكنها هبة إن لم تحمى. فلن تتكلم الكلام الذي يمتلك مغزاه. ربما هناك بدائية بالغة التعقيد، عند مكي، تخلى جواد سليم عنها لضرورات الغايات والمشاريع ذات الدافع الجمعي، وهي بدائية مكثت تتحرر من توحشها، بالدهشة، وبما هو نبيل. فالنحات لا يصنع أوثانا ً أو أصناما ً، بل هو، على العكس، كان يفككها: يقوض الأهداف المباشرة، كي يتمسك بما يريد النحت أن يقوله نحتا ً، وليس شعرا ً أو فلسفة. فالمجال الخلقي ممارسة عملية و[ أخلاقية ] في منح الفن كل الذي لا يقبل الدفن. ومفهوم موت الفن، منذ (هيغل) يسعى للفصل بين الشيء ـ السلعة ـ وما في الفن من لا شيئية. فالإشكالية ليست مثالية، كما تبدو في حدود الكلمات. لأن رهافة (هيغل) ومثاله الخاص بالمشتغلين في الموسيقى توخى الفن الخالص: الفن بصفته عملا روحيا. وعند جواد سليم، وبعده طالب مكي، سيمتلك سمة النشاط النبيل، وليس دوافع التباهي، أو صياغة رموز للعراك. فالسياق الخلقي ينسحب إلى تلك الدوافع ذاتها التي بذرت بذورها في خاماتها البكر: النبض الذي تشكل [تعلق] ، أو، بحسب أقدم أساطير الشرق، بالنفس الذي وهبته الأعالي (الآلهة) إلى الكائن ـ الإنسان ـ قبل أن ينفصل عن مكوناته وعناصر خلقه.فـ [النفس] أو[الروح] ليست محض قفز فوق قوانين الجدل، وإنما ثمة حكمة مكثت تجد تشفيراتها في الفنون عامة، وفي فنون الشرق تحديدا ً: تماثيل بوذا.ز وتماثيل كونفوشيوس، وإن بدت الأخيرة اقل رفعة أو مثالية.. لكن لغز الروحي لم يدمر بالخامات، ولا بالتصنيع، ولا بالتحديثات، والقطيعة مع كل ما لا إجابة عليه. فطالب مكي سيسمح لخلاياه أن تعمل، وليس لثقافاته ومعارفه، ولكن ثقافته ومعرفته مكثتا أكثر صلة بعالمه الداخلي. فقد مكث هو نفسه يبحث عن مكونات نصه الفني الخاص. مع أن التنصيص، وهو جزء من عمل الموروثات عبر التشفير الذي يصعب شرحه أيضا ً، سيذكرنا بان ما من ماض ٍ، ليس بلا ماض س، كأن الماضي، في هذه العملية، لا نجده إلا في الحاضر، وفي الغالب، في استدعاء مصيره. فالحلقة الزمنية، وإن بدت ممتدة، فانها ستشكل دائرة لا نهائية تسمح للمتلقي بثراء التأويل، شرط أن لا تكون هناك شروط مسبقة للحكم أو للانغلاق. ر قسرا ً، كي يتعلم ّفمكي هاجر ولم يهج ـ بدءا بتعاليم أستاذه جواد في نعهد الفنون الجميلة ـ من الماضي أن هذا الماضي، بمدافنه، يتحرك عبر علاماته. رة، أو التي اكتفت فمنحوتاته المصغ بما تريد قولهن هي علامات تتضمنها ذاكرة غير مقيدة، وغير منغلقة. فهو ذهب ليتعلم من الطين، قبل أن يتعلم ه ومعادنها ّمن جبروت التقنيات المصنع القاسية؛ تعلم، أن الخلايا، المكونة لمنحوتاته، تواصل بثها. فهو لا يتكلم إلا الذي يستحق الكتمان. [ وقد كان محمد غني حكمت وإسماعيل فتاح يجتهدان، هما أيضا، من إقامة تجاور مع الخامات، وليس القطيعة معها] فالسلعة وحدها تغادر، لتشكل تاريخ اغترابها. لكن [النقد] لم يتوقف عند السلعة ، بمعناها الأول، قبل التداول أو في حدود التداول الفني ـ السحري ومن الروحي ـ إنها ليست سلعة إلا بما فيها من الميتافيزيقا، أكثر مما فيها من الوظائف. إنها التماعة كارل ماركس، الكلاسية، في تفحص التطور الذي تجاوز صداماته وتناحراته القاتلة، كي يحافظ على مغزاه الكلي وغير المدمر. فالذي لا يشرحه طالب مكي، وحده، يجدد دعوة جواد سليم بجعل المخيال يشتغل بخفاياه، عبر ابسط الأشكال والمرئيات