محمد علي الخفاجي.. الشاعر والإنسان

محمد علي الخفاجي.. الشاعر والإنسان

باسـم فـرات

في حزيران 1982 انتقلت للعيش مع والدتي، حيث بيت العائلة في محلة باب السلالمة، لا يبعد سوى مائة متر عن بيت والدَيْ محمد علي الخفاجي، كان الخفاجي الشاعر نجمًا في مخيلتي أنا الطفل الذي عشق الشعر وبدأ يقرؤه ويكتب ما كان يظنه محاولات وهو في الإبتدائية. هل لصلة القرابة بيننا والجيرة التاريخية بين عائلتينا دورهما؟ ألمْ أنشَأ وعبد العال بن أخت الشاعر معنا في البيت،

أراه أكثر مما أرى مَن هُم أكثر قربًا في النسب لي. كان عام 1982 عامًا مفصليًّا في حياتي، ففيه بدأت أتعرف على أدباء مدينتي، وكنت الأصغر سنًّا بين جميع مَن تعرفت عليهم طوال عقد الثمانينيات، بعضهم يكبرني بعام وعامين والغالبية بعدة أعوام، بل ثمة أدباء من عمر أبي أو أكبر. وكان موقف الراحل من السلطة محل إجلالنا مما زاد رصيده، كنا نتحدث عنه كمبدع كبير رافض بل كنموذج يُقتدى به ومدعاة لفخرنا، ثم تفضل الصديق مسلم الركابي الذي تعرفت عليه مع مجموعة من الأصدقاء في ذات العام، بإعارتي شريطًا صوتيًّا لأمسية أقيمت لمحمد علي الخفاجي في كربلاء قبل هذا الوقت على الأغلب في نهاية السبعينيات، وبما أن الركابي مواليد 1961 فلابدّ أن يكون قد حضرها وسجلها أو استنسخها من صديق آخر. كنت أنصت للشريط الذي أعدتُ سماعه عدة مرات، بذات النشوة التي كنت أنصت فيها لأشرطة شعراء لهم سطوتهم النجومية في الثقافة العربية.

