صور من الحياة الاجتماعية في بغداد من الجيل الماضي

صور من الحياة الاجتماعية في بغداد من الجيل الماضي

د . عباس الزاملي
الحمامات العامة في مدينة بغداد
لعدم وجود الحمامات في معظم البيوت البغدادية يلجأ عدد كبير من الناس الى الحمامات العامة [ الشعبية ] ، الموجودة في المحلة ،لا سيما في ايام الشتاء الباردة ، اذ يستهويهم البخار الدافئ المنبعث من مداخل تلك الحمامات.


تتألف الحمامات الشعبية من ثلاث قاعات : الاولى المنزع حيث يقوم المستحم بنزع ملابسه فيها ، والثانية تسمى الغرفة الوسطى المابين ، اما الثالثة فهي التي تكون ساخنة وفيها يكون الاستحمام .
ومن ملحقات الحمامات الشعبية البئر لغرض التزود منه بالمياه وعلى ايوان صغير يجلس فيه الحلاق الذي يقوم بحلاقة الرأس والذقن والابط وما يشبه ذلك لمن يروم الحلاقة. او يستعمل دواء الحمام لازالة الشعر وهو مزيج من النورة والزرنيخ. ويلحق فيه كذلك مكان خاص على شكل غرفة كبيرة لغرض خزن الحطب والنفايات تعرف بـ (الطمة ) (هي كل ما يجمع من مواد لتسخين ماء الحمامات معظمها تكون من الازبال والنفايات التي يجمعها متعهدوا نقل الازبال في العاصمة ويبيعونها الى اصحاب الحمامات بأسعار زهيدة ، يستخدم رماد الطمة لاغراض البناء المختلفة بعد خلطه مع النورة بدلاً من الاسمنت الذي لم يتوفر بكثرة فضلاً عن ارتفاع اسعاره ، يعطي المزيج صلابة قوية تفوق قوة الاسمنت ومقاومته للاملاح ، كذلك تستعمل الطمة في شواء الشلغم والشوندر الذي كان يباع في السوق ويحرقها بالنفط الأسود عامل متخصص يعرف بـ(المشعلجي ) لغرض تسخين الصفرية خزان الماء الكبير .
كان الحمامجي صاحب الحمام او مديره يجلس في مدخل الحمام على لوج ( دكة ) مرتفعة تقع يمين او يسار الحمام ، وتحيط به المناشف والبشتمالات . ولوازم الحمام الاخرى ، وكانـت المناشف الجديدة تعطى لمن يدفع اكثر . وهم قلة ويعرفهم المسؤول عن الحمام . ولم تكن تلك الحمامات مستوفية للشروط الصحية اذ تنعدم النظافة في بعضها ، ويتبادل المستحمون المناشف دون تعقيمها او غسلها وتكون قديمة بالية . لذلك كان بعض البغداديين يجلبون معهم ( مناشفهم وليفهم وملابسهم النظيفة في بقج يضعونها في المنزع ) .
يرتدي المستحم بعد خلع ملابسه وزرة خاصة ويلبس ( قبقاب خشبي ) في رجليه للدخول في القاعة الساخنة التي تكون وسط الحمام لغرض التعرق قبل عملية الاستحمام في
الحوض الذي توجد فيه حنفيتان للماء ( الحار والبارد ) مع طاستين من النحاس الاصفر لصب الماء على الجسم . ويوجد في الحمامات ( المدلكجية واحدهم المدلكجي ) يقوم بوضع المستحم في كيس عنده مصنوع من الشعر والصوف ليخرج ما علق به من أوساخ ويؤدي عمله بطرق شبه بهلوانية لا تخلو من ضوضاء وازعاج ، وعند الانتهاء من عملية الدلك يدخل الحمام الداخلي لغرض غسله بالليفة والصابون عدة مرات ، ثم يأتيه بمناشفه الخاصة التي جلبها من بيته او مناشف الحمام قائلاً ( حمامك عوافي ) ويقوم المستحم في اغلب الاحيان بتناول الشاي او الدارسين بعد الاستحمام .
