عن سفير الاغنية العراقية الغزالي

عن سفير الاغنية العراقية الغزالي

عبد الكريم الحسني
في عام 1921 وفي بيت قديم في زقاق ضيق من ازقة منطقة الحيدر خانة في بغداد وفي غرفة صغيرة ولد الطفل ناظم الغزالي وهولايملك سوى ام وخالة رماهما الدهر في هذا الحال وترعرع ناظم في هذه الغرفة ورحلة الفقر والالم واليتم ترافقه منذ ان رأت عيناه هذه الدنيا ودخل المدرسة الابتدائية ولم يرحمه الزمان

حيث اصيبت امه بالعمى ولكنه استمر في دراسته حتى المتوسطة ولكنها فارقته وتركت ألماً في نفسه يرافق معاناة الفقر وخالة لاتملك من حطام الدنيا سوى راتب اعانة هو دينار ونصف تعيل به ناظم وروحها على قساوة الحياة .
منذ صغره كان يهوى التمثيل والغناء والفن عموما ولكن قسوة الحياة والظروف الاجتماعية الصعبة جعلته يبتعد عن هذا المضمار وتمكن اخيرا من العمل مراقبا في معمل للطحين في امانة العاصمة ..
وبعد تردد كبير التحق بمعهد الفنون الجميلة واحتضنه الفنان الكبير حقي الشبلي ولكن قسوة الحياة ظلت ترافقه في سيرة حياته هذه ولكنه بالرغم من هذه الظروف كان يتابع الإستماع إلى المقام العراقي وكانت شديد التاثر بالاستاذ محمد القبانجي كما كان يستمع أيضا إلى كبار المطربين العرب مثل ام كلثوم ومحمد عبد الوهاب وسيد درويش وكانت أغنياتهم وقتها تملأ الأسماع في مناخ كان يدعو كلا منهم إلى الإجتهاد والإجادة لإمتاع متذوقي الطرب، وقدجعلت هذه الاوضاع ناظم يتعلق أكثر فأكثر بالغناء ويحفظ أغنياتهم عن ظهر قلب، ليكتشف ويكتشف المحيطون به أن هناك موهبة غنائية لن تكرر في حنجرة مراقب معمل الطحين.
لقد كانت هذه الفترة قد أكسبته طموحا غير محدود وعنادا وإصرارا على إكمال الطريق الذي اختاره رغم الصعاب المالية والنفسية والاجتماعية، التي واجهته، وجعلته حين يعود للمعهد يبذل قصارى جهده ليحصل على أعلى الدرجات. لقد كان يمتاز عن زملائه بثقافته العالية، تلك الثقافة التي ظهرت عام 1952 حين بدأ ينشر سلسلة من المقالات في مجلة "النديم" تحت عنوان "أشهر المغنين العرب"، وظهرت أيضا في كتابه "طبقات العازفين والموسيقيين ، كما ميزه حفظه السريع وتقليده كل الأصوات والشخصيات، وجعلته طوال حياته حتى في أحلك الظروف لايتخلى عن بديهته الحاضرة ونكتته السريعة، وأناقته الشديدة حتى في الأيام التي كان يعاني فيها من الفقر المدقع .
لقد كان ناظم الغزالي رقيق الكلمة، حلو الابتسامة، قليل الكلام يتحدث عن زملائه الفنانين باحترام، ويمكن وصفه بانه خجولا خاصة امام النساء، بينما يتسم بالشجاعة أمام الجمهور سواء على المسرح أو في الحفلات الخاصة!!
لقد كان ناظم الغزالي شديد الاعتناء بهندامه ومظهره ، وهذا واضح على ما لدينا من تصوير لأغانيه !! وكان يسره ان يتفرج على واجهات الملابس الرجالية ، ولم يكن يميل الى ملابس السبورت وكان بالرغم من موسم الصيف في فيينا يحرص على ارتداء البدلة الكاملة ولا يستغني عن ربطة العنق ..
يقول الفنان الكبير المرحوم حقي الشبلي عند لقائه ناظم لاول مرة " لم اكتشف في ذلك اللقاء فقط ان بداية ناظم الغزالي كان ممثلا بل اكتشفت ايضا انه كان كاتبا مثقفا حيث نشر عام 1952 سلسلة من المقالات في مجلة "النديم" تحت عنوان "أشهر المغنين العرب " (وقد قرأت للكاتب ماجد ان ناظم الغزالي اصدر كتابا بعنوان ( طبقات العازفين والموسيقيين ) " ويبدو ان الكتاب فقد من الاسواق و حتى على ارصفة شارع المتنبي ..