والأبعاد : ألام والشجرة والزخارف الشعبية والأشكال الهندسية ت عبر العصور .. الخ ولكن ّالتي تشفر ضمن بنية النص الفني بما تمتلكه هذه البنية من قدرات على الانفتاح، وليس على الموت، أو الاستهلاك الوظيفي، أو الدعاية. فطالب مكي يعيد صياغة نماذجه، بأقدم تدشينات الحداثة: لا بمدلول [ حدث ] فحسب، بل بمدلول: الاسم الفاعل : النص الذي تكونه عناصره بفاعل محدد الهوية، لكن، غير ميت داخل نصه. وقد كان سليم قد أعطى درسا ً بالوحدة بين الفنان ونصه الفني ـ الخلقي.. وليس تدميره. وهو الذي يجعل نصوص مكي تنحاز إلى نسيجها وديناميتها ومجالها التعبيري والرمزي، الذي يوسع حدود الواقعية، لا أن يجعلها محض أشكال أو محض مصطلحات. انه يعيد صياغة خلقه، وتلقائيته، برهافة أصابع لم تتحجر، نماذجه الدالة على هذه الدوافع، إلى جانب كل الذي يجرجر المتلقي، للغوص في كتمانات معلنة: مرارات الجمال الكامن في ظهوره الخاطف، والجارح، والمكتوم حد البوح المستحيل. فأي لغز سيبقى يبحث عن آخر يستدل به على الامتداد، ومنطق التواصل..؟

موضوعات بعد ـ قبل ـ النطق
" صرخة صمت داخل الأشياء.." انه : طالب مكي.. كما قال جواد سليم. لقد جذبتني العبارة.. عدا نهايتها الأبوية التي تقول " هذا الفتى اليافع سيكون يوما ً خليفتي " ولا افترض أن جواد سليم قالها إلا في سياق التبشير وليس في سياق التبني. ولو لم يكن جواد هو الذي قال " صرخة صمت ..." فان المتلقي لن ينشغل طويلا ً في تأويلها.. وهو التأويل الذي سينفتح، مع تجارب مكي وحياته، بما تمتلكه نصوصه الفنية من ذهاب ابعد من نصية النصوص. فهو سيحيلنا إلى الأسباب التي جعلت جواد يفكر في " صرخة" داخل " صمت الأشياء" ! ومن ثم، يسمح لنا للعثور على معان عند مكونات الفنان .. وضمن موهبته .. وفي تجاربه الفنية. لقد فكرت بهوميروس، وببشار بن البرد، والمعري، الشعراء الذين شيدوا ور. لقد كانت ّمعمارهم الشعري على الص خلاياهم البصرية تتجاوز حاسة البصر.. فكان العالم يضاء بالمتضادات، ولكن، بفعل النور، كانت تجاربهم تغوص في
رسم مشاهد الجدل والصراع واتساع مساحة التأمل. هل كان خلل البصر قد فعل ذلك..؟ إن طالب مكي، لا يتكلم، فقد عاش تحت رحمة هذا الداء! ولكن، ما علاقة (الحبسة) بلغة كونتها شروطها النحتية: الأبعاد والخامات ؟ إن جواد سليم، البغدادي، الرقيق والمرهف، والخجول بنبل، مع تجاربه الموسيقية والأدبية، كان يجد معادلا ً تعبيريا ً كما )ًفي النحت( بصفته معمرا ً روحيا رمزيا وعلاقته بالمدينة ـ التاريخ. ولكن جواد ـ شخصيا ًـ أحالني إلى تلك الفوضى والتداخلات التي عاشتها مرحلة الريادة في خمسينيات القرن الماضي، ونشوة تدشينها بلغة مناسبة. فهل ثمة لغة ما باستطاعتها أن تزحزح سكون ألف عام من الصمت والخمول..ظ بيد أن الأشياء ليست هي حضارة وادي الرافدين إلا كتأويل محتمل، وغير مباشر، كما أن النحت ليس هو وحده الذي يمتلك دوافعه الواقعية والرمزية إلا بصفته يخص معمار المدينة ـ الإنسان.. إن الأشياء، بل وكلما توغلنا في مناطقها النائية، والمستحيلة، والمكرسكوبية وما هو ابعد من المرئي نحو الذي يحول الخلايا إلى طاقات.. وابعد .. كالضوء والزمن.. فان التأويل يغدو روحيا ً، وقد شمل المشهد الكوني بجلال أنظمته.. وليس إلا صمت النحت، مع المتلقي، يمكنه النفاذ إلى المعاني المشار إليها بإيماءات لا أكثر ولا أقل: وليس أدق من مصغر السجين السياسي تمثلا ً لها. إذا ّ: فصرخة الصمت ستتصل بالمجسمات والخامات والأبعاد النحتية بالدرجة الأولى.. من ثم التاويلات النفسية
