من اسبوع لاسبوع.. جون كنيدي..

من اسبوع لاسبوع.. جون كنيدي..

لا يزال العالم يتحدث عن الرئيس الاميركي الراحل جون كنيدي.. بل لعل العالم قد تحدث عنه بعد وفاته اكثر مما تحدث عنه طول حياته كانما كان ينبغي ان يلقي كنيدي مصرعه لكي يعرف الناس في بلاده وفي خارج بلاده قدره وقيمته واي رجل واي زعيم قد راح.. ! راح في لحظات جنون..

على يد شاب مهووس مجنون.. او مأجور.. من الصهيونيين او من المتطرفين المنادي بالتفرقة العنصرية او من الاثنين معا فلا يزال التحقيق يجري.. وراء البحث عن الحقيقة ولا تزال الحقيقة ملفوقة في استار من الغموض والضباب.

ولقد عاش جون كنيدي مدة رياسته وحكمه وسط الضجة والضجيج.. وبعد وفاته آثار مصرعه الضجة والضجيج.. ولكن الضجة الاولى كان فيها نقد وتجريح لبعض نواحي سياسته..
بينما الضجة الاخرى بعد مصرعه كانت ضجة حزينة باكية.. او قل ان شئت ان الرئيس الراحل لم يلق اثناء حياته او اثناء مدة رياسته كل ما كان يطمع فيه من تقدير وتكريم فقد كان وكانت سياسته موضع خلاف في الرأي.. ولكنه – بعد مصرعه – لقي اجماعا في الرأي على انه جدير بكل تقدير واعزاز وتكريم..
ما السر؟.. ما السبب؟..
جون كنيدي لم يزعم لنفسه ولا زعم له احد انه نبي او قديس او صاحب رسالة.. ولكنه كان رجل سلام.. وكان يسعى جهد طاقته وراء الحق او ما كان يعتقد انه الحق.. في بلاده وفي خارج بلاده وكان يشق طريقه نحو اهدافه وسط تيارات شديدة هادرة.. تيارات يسارية متطرفة وتيارات يمينية مجنونة متعصبة وتيارات صهيونية قوية!.. وبشجاعة المؤمن بأنه على حق.. مضى في طريقه لا يأبه لهؤلاء ولا لهؤلاء... كان عليه مثلا ان يعمل حسابا لاصوات الناخبين .. من اليهود.. وحسابا للشركات التي يسيطر عليها الصهيونيون.. ومنها شركات الاذاعة واخرى للتلفزيون.. وان يعمل حسابا لعمالقة الاحتكار في بلاده.. وان يعمل حسابا لكونراد ديناور مستشار المانيا الغربية السابق.. وحسابا لمتطرف آخر وهو الرئيس الفرنسي شارل ده جول.. ولكنه – وبشجاعة – رفض دائما ان يلعب في هذا "الحساب" الى آخر مداه..
ومن هنا قابل خروشوف في منتصف الطريق ومد اليه يده.. ومن حسن حظه وحظ العالم وحظ السلام اه وجد في خروشوف رجلا حريصا مثله على السلام.. وقامت ضجة كبرى في بلاده، وفي خارج بلاده.. ولكنه لم يأبه ومضى في طريقه.. وباتت شجاعته الكبرى في سن قانون الحقوق المدنية الذي يعطي الزنوج حقوقهم ويرد لهم كرامتهم كمواطنين.. الى آخره.. الى ىخره فقد كتب عشرات بل مئات فيما اكتب فيه الآن...
