حسين علي محفوظ شاعراً

حسين علي محفوظ شاعراً

علي العكيدي
ثمانون عاماً ودع العلامة الدكتور حسين علي محفوظ من عمرٍِ كان والقلم صنوان، فالقلم لم يفارق محفوظ كما لم تفارقه نظرته العميقة والدقيقة للحياة وحبه الجنوني للعراق ولبغداد خاصة.
حتى أن لإهتمامه بها وتأثره بتراثها وكتاباته العديدة عنها وتغنيه بأمجادها وخصوصيتها في نفسه شعراً ونثراً وأدباً بشكل عام ، لقب بشيخ بغداد ، ومن شعره في حق بغداد ما قاله هدية لها في يوم تأسيسها:


بغداد برج الأوليا
ء تعانقت فيه الكواكب
غنى الزمان بمجدها
وحدت بمدحتها الركائب
دامت جبيناً للفخار
ومفرقاً لذرى الذوائب
والعلامة محفوظ، الكاتب والأديب والمؤرخ والفلكي والنسابة، الموسوعي بكل ما تعنيه هذه التسمية من أبعاد نقدية وفكرية، قد بدأ حياته الفكرية شاعراً، لذلك أضحى محفوظ مرهف الحس، نقي الوجدان، صادق المشاعر، بكاء تدمع له عينان صادقتان لمجرد أن يذكر أمامه اسم يعشقه محفوظ دون تحفظ، فاسم العراق، أو الوطن، زوجته أو أي اسم له موقع مميز في وجدان محفوظ يكفي بأن تتزامن معه دموع صادقة تملأ مآقي عيون لم تألف إلا رؤية الجمال ولم تنسجم إلا معه.
يتوقف حميد المطبعي وهو يتحدث عن العلامة حسين علي محفوظ في سلسلته موسوعة المفكرين والأدباء العراقيين عند شعر محفوظ أو عند محفوظ الشاعر ، فيقول: (وبدأ في الرابعة عشرة يغني شعراً في النفس وقصيدة في الأرواح ... وقصيدة في الأصيل والشمس والشهور ... وقصيدة لأمه، فكانت قصائده في بذرة الطفولة، سمّاها (عبث الصبا) .. ثم جاوزها فسمّى أشعاره (روائح الشباب) .. ولما أوشك أن يعانق السادسة عشرة جمع قصائده في ديوان سماه (يواقيت الوشاح).. ثم دخل دار المعلمين العالية فرتّب أشعاره وقصائده وسماه (شقاشق) وأحصى ذكريات أعوامها الأربعة في ديوان (الدرعميات) نسبة إلى دار المعلمين العالية.. وأدركه من الحيف من بعد فسمى شعره بعد التخرج ((ديوان المحنة)).. وخاض (غمرات الحياة) في الوظيفة فكانت ديواناً رابعاً .. وفارق العراق واشتاق للأهل والوطن والدار .. فنظم (كربة الغربة)، وسمى شعره بعد الأربعين (ثمالة كأس) .. وجمع نخباً من أشعاره في الديوان الأخير ، وقد سماه (رشفات) ... وهو في كل شعره ، يعد نفسه ظل الشريف الرضي، لا سيما وأن الأخير من قدامى أخواله، يواصل المطبعي حديثه عن بدايات محفوظ الشعرية فيقول: يبتدئ ديوان (الدرعميات) الذي يحتوي على مجموع شعره وهو طالب في دار المعلمين العالية بقصيدة يحيي المعهد وأساتذته ألقاها في حفلة التعارف الأولى التي حضرها الأساتذة والطلاب في 15 تشرين الثاني 1944 وقد عرفته تلك القصيدة للوسط التعليمي كشاعر وأديب وقد تألفت من اثني عشر بيتاً جاء في مطلعها:
أورق العود وازدهى النوار
وطوى معصم الرياض سوار
لقد مثلت السنوات الأربع التي قضاها محفوظ في دار المعلمين طالباً للعلم، فترة زمنية حافلة بالشعر كنشاط ثقافي وفكري بدأ به محفوظ حياته العلمية حيث كانت مناسبة مولد الرسول الكريم محمد بن عبد الله (ص) هي المناسبة المركزية التي يحتفل بها الدار يحضرها الملك والوصي ووزير المعارف وكبار رجال العلم والمعرفة، أما محفوظ فهو حاضر مع زملائه الشعراء حيث كان يعد واحداً من أهم شعرائها، وله في كل عام قصيدة، ففي عام 1945 كانت قصيدته بعنوان (مولد النور) وهي في اربعة وعشرين بيتاً ، جاء في مطلعها:
يا غمام الندى إذا الغيث أكدى
وسراجاً إذا عبأ الليل جندا
وفي عام 1946 كانت قصيدته بعنوان (نور محمد) وهي في (23) بيتاً وقد جاء في مطلعها:
ربة الشعر الهميني البيانا
فلعمر والهدى خرست لسانا
لم يقتصر شعر محفوظ على المناسبات فقط فشعر التهاني والمدح هو جزء من شعره الذي امتد ليشمل الرثاء والفخر والحماسة باستثناء الهجاء.
فمن شعره في الرثاء ما قاله بحق المرحوم طه الراوي، ومطلعه:
تجهّم أفق الفضل بعد وأغبرّا
لأنك كنت الشمس للفضل والبدرا
ومن شعره في الفخر والحماسة وقد نازعه بعض الأعاجم، حيث يقول:
يا منكراً فضلي وقد
سابقت فرسان المعاني
من ذا يطاول مقولي
وهو الحسام الهندواني
كابرت أرباب الفصا
حة والبلاغة والبيان
كانت أطروحة الدكتوراه التي قدمها العلامة محفوظ في نهاية عام 1955م في الأدب المقارن انتقالة نوعية في حياة محفوظ الفكرية وعلى الرغم من أن الموضوع كان في الأدب بشكل عام إلا أن المقارنة التي أجراها محفوظ بين عملاقي الشعر في كل من العراق وإيران وهما أبو الطيب المتنبي وسعدي الشيرازي بوصفهما علمين من أعلام الشعر والأدب كان له تأثير كبير جداً على مجرى حياة محفوظ الفكرية بشكل عام، وما يتعلق منها بالشعر بشكل خاص حيث مر الرجل وهو يصول ويجول بين أكثر من ست مئة مصدر أغلبها كان على شكل دوواين شعرية، كما جاء في مقدمة أطروحته التي طبعها عام 1957، (المتنبي وسعدي ، أثر الثقافة العربية في سعدي الشيرازي) والتي ساعدت وزارة المعارف العراقية على طبعها.
كان محفوظ يقارن بين الرجلين والمقارنة هنا ليست المفاضلة إذ (ربما يفهمها البعض كذلك) وإنما هي حالة من التوغل في الفكر على مستوى المنابع والوسائل والنتائج على حد سواء مما أعطى لعلامتنا الفاضل فرصة لأن يعوم بالفكر الفارسي على مستوى الأدب والنثر والشعر متمثلاً بنتاج سعدي الشيرازي الأدبي وممن أخذ من الشعراء العرب حيث يحصي محفوظ عدد الشعراء العرب الذين راجع دوواينهم لغرض إتمام أطروحته وهم أكثر من سبعين شاعراً عدا الشعراء الفرس وعددهم أكثر من خمسة وعشرين شاعراً.
يقول العلامة محفوظ في مقدمة كتابه أعلاه: وقد أمعنت النظر في ديوان سعدي وهو مجلد ضخم الحجم قوامه أربعة كتب في زهاء 1300 صفحة عدة أشعارها نحو من 17000 بيت، بله النثر وتتبعت مآخذه من الثقافة العربية وتوسعت في الكشف من أصول أفكاره ومعانيه في القرآن ، وأحاديث النبي - صلى الله عليه وآله وسلم - وكلام الصحابة وآثار السلف، والأمثال القديمة، والأخبار والقصص، وكتب الأدب ودواوين الشعر مستمداً ذلك من مراجع كثيرة أنافت على (500) كتاب، عدا عما لم أشر إليه من كتب يصعب استقصاؤها، وأسفار تعذرت على الإحصاء، وانتهيت في البيان إلى ديوان المتنبي الذي هو عمدة الكتاب، وأصل الغرض ومغزى الكلام وذات الموضوع والمعاني المتنبية التي اقتبسها سعدي من ديوان المتنبي وترجمها بالفارسية نيف ومئة في ثلاث مئة موطن تقريباً من شعره ونثره.