والثقافية ذات الدافع التحريضي أو النقدي. عند طالب مكي، بعالمه الخاص، وجد لغة تناسب شخصيته: تترك كيانه ينحت، إن لم أقل، انه هو برمته غدا مادة فنه، وليست الأصابع ـ كما عند جواد وخالد الرحال وإسماعيل فتاح ومرتضى حداد بعد جيلين ـ الماهرة إلا أداة الدخول. بيد أن صمت طالب مكي ليس شخصيا ً، كما أن موضوعاته لن ترتبط حصرا ً بما جذبه وعذبه وأثاره.. فالارتقاء بالمعاني منح لغته النحتية الانتقال من النموذج الفني إلى الدلالات الأبعد. هل كانت صرخة الصمت تنذر بالهدم.. ومغادرة الانغلاق، نحو حوار أكثر اتساعا ً..؟ إن طالب مكي، بعد )لم يجد 1961 ـ 1919رحيل جواد سليم( ) يستعين به إلا بالاعتماد ًمعينا ً( رمزيا على صمته: تلك النداءات التي ستترك رنينها منحوتا ً في اتساع المسافات ـ والموضوعات. فكانت موضوعات : الأم .. والصناديق.. ومنحوتات خرافية لكائنات بشرية حورها إلى أشكال لم تتأسس عليها الحداثة (الأوربية) وإنما تأسس عليها النحت في بذوره البكر: الدمى الطينية، وتماثيل عشتار(الآلهة الأم ـ رمز الخصب أو الامتداد) الآلهة التي امتلكت مزايا الخصب والآثام: الحب والحرب..الخ فطالب مكي ـ بعد جواد علم المجهول: إلى الكائن ّـ عاد إلى الم الداخلي الذي ما انفك ـ كما عند منعم فرات ـ في مواجهة ما لا يوصف في حضارة الماء والطين والكوارث.
كانت الأم ـ عشتار ـ هي تلك الذاكرة المتراكمة داخل منحوتاته: عصور مكومة ومتراكمة فقدت واقعيتها من اجل واقعية تجعل الجسد مأوى للتأويلات: انه المأوى المؤجل. فالآم ـ كما رسم فائق حسن والدته كأنها استعارة لا يمكن عزلها عن الطين والماء أيضا ـ عند طالب مكي ليست تلك الآتية من الجنوب (مدينة الغراف ـ الشطرة) : الماء وصمت العجز إزاء المصائر المستحيل إنقاذها فحسب، إنما ألام التي حملت منذ ظهرت اليابسة بعد الطوفان، بثلاثة ألاف سنة قبل تدوين ملحمة جلجامش في الأقل، نذور حضارة شكلتها التحديات والاستجابة نا من لها. فمنحوتاته الأم تقربًامتدادا البذور: إنها ليست تامة.. وليست دالة
على معان محددة. إنها تحمل جيناتها وقد لامسها الفضاء تارة بقسوة.. وبرقة تارة أخرى. فألام وجدت مأواها في بذرتها. بيد أنها بذرة تعلمت كلامها داخل صمتها : صمت النحت، ولغته المستمدة من الأجساد، والمعمار، والأحلام. فألام عند الفنان غير قابلة للدفن.. فهي لم تصر جنازة. إنها مكثت رمزا ً صاغته أسئلة الشقاء: الطبيعة وكوارثها.ز العدوان المتكرر المتسم بسلوك اصل عمل الخلايا ومحركاتها ( الطبيعة البشرية كما يقول الاستاد د. علي الوردي) .. وأخيراً ، عراك البشر. إن طالب مكي، بإيماءات أصابعه، وما يخبئه بصوته الدفين، يتحدث عن أم .. وأرض.. وناس.. وحياة ارتقت بالكائن إلى فضائله: إن الإرث وحده علامة امتداد. والمجسمات، كقصائد بعض الشعراء الكبار، ممتلكات يسهم بحملها هؤلاء الكبار ونقلها من الماضي السحيق إلى : حاضر خال ٍ إلا من انتظارات لا تحصى. فأية كلمة مازالت كلما اقتربنا منها، كلمة جواد، تسهم بإعادة بناء كل الذي كان ينتظر تدشيناته، وقد وجد طالب مكي نفسه، منذ البدء، الأمل وقد نبتت أشكال تحررت من صمتها، لكن، ضمن خطاب النحت.