لم تكن عملية ارتياد الحمام مقتصرة على الرجال فحسب ، بل كان للنساء حماماتهن الخاصة ايضاً وهي لا تختلف عن حمامات الرجال كثيراً ، ويكون بعضها قريباً من البعض الأخر، ونادراً ما يكون الحمام مزدوجا من حيث العمل بعض الأيام تخصص للرجال والبعض الأخر للنساء. اللواتي يأتين بوقت مبكر على شكل ( مجموعات ). ويزدحمن في أوقات الجمع والعطل .وكان من عادات النساء استصحاب بناتهن معهن يحملن ما يلزمهن مـن الفـرش والصابون وحجر الأرجل والطعام مثل ( الكبة والكباب وخبز العروك والدولمة في قدر والفواكه حسب الموسم كأنهن في نزهة).
وتتأخر النساء في الحمامات كثيراً اذ ينشغلن بالاحاديث والقال والقيل وتكون الحمامات بالنسبة لهن اماكن للتعارف والمجاملة وتمتد اليها مشاريع الخطوبة والزواج ولا يرجعن الى بيوتهن الا مساءً فكان الحمام تنفيساً لبقائهن في بيوتهن شهراً كاملاً لا يخرجن منها الا للضرورات الخاصة نحو الجيران او الاقرباء.
وغالباً ما يحدث شجار بين النساء لاسيما عند انقطاع الماء فيكون ذلك مدعاة للسخرية وتفض صاحبة الحمام النزاع بصعوبة كبيرة. وهنالك حمامات خاصة للمومسات اللواتي يجري عليهن الفحص اسبوعياً ولمرة واحدة ، ومن أشهر الحمامات النسوية حمام جسومة في محلة دكان شناوه في منطقة الفضل.
تؤدي الحمامات ادواراً اجتماعية لا تقل عن ادوارها الاقتصادية ويزداد الاقبال عليها على شكل جماعات في المناسبات الدينية والاجتماعية في الافراح والاحزان على حد سواء، اذ يؤخذ اليها الطفل برفقة أقرانه قبل يوم ختانه ويكون الاستحمام على حساب والد الطفل، كذلك يذهب اليها العريس مع اصدقائه في يوم زواجه. ومن كان له مجلس فاتحة يؤخذ في اليوم السابع وفي الحالتين الأخيرتين تدفع أجور دخولية الحمام من الاصدقاء والمقربين كتقاليد اجتماعية.
كانت الحمامات البغدادية عامة للمسلمين وغيرهم وتوجد حمامات للاقليات الاخرى ، ومن أشهر حمامات بغداد في جانب الرصافة حمام حيدر. في شارع المستنصر [بجوار ساحة الغريري حالياً ] وكان يقبل دخول النساء يومين في الاسبوع . كذلك حمام الشورجة ويقع في الزقاق المؤدي الى سوق الصفافير ويكاد يكون حكراً على عمال سوق الصفافير ولا تدخله النساء وحمام ( كجو ) الواقع في باب الاغا بجوار [ كراج الامانة ] وهو حمام صغير بالقياس الى الحمامات الاخرى. كذلك شيدت حمامات متعددة في منطقة الفضل كان من اشهرها حمامان عرف كلاهما باسم حمام الفضل سنة 1946 احدهما للرجال والاخر للنساء وكذلك حمام عيفان في المحلة نفسها وشيدت حمامات متعددة في الكاظمية والاعظمية قامت بتقديم خدماتها للشرائح الاجتماعية البغدادية علـى اختـلاف
مراكزها الاقتصادية ومكانتها الاجتماعية بشكل متميز.كذلك أنشئت في الخمسينيات حمامات عدة منها حمام السعدون في محلة الفضل .