رأيت محمد علي الخفاجي عدة مرات قبل أن تحين الفرصة للحديث معه، وكان ذلك عام 1984 لأني عملت في مجال التصوير الفوتوغرافي يوم الأحد الخامس من كانون الأول 1983 وكنت في الحافلة أحمل أفلامًا وصورًا تحتاج إلى تكبير بأحجام غير متوفرة في حينها لدينا في كربلاء مما كان يُحَتّم عليّ أن أحمل طلبيات الزبائن تلك لثلاث محلات تصوير إلى بغداد، وكالعادة بعد الجلوس أفتح كتابًا وأقرأ، فجأة أطلّ الشاعر الذي أحب، قريبي الذي حوّله خيالي نتيجة لمواقفه الوطنية ضد النظام، إلى بطل، إذًا جاء البطل، جلس بجانبي، كنت سعيدًا للغاية، فأنا ابن السابعة عشرة وهو ابن الحادية والأربعين، كان أحد أعداد مجلة الثقافة العالمية السورية في يده، لكني لا أتذكر عنوان الكتاب الذي كان معي، لم أتكلم في الدقائق الأولى، كنتُ مرتبكًا، لكن مجيء جابي الأجرة منحني فرصة أن أبادر بالكلام، فسلمتُ عليه، وعرفتُ بنفسي حتى إني مازلت أتذكر استشهادي ببيت للرصافي يقول فيه:
إن رمتَ عيشًا ناعمًا ورقيقَا ... فالمس إليه من الفنونِ طريقا
وأخبرته بأن عملي بالتصوير وبأنني كنتُ قبل ذلك نقّاشًا على النحاس أي أطرق على المعادن، وتبادلنا أطراف الحديث لغاية وصولنا إلى بغداد، لم أنس قولته لي "لو لم تتحارش بي لتحارشتُ بكَ" أي لو لم تبادر بالحديث معي لبادرتُ أنا، لأني رأيتك تقرأ كتابًا.
من هنا بدأت علاقتي الفعلية بالراحل الخفاجي، وتكررت اللقاءات وزرته أكثر من مرة في بيته وكانت إحدى الزيارات مع مجموعة من شعراء المدينة الشباب في حينها، وحين سألناه هل تكتب؟ لم ينفِ أو يؤكد، بل قال "حتى لو تكتب ولا تنشر فحين يحين وقت النشر يكون ما كتبته أصبح قديمًا وتجاوزه الزمن، وكل ما تحققه يضيع"، ثم جرّنا الحديث إلى شعراء تلك الفترة الذين برزوا وتسيدوا المشهد الشعري "الجديد" وهم زاهر الجيزاني وخزعل الماجدي وكمال سبتي وآخرين، وأحد الحاضرين اعترض كثيرًا عليهم موجهًا كلامه لمُضَيّفنا الخفاجي: "أستاذ، أنا في بغداد بحكم دراستي وأراهم باستمرار، برنامجهم كالآتي، في جزء كبير من النهار حصة الوظيفة ومن ثمّ مقهى حسن عجمي، فإحدى الحانات من ثمّ إتحاد الأدباء فنادي الإتحاد، ولا أدري متى يقرءون وكيف تتكَوّن لديهم التجربة..." هذا ملخص أو أهم ما قيل في الجلسة من قبل أحد الحاضرين وهو كان في حينها أقرب منا للخفاجي بحكم العمر، كنتُ كعادتي منفذًا لنصيحة جدتي لأبي بالإنصات التي ترعرعتُ في أحضانها محرومًا من الأب القتيل والأم التي أُجبرت على تركي والانتقال إلى بيت والدها، مما خَلّفَ شرخًا كبيرًا في حياتي لم تتمكن السنون والتنقل الدائم بين بلدان مختلفة وعوالم مدهشة من محوهُ. نعم ثقافة الإنصات منحتني الكثير رغم أن ثمة أشخاصًا اعتبروها دليل ضعفي ووهني، لكن الإنصات منحني فرصة أن أتعلم من الآخرين وأستغرب شطحاتهم، فنقد الشعراء لا يعني تهميشهم وإقصاءهم، وإلاّ فأين يذهب الخيال؟. إن التجربة المتفردة حين يُعَشّقها خيالٌ خصبٌ تكون ثمارها إبداعًا خلاّقًا مميزًا ومُدهِشًا.
حين كنتُ في نيوزلندا سمعت أن الراحل الخفاجي قد حصل على جائزة، وأنه بدأ ينشط ثقافيًّا ولكن الظاهر أنه كان أكثر نشاطًا في العشرة الأعوام الأخيرة، وتواصلتُ معه هاتفيًا أو من خلال المرحومة والدتي، التي كانت تخبرني عنه، ومرة قالت لي: "محمد علي فاز بجائزة، فعليك الاتصال به وتهنئته، هو يحبك ويفخر بك ويقول للجميع أنا خال باسم فرات". وفعلاً اتصلتُ به وهنأته وأخبرته أن أمي مَن أعلمني بخبر فوزه، فكان فرحًا للغاية، لدرجة أنني أحرجني فرحه. وراح يحدثني عن فخره بي، فقلت له إن الناقد والشاعر علي حسن الفواز كتب لي مرة عن ذلك وختم كلامه بجملة: "فنعم الخال ونعم ابن الأخت". كانت رسالة الفواز لي كما في جميع رسائله تفوح مسكًا ومحبة. عندما زرتُ العراق بعد غياب استمرّ 18 سنة و25 يومًا، زرت الخفاجي في بيته الذي ببغداد مع مجموعة طيبة من أدباء ومثقفي كربلاء، رغم الوضع الصحي المحرج للمرحومة والدتي في حينها. حاولت من خلال الصديق علاء مشذوب هذا الشخص المجبول بالوفاء للخفاجي، أن نساعده، فأرسلت تقاريره إلى هيروشيما لصديقٍ يحمل الدكتوراه في الطب، ولكن كما أخبرني مشذوب، فإن الخفاجي حين يشعر بتحسن حالته لا يبالي وحين تشتد ساعتها يأخذ الأمر جديًّا، وهي طبيعة الكثير من الناس أحدهم كاتب هذه السطور. وكان لقائي الأخير به في شارع المتنبي في آيار 2012 وراح يحدثني عن شارع المتنبي وكأنه يقرأ في كتاب.
رحل الخفاجي جسدًا ولكنه باقٍ في ذاكرة وطنه وثقافته، والذين طالبوا الحكومة أن لا تتكرر مأساة الخفاجي وغيره من أدبائنا من خلال توفير الضمان الصحي للأدباء. رغم حُسن النوايا ولكنها دعوة تمييزية، فالأجدى أن تُوَفّر الحكومة الضمان الصحي والبنية الصحية الحديثة والمتطورة للشعب العراقي، عندها حين يمرض الأديب والسياسي والفقيه والرياضي سوف يجدون مَن يعتني بهم، وسوف يجد الفقراء والمُعدمون وذوو الاحتياجات الخاصة ذات المعاملة، فدعوة كهذه مخالفة لحقوق الإنسان والدولة المَدَنية المنشودة التي ينعم الجميع فيها بالمساواة الصحية والتعليمية والثقافية.