صناديق ـ ووجوه:
مكثت أصابع طالب مكي تعمل بذاكرته، وبخزينها. ومكثت (لغته) الواقعية ـ البدائية تعمل عمل الخرافات. فحداثته ترجعنا إلى الأسئلة التي مكثت، حقبة بعد أخرى، لا ترتد. فهو ينحت كما فعل أسلافه في أعالي رة ّالفرات، وفي سومر، تلك الآلهة المصغ للام ـ الأرض ـ المعابد، في مواجهة ملغزات غدت مادة الاستجابة: النحت كعلامات تواصل. فمن تماثيل الأم إلى الصناديق.. ومن الجسد إلى اختزالاته.. ومن الصخب إلى علامات هندسية وسحرية لها صلة بصوره ومرئياته الواقعية: المشاحيف وهياكل الموتى والأكواخ وأسرار الأمهات المدفونة في لق] طالب مكي سمحت ُالقلب. إن [خ له بالانزواء، والابتعاد عن نصف قرن من الضوضاء والتجريب ـ السياسي والاجتماعي والثقافي ـ، حيث وطنه مكث في قلب العواصف والمجهول. هذا الانزواء، حبسه داخل ذاته ليذهب به حيث راح يعيد تحوير مدنه وأفكاره إلى صناديق وأشكال مختزلة جردها من وظائفها التذكارية والتعبيرية المباشرة. فطالب مكي أشتغل بحرية أو بعفوية البدائي ـ السحري، الذي لا علاقة له بالفطري أو بالهمجي أو بالذي لا يجيد القراءة والكتابة، لأن ثقافة مكي مغايرة لثقافة منعم فرات الغريزية والاستثنائية ـ فهي ثقافة صانع امهر: خرافات أو معجزات. إن صناديقه تنطق بصمتها، وبما تكوم فيها من أسرار نائمة على الأسرار. فهو لا يفصح، انه يكتم الكتمان، أي يعلنه بطريقته. حقا ً علينا أن نستذكر السحرة الأوائل : إنهم لا يوهمونا بعمل المعجزات، إنهم يجعلوننا نصدقها. فالسحر يكمن في ملغزاته وليس في نتائجه.. ولكن أشكال السحر تحافظ على خفاياها: ذلك المتحرك وراء السكون.. وصوره. ففي صناديق النحات، كما في كل ذاكرة نبيلة، ما يستحق الإصغاء. إلا تبدو تماثيل السومريين والاكديين، وقبلهم، صناع دمى الآلهة الأم قبل ثمانية آلاف سنة، مازالت تحكي كل الذي يكمن داخل الحكاية، وإن علامات الاتصال ـ الحروف أو المنحوتات ـ ما هي إلا تلك الوحدة بينهما.. فليس ثمة، في السر، رى أو ُأكثر من هذا الذي يكاد ُيلمس أو ي لا يقبل الاندثار. إن مكي أشتغل، بهذه، بهذه البدائية ـ التدشين البكر لكل فعل ـ أي بدأ .. نحو .. الابتداء ـ ليس في فتح صناديق الذاكرة ـ النحت ـ بل في السكن فيها. فهي المأوى. ففي عزلته ـ بعد رحيل جواد سليم ـ لملم طالب مكي حكمته وغادر الدنيا ـ وربما لهذا السبب وجد مأواه الآخر في الطفولة
ـ والتضحية بموهبته الكبيرة، ولكن بإغراء البراءة ليس إلا . فعمل في دار ثقافة الأطفال رساما ً لسنوات طويلة ـ لكنه لم يكف عن صناعة صناديقه المغلقة: صناديق تحكي تراكمات ما يحدث .. وما يحدث بعيدا ً عن المشاهدة والمراقبة. فثمة عيون تحدق فينا، بصمت ذبذبات فقدت بنيتها (الذرية) وغدت تموجات وكمات وما هو قريب للزمن: لغة لا تصمت، لأنها لا تحمل مفهوم عمانوئيل كانت[ الشيء في ذاته]، بل : لغة تتميز بوضوح أدائها ومنطقها :دوائر.. وأشكال خرافية تحولت إلى مثلثات ومكعبات وسطوح كأنها تضاريس الأرض وتقلباتها وأطلالها وقد تجاورت. فالمكعبات ـ الصناديق ـ تحكي الذي تم روايته؛ تحكي الحكاية وكـنها لم تحك من قبل: ما الذي يريد الموت أن يقوله لنا، وقد اكتشف لعبته مع كائنات لا تمتلك إلا أن تهرب إليه، لا بعيدا ًعنه: عيون تحدق في الآخر، المجهول، وقد ة ملغزات، ّتحول، هو الآخر، إلى صر ات داخل صناديق الذاكرة. انه