ولم يفتقر جانب الكرخ الى الحمامات الشعبية التي انتشرت في جهات مختلفة منه ومن ابرزها حمام شامي الذي يقع في محلة الشيخ صندل في الطريق المؤدي الى الفحامة من ناحية محلة الفلاحات. وحمام ايوب وحمام الجسر [ بالقرب من جسر المأمون] ، وكانت هذه الحمامات لاتقبل دخول النساء اليها.
وقد اولى البغداديون انشاء الحمامات العامة اهمية كبيرة وتسابق اهل الخير والاحسان في تخصيص مبالغ خاصة لوقفها على الحمامات التي تنشأ مجاناً ( للفقراء والمنقطعين وابناء السبيل في المساجد ).
اما اجور دخول الحمامات فهي محدودة ويميل معظم المسؤولين على الحمامات الى عدم فرض اجر معين ، اذ انهم يتركون ذلك الى الزبون الدائم وحسب حالته المادية ومستوى الخدمة التي قدمت له فهو يألف دخول الحمام منذ وقت معين. وقد يتكرر الاستحمام اسبوعياً فتكون الأجرة من قبيل العطايا او الهدايا ولا يسأل عنها سوى الغرباء الذين يدخلون للمرة الاولى ويعنى بهم بشكل خاص.

الكتاتيـب
على الرغم من وجود مؤسسات التربية والتعليم في مدينة بغداد فقد أعيد العمل بالكتاتيب. التي كانت متخلفة عن روح العصر لعدم قدرتها على مواكبة التدريس فـي المدارس الحديثة القائمة على مناهج علمية متطورة ، تقوم بتدريسها كوادر تعليمية مؤهلة لتنمية القدرات العقلية للطلبة، اذ انها الى جانب هذه السلبيات كانت تمثل بديلاً عن التوسع في المدارس الابتدائية ، وبرزت في مدن بغداد والبصرة والموصل فضلاً عن بعض المدن الاخرى.
ازداد نشاط الكتاتيب في بغداد خلال الحرب العالمية الثانية في استقبال اطفال الفئات الفقيرة والمتوسطة ، لمدة معينة قبل مرحلة الدراسة الابتدائية ، وانتشرت في المناطق الشعبية، او في اطراف المدينة ، وكانت اعدادها متذبذبة واعمالها مضطربة ، وبعضها يأخذ اجوراً شهرية لا تزيد عن ( 50 ) فلساً.
اهتمت وزارة المعارف العراقية بتنظيم الكتاتيب ، وافردت لها صفحة كاملة في التقارير السنوية لسير المعارف من عام 1944 – 1955 واخضعتها لرقابتها المستمرة ؛ وألزمت أصحاب الكتاتيب والقائمين عليها ، بإحاطتها علما عند الشروع بفتح كتاب جديد ومراعاة الشروط الصحية فيها. ولم تجز فتحها الا بعد الحصول على إجازة رسمية صادرة عن مديرية المعارف يسبقها كشف موضعي عن محل الكتاب وهوية الشخص الذي يروم القيام بالتدريس فيه.
كانت الدراسة في الكتاتيب دراسة نظرية بصورة عامة لا تختلف عن طريقة الكتاتيب في العهود السابقة . من حيث قلة المواد الدراسية التي لا تتعدى مبادئ القراءة والكتابة ، وحفظ القران الكريم ، ومعلومات يسيرة في الحساب والخط والرياضة البدنية. وتكاد ان تكون الدراسة فيها موحدة من حيث الأسلوب والمواد المشار اليها . لذلك لم تحظ باهتمام عامة الناس فانخفضت أعدادها بشكل تدريجي ، كما هو مبين في تقارير سير المعارف للسنوات ( 1944 – 1956 )، ومن الجدير بالذكر إن هذه الاعداد قد تفاوتت من سنة الى أخرى في بغداد نفسها . ويشير تقرير سير المعارف لسنة 1957 – 1958 الى وجود ( 112 ) كتّاباً منتشرة في مدن بغداد والبصرة والموصل منها ( 45 ) كتّاباً للذكور و ( 8 ) كتاتيب للإناث و ( 59 ) كتّاباً مختلطاً ، وبلغ عدد تلاميذها ( 2130 ) طالباً وطالبة .