***
واليوم احب ان اكتب في كنيدي الانسان والمحسن الكريم.. وكنيدي الصحفي والكاتب والاديب.. كان الرئيس الاميركي الراحل يتناول مرتباً سنوياً قدره بالجنيهات الاسترلينية اربعة وخمسون ألف.. منها ثمانية عشر الفاً "بدل تمثيل" – كنا نسميه نحن هنا – اي لنفقات الحفلات والمآدب التي يقيمها بصفته رئيس الدولة وهذا بخلاف اربعة عشر ألف جنيه "بدل سفر" اي لتغطية نفقات الرحلات الرسمية.
وكان جون كنيدي يحتفظ بالبدلين.. بدل التمثيل وبدل السفر..
اما صافي المرتب وهو ستة وثلاثون الفأ من الجنيهات فكان يتبرع به كله للجمعيات الخيرية.
ويقول احد كبار الصحفيين من المتصلين بدوائر الحكومة الاميركية في واشنطون ان جون كيندي تبرع للجمعيات الخيرية ووجوه البر والاحسان خلال الخمسة عاما الاخيرة اي منذ دخوله الكونغرس واشتراكه في الحياة العامة.. تبرع بمبالغ جملتها مائة وستون الف من الجنيهات اي نحو نصف مليون من الدولارات.. وهنا السؤال...
كم تبلغ اذن ثروته؟.. وهل كان اغنى رئيس دخل القصر الابيض؟..
ربما لم يكن – شخصياً – اغنى رئيس اميركي ولكنه قطعا كان ابن رجل معدود بين اغنى اثني عشر رجلا في العالم فقد قدروا ثروة ابيه جوزيف كنيدي بنحو مائة مليون جنيه او ثلثمائة مليون دولار ومن هنا يمكن القول انه لم يكن هناك قبل جون كنيدي رئيس له أب يمثل هذا الثراء.
ولقد ولد ابوه جوزيف كنيدي في بيت فقير في حي متواضع في مدينة بوسطن.. وبدأ حياته ببيع الصحف وهي المهنة التقليدية التي زاولها كثيرون من عظماء وكبار الاميركيين ومنهم مثلا الرئيس الاسبق دوايت ايزنهاور..
وفي سن الخامسة والعشرين تولى جوزيف كنيدي منصب مدير احد البنوك وبدأ يصعد درج الثروة قفزا ووثبا.
ولقد جمع الملايين الاولى من الاشتغال بالسينما.. ثم دخل "البورصة" وسوق المضاربات ومن بعدها اشترى كميات ضخمة من اسهم شركات البترول..
وكان بعيد النظر دقيق الحساب فلم يفشل في عملية تجارية او صناعية واحدة..
وفي عام 1925 تبرع جوزيف كنيدي بمبلغ كبير للمساهمة في الدعاية الانتخابية لمرشح الحزب الديمقراطي وهو فرانكلين ديلانر روزفلت.