غدا ّوضج يحدق في الموت، الذي نعرفه جميعا ً، لكن الذي نجهله كلية في هذه المعرفة. فالنحات يعيد صياغة بديهات: الوجوه .. والمعابد.. والسفن .. والنسوة المدثرات بالعباءات وما تحمله من رائحة الخصب والثمار والأرض والحكمة. فالصناديق لم تعد مغلقة .. إلا كما القصائد عندما لا نسنها. لكن النحت ليس مأوى للدفن، بل مأوى للتكوين، والمغادرة. فأسفار طالب مكي، كما هي أسفار عشتار في غزلها، تغوي السر، لتغوي الغواية، ذاتها، كي تجعلها علامة تامة: منحوتات تهدم السكون والوثن أو الصنم. فالفنان لا يصنع إلا الذي تراكمت ملغزاته، كي تستحيل إلى لغة يفسدها الشرح، لأنه قد يمسسها. فبدائيته تحميها من الهتك أو الاستعمال. فالصناديق الصغيرة، تبقى، إلى جانب منحوتات كبار النحاتين العرب، علامة عصر لم تفكك مدافنه، فهو يحمل تشفيرات الشاخص، ولكن، بملغزات الذين لم يموتوا بعد . إلا تبدو مستقبلية تماثيل الدمى الأولى، قد صنعت، لغد آخر، كان النحاتون ـ والشعراء ـ لا ينقلون فيه إلا هذا الإرث: الذي لا يخص مكونات ما لا يحكى ويسرد فحسب : بل حيث الشاخص علامة دخول، ومغادرة: مخيال وليس ضجة استذكارات باطل.

أقنعة ومرايا
كيف يتاح للفنان أن يجمع، في حدود نصه الفني، أزمنة قديمة، وأخرى تبقى متحركة..؟ وكيف يتسنى له، أن يسكن هذا النص، وان يندمج فيه، وان يغادره، في الوقت نفسه..؟ وكيف يحافظ على متحركات داخل المجسم بأداء يختزل فيه اعقد الإشكاليات: المعنى إزاء عناصر النحت الفنية..؟ إن طالب مكي، لا يستعير فكرة القناع، المرآة، التي ترجع أصولها إلى ثنائية الرؤية.. وحدة القناع بالوجه.. وجعل المسافة مرئية.. وملغية.. في وقت واحد.. ولا يتوقف عند النحت، كنحت حديث أو قديم، بل للمزاوجة بين دلالات لا تستقر عند حد.. بل تترك كيانه كله يتجسد عبر أقنعته، ومراياه. فالنحات قد يستعير الأشكال الواقعية، لكنه لا يتوقف عندها، كبورتريهات شخصية، بل حتى ليست رمزية : وإنما دينامية. فهل كان يدرك أن الحرفة، في حالات، توقف التعبير أو تحد منه.. أم انه جعلها غاية مندمجة بكل ما لا يخضع للبوح..؟ إن مشروع القناع: واجهات تماثيله، وصناديقه، وسطوح مجسماته، لا تغادر مكوناتها. فالنحات لا يفكك، كي يتوقف عند الأجزاء ـ الوجه مثلا ًـ بل لا يمكن عزلها عن علاقاتها بفنه. إن البدائية، هنا، تقفز فوق المعرفة ( وكان الأستاذ شاكر حسن يقول : الكتب .. والثقافة.. والمعرفة كثيرا ً ما تغدو حجابات) لكن وثبات النحات لا تتوخى استعارة أقنعة عصور اندرست..أو ستندرس. انه يمسك بالسر ذاته الذي لعبته (عشتار) في ازدواجية دورها. وكأن طالب مكي، في بدائيته الصافية، يتقمص هذا الدور:
القناع خارج الزمن، في محاولة للامساك بهذا الذي يتحرك عبر المرور والحركة. د الأسئلة. ولكنها لا تبحث ّفالأسئلة تول عن الخارج. فالاغتراب ليس مقارنة بين المحدود واللامحدود(هيغل) وليس هو سر اغتراب صانع السلع المنفصل عنها(ماركس): انه، ليس هو، طالما لا يستطيع أن يكون إلا قناعا ً: شكلا ً مثبتا ً لبرهة في المرآة . . ولكن استحالة أن يكون هو نفسه، واستحالة تطابق الذات مع صورتها في المرآة، يدفع بالفنان إلى لعبة العثور على بحث في المسافة بين الوجه والقناع، وبين السطح ومخفياته، وبين المرآة وقفاها. وقد يكون للتأويلات الاجتماعية، والنفسية، لذة لها علاقة بالمنجز الفني.. كما تم تأويل مغزى السحر ألتشبيهي، الرمزي..؟ ولكن الإشكالية تكاد تنفي هذه المعرفة. فالساحر، الفنان، في درجة ما، هو أول من يفند سحره: وهم الجوهر وكل ما هو غير القناع. انه لا يصنع إلا كل ما هو غير قابل للصنع: السطح. وهو بهذا يدرك أية إشكالية لا تتجاوز ملغزات المرئي: الواقع : الوجود والصناديق والأم والأشكال التي استحالت إلى علامات صمت. وهنا تؤدي أقدم الأقنعة، وظيفة مضادة للوظيفة. فطالب مكي،بتحرره من تعاليم الخبرة وشروط البناء، والمعاني المحددة، يتوخى رسم تلك المسافة ـ العلاقة ـ المجهولة بينهما : بين الآخر والذات.. والنحت كبناء رمزي يؤدي وظيفة الحماية. هل قلت، إن القناع هو الأصل، عند مكي، وليس أشكالا ً للتعبير..؟ فالوجه ـ القناع ـ
هو كل الذي يخفي استحالة أن يكون شيئا ً آخر. فالنحات لا يمارس لعبة ما .. مع انه مارس، خلال نصف قرن، طقوسه السحريةـ الفنية ـ بمعزل عن اللعبة الاجتماعية، وأهدافها المقننة. فالفنان اختار سكنه في فعل السحر، بعد أن جعل من الأقنعة علامة وجود: هذا الانشغال بالتخلي عن حدود المعاني وأهدافها، يكمن في النحت. فالنحات لا يبحث عن.. ولا يكتشف أيضا ً: انه لا يزيح ولا يقشر، كي يعثر على التمثال داخل الخامة، كما ذكر مايكل انجيلو ذات مرة.. كما لا يبحث عن معنى ما كي يثبته في حدود المجسمات.. وإنما لا يتخلى عن الاندماج بما يصنع، بعد أن غدا الموضوع مشتركا ً بين الدمى الأولى، وبين عصر تصنعه قواه. فالنحات يمسك بما يلامسه كي يدمجه في أشكاله كأقنعة استحالت إلى إجابات ـ وأسئلة. إنها بدائية تعرف؛ معرفة الذي يتشكل بنبضات متجانسة بين القلب والكون: فليس ثمة أهداف ابعد من السكن في المستحيلات: في القناع، حيث المعنى يبقى يتحرك عبر الأشكال.

مسافة : البراءة والموت
البراءة ليست أكثر من قناع مقلوب لقفاها الغامض. إنها ليست الإثم. فطالب مكي لم يتقدم بشكوى. وربما لا احد سمعه خلال حياته يتذمر أو فعل شيئا قريبا ً من الشكوى. انه اسكت شكواه مكتفيا ً بعمل أصابعه كي تمثله في رسم حدود أحلامه. وهو ـ وفنه ـ سيؤديان دور المؤرخ. فالحفر ـ حتى في تماثيله البرونزية ـ يتمثل علاقة الذات في المنجز الفني. فالفنان احتمى بالفن. ولكنه لم يجعل منه أكثر مما فعل صانع تماثيل الأم والدمى، وتماثيل الأسس في سومر. فالوظائف الواقعية تختزل في النص الفني نفسه، كي تصبح هي ذاتها غاية. علامات ضمن نظام متماسك ومتداخل ومشفر. فالنحات ـ وقد انتمى طوعا ً إلى دار ثقافة الأطفال منذ ـ لم يغادرها. 1969تأسست في عام لقد أمضى سنوات طويلة لا علاقة له، في رسوماته للأطفال، بعالم آخر شديد الانفلاق. بيد أن علاقة ما ـ أشبه بالفجوة ـ كانت بمثابة الصلة بينهما. فرسوماته تتمتع بمخيال فنان مرهف، . وفي عالم النحت ّيسرد، ويبني، : يدمج أزمنة مختلفة لصالح زمن النحت. إن الفنان الذي ولد في مدينة الشطرة ـ أحدى مدن الجنوب الواقعة ،1937على ضفاف نهر الغراف عام ـ 1952ودخل معهد الفنون الجميلة ( ) ولازم جواد سليم حتى رحيله 1957 ـ مكث يبلور أفكاره وتأملاته ككائن لا يمتلك كلاما ً كثيراً ، بل صمتا ً متراكما ً، يتكوم مندمجا ً بخامات تماثيله. فالفنان لم يغادر ـ وهو يتأمل وجه الأم ـ التي سحبته إلى القرى الأولى ، مثلما سيتأمل برقة، أحلام الأطفال وهو ينجز رسوماته لهم كنذور. فالمنطق الذي