الاغنية التي تسببت في دخوله الاذاعة
لقد عاد ناظم الغزالي إلى معهد الفنون الجميلة لإكمال دراسته، واحتضنه الفنان حقي الشبلي وضمه الى فرقة "الزبانية" ويشركه في مسرحية "مجنون ليلى" لأحمد شوقي، وعلى المسرح قدم الغزالي اول اغنية له ( هلا هلا ) ومن الطريف انها كانت من تلحين حقي الشبلي ، وكانت هذه الاغنية هي سبب دخوله الى الاذاعة وترك التمثيل واحترف الغناء اما ثاني اغانيه فكانت من تلحين وديع خونده ( سمير بغدادي) ومطلعها ( وين الكه الراح مني وأنا المضيع ذهب.. وراحت السلة من إيدي وراح وياها العنب) : ( اين اجد الذي فقدته وهو من ذهب .. ولقد ذهبت السلة من يدي ومعها ذهب العنب )
بعد هاتين الاغنيتين التحق ناظم إلى فرقة الموشحات بإشراف الموسيقار الشيخ علي الدرويش بين عامي 47 - 48، ويقول خبراء الغناء في العراق ان الفضل يعود الى ناظم الغزالي في تطوير الاغنية العراقية التي شهدت قفزة نوعية مع مطلع الخمسينيات وفق مقاييس الغناء العراقي ومواصفاته ،
حيث ظهرت الاغنية العراقية المتكاملة الموزعة والمتماسكة والتي يرجع له فضل انتشارها في العالم العربي رغم خروجها من بيئة ذات طبيعة شديدة الخصوصية، بفعل اداء ناظم الغزالي غير التقليدي، ليجعل منها أغنية عذبة سهلة التداول والحفظ.
وما زال الناس لحد ايامنا هذه يرددون اغاني "طالعة من بيت أبوها"، و"ما اريده لغلوبي"، و"فوق النخل فوق"، و"يم العيون السود".. وجميع هذه الاغاني كتبها جبوري النجار، ولحنها ناظم نعيم، ووزعها جميل بشير، ويعود الفضل في حفظها إلى شركة "جقماقجي" التي بدأت منذ منتصف خمسينيات القرن الماضي في تسجيل أسطوانات كبار المطربين والمطربات العراقيين .

سليمة باشا
لقد تعرف ناظم عل سليمة باشا عام 1952 في احد السهرات الغنائية التي كانت تقام في بيوت بغداد الراقية ،..
وكان معجبا بأداء سليمة مراد التي كانت تمتلك صوتا ساحرا وقابلية مدهشة في أداء الأغاني التراثية ويقال انها كانت معلمته في حفظ الوان الغناء العراقي وخصوصا المقامات والبستات وقد اقترن بها ناظم الغزالي عام 1953..
ومن خلالها استطاع التعرف على الطبقة الأرستقراطية البغدادية المحبة لحفلات الغناء.. وأصبح ناظم وسليمة الثنائي الغنائي المحبوب والمتألق دائما في جميع الحفلات العامة والخاصة وأصبح بيتهما صالونا فنيا أدبيا يلتقي فيه الشعراء والفنانون ورجال الدولة والاعمال ..
كان على ناظم الغزالي ان يسافر الى بيروت لتصويرمشاهده في فيلم (مرحبا ايها الحب ) مع نجاح سلام حيث غنى ( يا ام العيون السود ) بعد ان حضرا كلاهما في فيينا للاحتفال معا بمناسبة الذكرى العاشرة لزواجهما ،
بسبب هاتين المناسبتين ، ذكرى الزواج والسفر الى بيروت ، وافق ناظم الغزالي على تنظيم سهرة سمر خاصة ضمت عددا من الاصدقاء العرب في فيينا أنشد فيها – بعد الحاح شديد وبمرافقة احد هواة العزف على العود وهوطبيب مصري كان يحسن مسك الايقاع – انشد من تراثه العراقي وأسعده ان يجد الضيوف العرب يطلبون منه اغاني معينة يعرفونها منه – في ذلك الزمان لم يكن التلفزيون قد انتشر ليشهر المطربين ، ولا الفيديو كاسيت ولا حتى الكاسيت الصوتي العادي –وغنى بلغة عربية سليمة أروع القصائد العربية التي تدل على معرفة واطلاع واسعين.
غنى لأبي فراس الحمداني: "أقول وقد ناحت بقربي حمامة"، وللبهاء زهير "يا من لعبت به شمول"، ولإيليا أبي ماضي: "أي شيء في العيد أهدي إليك " وللمتنبي: "يا أعدل الناس"، وللعباس بن الأحنف "يا أيها الرجل المعذب نفسه"!!
بعد فترة قصيرة من مغادرة فيينا وردتنا الانباء المفجعة بان ناظم الغزالي قد توفي يوم 21/10/1963 بعد ساعات من وصوله بغداد قادما بالسيارة التي كان يقودها بنفسه وبرفقته صديقه عازف القانون المرحوم سالم حسين وفي صبيحة يوم 1963/10/20غادر بيروت وبقيت زوجته سليمة مراد في بيروت على ان تلحق به في اليوم التالي بالطائرة لقد كان هنالك دافع غريب يدفعه للوصول الى بغداد بالسرعة الممكنة .. ووصل في اليوم التالي ..
وفي منتصف ليلة 1963/10/21 توقف قلب الغزالي وهو لم يتجاوز الثانية والاربعين من عمره، وكان رحمه الله في قمة نضجه وفي كامل حيويته ونشاطه .... وقد فقد الفن صوتا وفنانا وسفيرا وانسانا.. رحمه الله