عبد القادر الحسيني في بغداد..كيف اتهم بقتل فخري النشاشيبي ؟

عبد القادر الحسيني في بغداد..كيف اتهم بقتل فخري النشاشيبي ؟

لينا صالح محسن
لم تتوان السلطات البريطانية عن اتهام القائد الفلسطيني عبد القادر الحسيني خلال المدة التي حل فيها لاجئاً في بيروت ، بل اكثر من ذلك فانها طلبت من السلطات الفرنسية هناك ، القاء القبض عليه وتسليمه لها بعد قيادته الثورة الفلسطينية ضد البريطانيين، لذلك قرر السفر الى العراق والاستقرار فيه.


ومن الواضح لنا ان هناك كثيراً من الأسباب دفعت الحسيني الى التفكير بالعراق ليكون مستقراً له من بين باقي البلدان العربية الأخرى ، ففضلاً عمّا يحتفظ به من علاقات وطيدة مع بعض العراقيين ، فان العراق كان يتمتع بمناخ قومي عربي مساند للوحدة العربية ، كما أن كلاً من العراق وفلسطين كانا في صراع مستميت مع عدو مشترك بينهما يحاول دائماً تحقيق مصالحه على حسابهما مهما بلغت هذه المصالح .
لذلك اتجه مع صديقه ابو الهدى اليافي الى القنصلية العراقية في بيروت، وقابله القنصل طالب مشتاق الذي تربطه مع المحامي ابو الهدى علاقة وطيدة .ولم تكن للحسيني معرفة سابقة بالقنصل العراقي الذي قدم المساعـدة بتزويـده جـواز سفـر عراقـي ، وقـام بتسهيـل سفـره الى العـراق.وصل الحسيني الى العراق في السابع والعشرين من ايلول عام 1939 ، ومعه مجموعة من الفلسطينيين ، اللذين غادروا وطنهم بعد انتهاء الثورة الفلسطينية واعلان الحرب العالمية الثانية ، واستقر في بغداد بمنطقة الكرادة الشرقية ، ثم التحق به افراد عائلته. عمل الحسيني في مدرسة التفيض الاهلية ، مدرساً للرياضيات والفيزياء ، فضلاً عن قيامه بتدريس الكيمياء لطلبة الثانوية العسكرية ببغداد للعام الدراسي 1940 –1941 ، ويذكر السيد عبد الرزاق عباس القيسي ان الحسيني " كان مدرساً ممتازاً للكيمياء وحريصاً على افهام التلاميذ لهذه المادة نظرياً وعملياً ".
واستطاع الحسيني من خلال عمله إلهاب الحماس في نفوس طلبته ، فكان يجمعهم في اوقات الراحة بين الدروس للحديث عن الصهاينة والبريطانيين وضرورة الاعداد لمكافحتهم والقضاء عليهم قبل ان يستفحل امرهم ويصعب درؤهم، ويذكر خليل ابراهيم حسين ان الحسيني اثناء عمله في الثانوية العسكرية نظم عدداً من طلابها في تنظيم سري يرمي الى توعيتهم وتوضيح ابعاد الخطر البريطاني والصهيوني على الامة العربية ، كما كان متحمساً للقضية الفلسطينية والوحدة العربية الشاملة ، اذ انه غالباً ما يحدث طلبته عن المقاومة الفلسطينية في ثورة 1936 وعن المعارك التي خاضها من اجل الاستقلال والتضحيات التي قدمها الشعب الفلسطيني من اجل قضيته ، وكانوا يصغـون اليـه بتلهف، ولم يتردد في الاجابة عن أي سؤال او موضوع يطرح عليه.
ومن الجدير بالذكر ان الحسيني اتجه بعد مدة من استقراره في العراق الى المانيا ، والتحق باحد المعاهد العسكرية هناك ، لغرض التدريب على اصول حرب العصابات وصنع المتفجرات والالغام بصورة خاصة وبقي فيها قرابة شهر ونصف ، استطاع خلالها ان يضيف الى خبراته العسكرية خبرة جديدة تغنيها .