حافظ عليه سليم، وعدد من النحاتين، طوقه كاختيار لم [يدنس ـ يوظف]، قدر المستطاع، بموضوعات النصب والتماثيل. فقد مكث يعيد صياغة تلك التي منحت النحات الأول قدرة التقاط الصمت والبراءة والزمن وجميعا ً في مجسم اختزل حد الصفاء. فعلى العكس من رسوماته ذات الطابع التعبيري، الأكثر إيضاحا ً عن فنان لم ينتظم ن صمتها ّاجتماعيا ً، جعل منحوتاته تدو بأكثر العلامات تجريدا: بقايا وجوه حفرت عليها الأزمنة آثارها، ولكنها، مكثت لا ترتد، بل تحدق. أية دوافع عدا تلك التي تجتمع فيها المتضادات والثقافات والأفكار والتجارب منحته قدرة الإمساك بهذا الصفاء، وكأنه يكثف (الصمت) أو(العتمة) أو (الفراغ) ويحولها إلى كتلة، لم تنتجها الحرية، ولكن لم تنتجها الضرورة، بل ذلك التوازن بين ماض ٍ سحيق، وبين من يكاد لا يرى في الأفق إلا أزمنة تتعاقب، كالولادة والموت، وتترك بصماتها نحتا ً كمجموعة علامات في أبجدية سحرية ـ ولكن بموازاة حداثات مضادة للموت. إن طالب مكي، بين أن يرسم مدننا وحكايات سحرية، وبين أن ينحت صمت الضجات ـ إلى جوار ضجات الصمت ـ يرتقي بالرموز والمعاني نحو ذروة فنان يجعل المعرفة، تنسحب، كي لا تبدو راسخة وأزلية. ففي منحوتاته كائنات تنتمي إلى الأرض، حفرت في الأزمنة أثرها، مثلما حفرت الأزمنة فيها إشاراتها، وعلاماتها، ورموزها في مجالها فوق الطبيعي أو الواقعي، تبقى تمتلك قدرة حضورها العنيد: حضور النحت، كإشكالية الصانع ـ بوعيه المرهف ـ دون أن تكتفي بدلالة كخاتمة حكمة أو تعال ٍ مصاغ بمهارة. إنها تلقائية خضعت لتدريبات الحقب والدهور، وليس لعمر وجيز، راحت تصنع بصيغ منحوتات، تشهد على صانعها ببوح هو ذاته الذي ارتقى إلى حتمية الكتمان: هذا المعلن بنبل دوافع الفن، نحو ملغزاته المتعاقبة، التي تقاوم الموت بأكثر : النحت.ًفخاخه وضوحا النحت: لماذا..؟
لماذا اختار طالب مكي النحت..؟ ولماذا لم يتخل عنه حتى النهاية..ظ إن استذكار العلاقات القديمة، قدم تحول عمل الأصابع من عملها غير المحدد، نحو التخصص، يسمح بتأمل نشوء أقدم أبجديات الاتصال. فبعد عمل ملمس الأعضاء والروائح والأصوات والبصر، بصفتها تخفي غاياتها، نحو أنظمة محددة، فان تداخل هذه الوسائل، أنتج علامات مركبة. إن ذلك التعقيد المبكر الذي أنتج الإناء والتمثال ضمن حدود عصور الكهوف، سمح بوجود لغة اتصال تناسب نظام التجمع. فهل كانت الحجارة، منذ البدء، كوسيلة دفاع، وهجوم، قد منحت الكتلة سرها بالتحول من أداة قتل، إلى أداة سحر، ومن السحر إلى لغز لغة التجاور حد تشكل مفهوم العائلة الأولى..؟ إن فعل الاتصال غدا اسما ً، والحجارة، أو أية كتلة غير صلبة، أخذ شكل قبضة اليد: إنها الكتلة التي ستحقق تقويض الهزيمة، الكتلة وقد صنعتها نبضات القلب، دخلت في الحماية، والسكن، وصناعة القوت. فهل للوظائف، في هذا السياق، شرارة التحول إلى نظام العلاقة.. والخطاب، في تشكله التكراري الذي سبق اللغة بزمن طويل..؟ وهل ثمة، إضافة إلى مثال آخر، علاقة ما للصخرة بالقلب؛ الصخرة التي كانت توضع فوق القلب، بعد الموت، لغز مضاف..؟ وهي المعجزة التي ستغدو، في هذا الوقت المبكر، علامة بين الفضاء وعالم الموتى: الشاخص. فأية علاقة غير مرئية، في هذا التأمل، بين المجسم والوثن.. وبينه وبين الصنم.. وبينه وبين فن النحت، مكثت تجد جاذبية لدى الذين يلامسون الأرض.. كي تتضمن الكتلة تشفيرات ترجع إلى أداة القتل.. وهي ضمنا ً التي وضعت فوق الميت كي تفصل عالم الموتى، عن عالم الأحياء. ثم كيف يهمل الطين، كأقدم مادة، جعلت منها أساطير عدد كبير من الشعوب، مادة الإنسان ذاته: عناصره وقد اجتمعت كي لا تنتظر سوى [النفس] وقد بعثت الآلهة، في أحدى أساطير الشرق، النفس بإناء كي يغدو ..؟ًالطين بشرا لا (مايكل انجيلو) ولا(رودان) ولا (هنري مور) ولا (جواد سليم) ولا (طالب مكي) طبعا ً غفلوا عمل هذه التشفيرات. فالنحت تضمن، بالتجربة، والحدس، دور ردم الفجوات بين الذات ومكوناتها. فالنحت لم يأت هبة، إلا باستجابة الذات لإقامة جسور الاتصال؛ جسور الإقامة، وليس للعبور حسب. وطالب مكي، الذي ولد في الجنوب، بين السماء والطين عند ضفاف الغراف لم ينقصه إلا أن يطلع على أساطير الرافدين، وعلامات حضارات تكدست فيها آلاف المنحوتات الكبيرة، والصغيرة، حتى ان هنري مور، في حوار مع جواد سليم، استغرب حضوره إلى لندن لدراسة النحت، وهو من ارض سومر وأكد. فأرض السواد، ليست مشهورة بخصبها في ابتكار الشرائع، وأنظمة المعرفة، والملاحم فحسب، بل في إنبات أقدم أبجديات التدوين. وضمنا ً، كان النحت علامة تتشابك مع المنجز التصويري(الرسم).. ولقد مارس طالب مكي النحت في طفولته، مثل خالد الرحال، وربما لم يجد من يزجره، وهو يصنع الأشكال البشرية، والحيوانية، بصفتها تشبيهات غير مستساغة، فتولع بها، وهو يكتم فيها كلماته وصمته معا. كان النحت، وكأنه في موقع الدفاع عن ذات وحيدة، ولكنه لم يكن يفكر ان يصنع من تماثيله حجارة للقتل، بل حوارا ً هو أساس [خلق] إنسان صاغته فطرته، فكانت رات تجد من ينجذب إليها، بعيدا ّالمصغ ًعن التاويلات. ويشاء القدر ( وماذا نقول غير هذا الشرط المحكم) ان يجد طالب مكي جواد سليم برعايته، كي يمنحه قدرة اختبار الذي لا مناص هو حريته وحدها. بيد ان الفنان لن يجعل فنه هواية. فحدسه علمه، مع المران، والدراسة،
ان النحت إشكالية تتجاوز الوظائف، والغايات: إشكالية متضمنة ما حدث برمته. فالكتلة البكر، إن كانت قد لبت بالنار، أو من ّصنعت من الطين، وص الفراغات والفضاءات.. الخ كانت قائمة بجوار الجسد : الكائن بصمت ضجاته الأولى، ومخاوفه، وأحلامه. فالمخلفات تسرد، في حدود المتحف البشري، عن آلاف النماذج النحتية التي وجدت في قرى الإنسان، وفي شتى الحضارات: تماثيل عند راس الميت، بعد ان كانت الحجارة توضع فوق الجثمان، لمنع الروح الشريرة من مغادرة الجسد.. وصار الشاخص رمزا ً، مثلثا ً ومستطيلا ً ومعينا ً وصليبا ً.. وصار النحات ينحت قوته؛ أي، بشرود أبعد، سر تكونه: مادته التي حسب انها اصلب من تلف حياته السريع، ينحت كي لا يمسه الموت، في الحضور ألتشبيهي والرمزي المشفر بدافع لغز الكائن. فأي محاولة للتعريف، تعريف النحت، تحيلنا إلى الأصابع، وبدورها، الأصابع، تحيلنا إلى نبض القلب ومكونات الجسد، والمحركات، والمكونات الأخرى في صياغتها لهذه العلامات. لكن المنحوتات التي مكثت، بعد أزمنة طويلة، لم تفقد قدرتها على نقل تلك الخفايا التي سكنتها، وتلبستها، كما دخلت [النفس] إلى الطين، وصاغت الحياة فيها. هكذا، في أزمنة قديمة، يرتقي النحت إلى الذروة: يغدو آلهة. فلكل قوة علامتها. وفي مقدمتها: الخصب. ومن تصور المثال المقدس، إلى الإنسان، ميز النحت هوية المجاميع البشرية.