ونجح روزفلت واعيد انتخابه رئيسا للولايات المتحدة للمرة الثانية.
وكوفئ جوزيف كنيدي على تبرعه.. فعين سفيراً للولايات المتحدة في لندن..
واسرة كنيدي من اصل ايرلندي.. والايرالنديون كما هو معروف خاضوا حربا طويلة مريرة ضد الانجليز الى ان استقلوا في عام 1922.
ومن هنا لم يكن جوزيف كنيدي يكن حبا كبيراً لانجلترا يوم عينوه سفيرا لدى بلاط سان جيمس في لندن.. وعندما ما اكفهر الجو الدولي في اوروبا وازداد التوتر وبدأ هتلر يقرقع بالسلاح.. كان السفير الاميركي جوزيف كنيدي يبعث بالتقارير الى القصر الابيض في واشنطن.. وفيها رأي صريح بأن بريطانيا ضعيفة ولن تقوى على الصمود امام المانيا الهتلرية.. وان الخير كل الخير في ان تبقى الولايات المتحدة الاميركية بعيدة عن هذا النزاع .. ومن الحرب الوشيكة الوقوع!!
ثم يعود الحديث الى كنيدي الابن.. اي الرئيس الراحل جون كنيدي.. موقف له يدل على استقلاله بالرأي وان لا شيء يثنيه عما يعتقد انه حق..
في عام 1957 – وكان جون كنيدي يومئذ عضوا بالكونغرس – تقدم بعضهم بمشروع قانون يعطي الحكومة الفيدرالية حق الاشراف على صناعات البترول والغاز وتنظيمها.. واعطى جون كنيدي صوته بالموافقة على مشروع القانون المذكور..
ويومها قال جوزيف كنيدي الاب ان ابنه قد اعطى صوته ضد مصلحة ابيه فقد كان لجوزيف كنيدي ملايين عديدة مستثمرة في صناعات البترول والغاز..
وقال لابنه..
- لقد اعطيت صوتك ضد مصلحة جيبك..
***
وكان كنيدي الاب قد خصص جزءا من ثروته قدرة نحو ثلاثين مليونا من الجنيهات لتوزيعها اثناء حياته على اولاده الستة من ذكور واناث.. وبالتساوي فلا يزيد نصيب على نصيب آخر..
ولكنه اشترط الا يحصل احدهم على نصيبه الا بعد ان يبلغ من النضوج.. ومن هنا لم يحصل الرئيس الراحل جون كنيدي على الربع الاول من نصيبه الا بعد بلوغه سن الاربعين.. وحصل على الربع الثاني من هذا النصيب في 26 مايو 1962 وهو يوم عيد مولده وبلوغه سن الخامسة والاربعين.. وكان قد مضى اكثر من عام على توليه رياسة جمهورية الولايات المتحدة الاميركية..
وكان عليه ان ينتظر بضع سنوات اخرى قبل ان يحصل على بقية نصيبه.. ولكنه لقي مصرعه.. والمعتقد ان الاب جوزيف كنيدي سوف يوصي بنصيب ابنه الراحل لأرملته – جاكلين وولديه كارولين وجون.. وعلى كل حال فان جون كنيدي قد ترك وراءه ثروة تقدر بنحو خمسة ملايين من الدولارات..
***
ولقد اشتغل جون كنيدي بالصحافة وبالتأليف.. وربح منهما مبالغ كبيرة.. وكان يكتب المقالات في شتى الموضوعات الادبية والاجتماعية والاقتصادية وبيعها للمجلات..
كما انه الف كتابا عنوانه (لماذا قامت انجلترا) وتبرع ببعض الارباح التي حصل عليها من بيع كتابه المذكور لمدينة (بليموت) في انجلترا لاعادة بناء ما دمرته قنابل طائرات الغارات الالمانية اثناء الحرب..
وفي عام 1956 اخرجت دور النشر كتابا آخر له عنوانه (صور في الشجاعة) ولقد راج الكتاب المذكور رواجا كبيرا وضرب ارقاما قياسية في التوزيع فقد بيع منه نحو مليونين من النسخ.. ولا يزال الطلب كبيرا على الكتاب حتى الآن..
وبلغت ارباح جون كنيدي من هذا الكتاب وحده نحو سبعين الفاً من الجنيهات.. ويوم دخل الرئيس الراحل القصر الابيض كان ايراده السنوي من ثروته الشخصية يقدر بنحو مائة وثمانين الف جنيه.. ولكن هذا الايراد الضخم يهبط بعد دفع الضرائب المستحقة الى نحو سبعة وثلاثين الفأً فقط.. ويضاف اليها طبعا مرتبه وبدل السفر وبدل التمثيل وقد تحدثت عنها..

***
وكان جون كنيدي مثل سائر كبار اصحاب الملايين لا يحمل نقودا في جيبه.. ربما كان يخرج وفي جيبه دولارات الليلة لكي يشتري بها لعبة يعود بها الى ابنته كارولين وبعض الصحف والمجلات له ولزوجته جاكلين..
ويروى عنه انه كان ذات يوم في مطار "لاجوارديا" في نيويورك واراد ان يتحدث بالتليفون مع داره.. وبحث في جيوبه عن قطعة نقود معدنية صغيرة يضعها في آلة التليفون ولكنه لم يجد في جيوبه كلها قرشا او مليما واحدا.. واضطر ان يقترض قرشاً من احد عمال المطار..
محمد التابعي


آخــر ســاعـة/
كانون الاول- 1963