وقد اشيع في الاوساط الفلسطينية ان عبد القادر الحسيني عاد الى فلسطين بغية تأليف الخلايا السرية من جديد للقيام باعماله ضد السلطات البريطانية ، الا انه في الحقيقة ما لبث ان عاد من المانيا الى العراق ، وعمل على تدريب المناضلين الفلسطينيين على ما خبره من اصول جديدة في القتال ، لانه كان على يقين من خوض غماره بعد انتهاء الحرب العالمية الثانية.
ب – الحسيني وحركة مايس 1941
تعد حركة مايس عام 1941 ، او ثورة رشيد عالي الكيلاني من الاحداث المهمة التي شهدها الشرق الاوسط خلال الحرب العالمية الثانية ، وكان لاندلاعها اسباب ودوافع متعددة ، تدعو الى تحرير العراق من الظلم الفادح الذي يعيشه في ظل الاستعمار البريطاني ، وكذلك التخلص من العناصر المتعاونة معه ، كما ترمي الى تحقيق طموحه القومي في بناء الدولة العربية الموحدة عن طريق ضمان الاستقلال التام لجميع اجزاء الوطن العربي من السيطرة الاجنبية .
وعندما قامت بريطانيا بعدوانها على العراق في الثاني من ايار لم يقف العرب الفلسطينيون المقيمون في بغداد مكتوفي الايدي ازاء هذا العدوان ، بل انهم طلبوا من الحكومة العراقية ارسالهم الى جبهة القتال ، للمشاركة جنباً الى جنب مع اخوانهم العراقيين.
ومن الملاحظ ان الحكومة استجابت لطلبهم ، لذا اصدرت رئاسة اركان الجيش امراً في الرابع عشر من ايار برقم (616) ، يقضي بتأسيس مقر لتجنيد المجاهدين في بغداد ، وسمي بالمقر الخلفي لقوات البادية ، وعهد الى الحاج محمد امين الحسيني برئاسته ، ويساعده في مهماته كل من عادل العظمة (من سوريا) ، وممدوح السخن ، واكرم زعيتر ، وواصف كمال ، وراسم الخالدي ( من فلسطين ) .
ويبدو ان الحكومة العراقية أسندت هذه المهمة الى الحاج محمد امين الحسيني ، لانه كان على معرفة بجميع المجاهدين الفلسطينيين الذين لجأوا الى العراق ، فضلاً عن ان معظمهم كانوا من خيرة من خبِر حرب العصابات ومعرفة طريق الصحراء .
استطاع المقر الخلفي لقوات البادية في ابي غريب ( غربي بغداد) ، تشكيل قوة مؤلفة من سبعين مجاهداً فلسطينياً ، انيطت قيادتها بعبد القادر الحسيني وجاسم حسين الكرادي لصد التقدم البريطاني نحو بغداد ولا سيما بعد سقوط الفلوجة بأيدي القوات البريطانية.
ولما كان في خطة القوات البريطانية الزحف نحو بغداد ، قسمت قواتها التي اسمتها " قوة الحبانية "على رتلين ، وكان على احدهما عبور نهر الفرات ليتجه من الجهة الشمالية بدلالة وحدات الجيش الاردني الذي يقوده الجنرال كلوب باشا(Glubb) عبر صحراء الجزيرة الى نهر شمالي بغداد. في حين كان على الرتل الاخر ، الذي تقرر ان يسلك الطريق الرئيس المار بالفلوجة وابو غريب ، العبور بقافلته الطويلة والمجهزة بوسائل النقل الآلية ، الأراضي المغمورة بالمياه قبل الوصول الى مشارف بغداد الغربية.
وأزاء هذه الاستعدادات ، سافرت القوة التي يقودها الحسيني قبل منتصف ليلة السابع والعشرين من أيار 1941 الى ابو غريب لمساعدة القطعات العراقية الموجودة هناك في الوقوف بوجه القوات البريطانية ومنعها من الدخول الى بغداد.
وفي صباح السابع والعشرين من ايار ارسل الجنرال كلارك قائد قوة الحبانية مفرزة عسكرية تسندها المدرعات والطائرات البريطانية لمهاجمة القطعات العراقية التي كانت تشغل مواضع الدفاع قرب مفرق قنال ابو غريب ونهر الفرات ، وتمكنت القطعات العراقية بمساعدة القوة التي يقودها الحسيني من صد هجومين متتاليين بنجاح ، وعندها تلقى الحسيني انذاراً من الضباط البريطانيين بضرورة التسليم ، رفض قائلاً : " نحن لا يمكننا ان نسلم وسنحارب للنهاية " ، الا انه ما لبث ان انسحب مع قوته فور إعلان الهدنة بين الجيشين العراقي والبريطاني وتم ذلك في الحادي والثلاثين من ايار.
ضيق الخناق على الحسيني ورفاقه المجاهدين على اثر إخفاق ثورة 1941 التحررية ، فغادروا العراق عن طريق كرمنشاه محاولين اللجوء الى إيران ، وكان عددهم يتجاوز الثلاثين ، الا ان السلطات البريطانية منعتهم من الدخول باستثناء الحسيني الذي سمحت له باللجوء اليها نظراً لقرابته للمفتي محمد امين الحسيني ، لكنه رفض النجاة وحده وعاد الى بغداد بعد مسيرة خمسة وعشرين يوماً بلياليها قاطعين المسافة بين كرمنشاه وبغداد.
احيل الحسيني على المحكمة العسكرية في بغداد بسبب مشاركته الفعالة في صد الهجوم البريطاني على بغداد ، فاصدرت حكمها بسجنه بادئ الأمر ولكنها سرعان ما استبدلته تحت تأثير الرأي العام العراقي ، بقرار ابعاده الى زاخو شمالي العراق.في الوقت نفسه ، حكم على زوجة الحسيني بالإقامة الجبرية في بيتها بسبب اتهامها بإيواء الثوار الفلسطينيين ومساندتهم.

الحسيني واغتيال فخري النشاشيبي
ونظراً لاصابة الحسيني بعيار ناري في كاحل قدمه اثر اشتراكه في ثورة 1941 التحررية. سمحت له حكومة ( نوري سعيد ) بالمجيء الى بغداد بعد ثلاثة اشهر من اقامته في زاخو لغرض العلاج وتفقد عائلته التي بقيت وحدها من دون رعاية ، وفي طريق عودته مرة اخرى الى زاخو ، اغتيل فخري النشاشيبي في التاسع من تشرين الثاني 1941 ، وهو فلسطيني قدم الى العراق اذ كانت تربطه بنوري سعيد علاقة وطيدة ، وكان من العناصر المتعاونة مع بريطانيا ويعده الفلسطينيون خائناً للقضية الفلسطينية.
وكانت الحكومة العراقية تعتقد ان هذا الحادث دبره الفلسطينيون الموجودون في العراق حينذاك ، فالقت القبض على معظمهم واودعتهم سجن بغداد الى ان ينتهي التحقيق في القضية ، وكان الحسيني من بينهم ، في حين فر ثمانية من الفلسطينيين الى الحدود السورية ، ولم تتمكن من اعتقالهم ، وكان الاتهام موجهـاً بالدرجة الاولى نحو احمد اسماعيل نسيبه وحسن ابراهيم القطب " وهما من الفلسطينيين المقيمين في بغداد " ، وكانا قد تعرضا للتعذيب اثناء الاعتقال ، ولم تكتف الحكومة بذلك بل انها اعتقلت جميع الشباب العراقيين ، الذين كانوا على صلة وثيقة بالفلسطينيين في ذلك الوقت.
ويذكر عبد المجيد ابراهيم الحلبي ان الحسيني لم يكن له دور في عملية الاغتيال بل ان الذي قام بذلك الفلسطينيان فهمي الشرفة واخوه يوسف الشرفة ، واكد انهما دبرا أمر الاغتيال مع شخص يدعى صبحي شاهين ( فلسطيني ) . اذ قام الاخير باطلاق ثلاثة عيارات نارية على فخري النشاشيبي في حين كان سائراً في الطريق بعد خروجه من فندق سمير اميس ( يقع في السنك ) الذي كان يقيم فيه فوقع صريعاً.
وعلى اثر هذا الحادث قررت الحكومة العراقية جمع المعتقلين من جميع أنحاء العراق وارسالهم الى معتقل العمارة ، ومنهم الحسيني في اوائل شباط 1943 ، وكان أول الأمر منزوياً ولعل السبب في ذلك يعود الى ما كان يعانيه من ظروف نفسية سيئة لكنه سرعان ما كون علاقة طيبة مع عدد من المعتقلين ومن بينهم عبد الرزاق الحسيني ومحمد صديق شنشل ، وفائق السامرائي ، ودرويش المقدادي ، وطالب مشتاق ، واخرون.
ويبدو ان مرض الحسيني لم يمنعه من توعية رفاقه المعتقلين وتبصيرهم بشتى المعارف ولا سيما بتأريخ فلسطين ، فكان استاذ المعتقل وامامه – كما يطلق عليه بعض المعتقلين – ويقول طالب مشتاق بهذا الصدد " وفي معتقل العمارة كان عبد القادر مثلاً رائعاً للقومي الصابر ، المؤمن بعدالة قضيته الشاعر بضرورة تضحيته .. لم اره يتأفف ،ولم اشهده يتذمر،كانت غرفته في داخل المعتقل تضم انواعاً مختلفة من الكتب،واصبحت والحالة هذه مجمعاً للشباب المثقف من المعتقلين يمرون فيها ويتباحثون،وعبد القادر يوضح لهم ما اشكل من الابحاث ويفسر لهم ما صعب فهمه من الالغاز سواء علمية كانت ام ادبية،سياسية كانت ام اقتصادية .. خصص القسم الاعظم من وقته لتدريس بعض الشباب المتعطش الى العلم وكان يدرس هذا الطبيعيات ،ويدرس ذاك الرياضيات ، وهكذا كان المرحوم استاذ المعتقل يتدفق منه العلم ، ويشيع منه الاخلاص وتنبثق منه الجرأة والرجولة والاقدام ".
نقل الحسيني بعد ان اشتد به المرض في المعتقل الى مستشفى البصرة ، وهناك حاول تدبير محاولة لهروبه الى خارج العراق ، فحذره بعض زملائه من مغبة ذلك ونصحوه بالبقاء في المستشفى ، ويبدو انه استجاب لنصيحتهم.
وذكر غازي عبد القادر ان والدته منحت موافقة الجهات المسؤولة في العراق على المغادرة بناء على طلبها زيارة اهلها في القدس حيث التقت بنوري السعيد هناك ، اثناء رحلة علاج الاخير في فلسطين ، وطلبت منه الافراج عن زوجها بعد ان بلغها خبر تدهور صحته فوعدها خيراً ، وعندما عادت الى بغداد لم تجد أي تغيير في الامر فانتظرت اياماً لمقابلة نوري السعيد ، وحينما ذهبت الى مقره رفض دخولها عليه متذرعاً بالاجتماع بوزرائه ، الا انها استطاعت الدخول بمساعدة سكرتير مكتبه ، وفي هذا الوقت كان نوري السعيد ووزراؤه مجتمعين ، فطالبته بالإيفاء بوعده فقال لها : " انه يحتاج الى امر وزاري " ، فأجابته : " ان الوزراء مجتمعون عندك ، فما كان من نوري السعيد الا ان شعر بحراجة الموقف امام وزرائه ،وسألهم قائلاً " هل لديكم مانع ؟"، فلم يمانع احد في الامر ، لذا اطلق سراح عبد القادر الحسيني بقرار سريع وشفوي ، وكان ذلك اواخر عام 1944.
بات الحسيني مدركاً لضرورة مغادرة الأراضي العراقية والتوجه الى أي دولة عربية اخرى سريعاً ، ولاسيما ان الحكومة العراقية أخذت بالضغط عليه من كل جانب ، ففكر بالتوجه الى مصر ، ولذلك ابرق الى صديقه محمد علي الطاهر ، ليطلعه على الامر وطلب منه تسهيل أمر دخوله الى مصر ، اذ قام الأخيـر بمفاتحـة مصطفـى النحاس ، وشرح له حالة الحسينـي وظروفـه ، مبيناً له عدم وجود طريقة أخرى لانقاذ الحسيني الا بدعوته الى مصر لغرض المعالجة.
وعندئذ أبرقت وزارة الخارجية المصرية الى المفوضية المصرية في بغداد لمنح الحسيني واسرته تأشيرة دخول ،بأمر خاص من رئيس الوزارة ، بشرط أن يجعل سبيله الى مصر عن طريق الحجاز ، وربما كان السبب في هذا الاختيار الحيلولة دون امساك البريطانيين به في حالة مروره بسورية ولبنان وفلسطين والاردن .