الملاهي في مدينة بغداد
اعتاد الناس في مختلف المجتمعات المدنية ان يتخذوا لهم وسائل للتسلية والمرح واللهو ، لينفسوا بها عما يعانونه من حرمان وكبت في حياتهم الاجتماعية ، التي كانت ترزخ تحت وطأة العادات والتقاليد والقيود ، اذ تقف هذه العادات حائلاً بين الانسان وشهواته وميوله ، لهذا نشأت الملاهي وتنوعت من اللهو البريء الى ما هو محرم دينياً ومرفوض اجتماعياً.
انتشرت الملاهي في مدينة بغداد بشكل لافت للنظر في الحرب العالمية الثانية ، اذ اصبحت من الاماكن المستقطبة لمختلف الشرائح الاجتماعية ، التي يستهويها الانس والطرب وقضاء الامسيات حيث موائد الخمر والاستماع الى المطربات ومشاهدة الراقصات ، بعد يوم مضني من العمل الشاق المرهق سواء كانوا تجاراً او موظفين او كسبة او من مختلف الشرائح الاجتماعية الاخرى. وقد شغف الكثير من البغداديين بـ (الراقصات والمغنيات ) فأخذ بعضهم يتهافت على تلك الملاهي. كل ليلة بفعل اساليب الاغراء التي كانت تتبعها المطربات لاستدراج الزبائن وابتزاز اموالهم وقد اشار علي الوردي الى الموضوع ذاته قائلاً : " عرفت كيف تصطاد الزبائن اذ هي لا تكاد تغمز بعينيها لاحد منهم حتى يفقد اعصابه ويبذل كل ما في جيبه من المال وربما اضطر في اليوم التالي الى بيع داره واثاث بيته " وبذلك يهمل شؤون اسرته مما يؤدي الى الانحلال الاجتماعي.
تركزت الملاهي في منطقة الميدان ، وكانت تدار من قبل الراقصات والمغنيات بعد تعاقدهن مع مؤسسي تلك الملاهي التي من اشهرها :
• ملهى الهلال برئاسة المغنية سليمة مراد.
• ملهى الجواهري برئاسة المغنية خزنة ابراهيم.
• ملهى المنير برئاسة المغنية منيرة عبد الرحمن الهوزوز.
• ملهى نزهة البدور برئاسة المغنية سلطانه يوسف .
• ملهى الاوبرا العراقية برئاسة المغنية زكية جورج .
• ملهى الفارابي برئاسة المغنية صبرية حسين.
ومما يجدر ذكره ان الملاهي المشار اليها سلفاً انتقلت عام 1940 من الميدان الى الباب الشرقي بأمر من امانة العاصمة التي رأت ان منطقة باب المعظم غير مناسبة نظراً لحرارة الصيف فيها ، وزادت على تلك الملاهي عدداً اخر منها :
1. ملهى ابي نواس : في مدخل شارع الملك غازي [ الكفاح حالياً] اسسه صالح الكويتي.
2. ملهى شهرزاد : يقع مقابل حديقة الملك غازي اسسه جرجيس وعبد الله ما شاء الله.
3. ملهى اريزونا : يقع في شارع الرشيد ويطل على نهر دجلة بالقرب من كازينو شط العرب .
4. ملهى ليالي الصفا : يقع على رأس جسر الصالحية المطل على نهر دجلة في جانب الكرخ اسسه عبد الجبار سبع وهذه بالملاهي كانت تعرف بملاهي الشعبية ( الشرقية ) في شارعي السعدون وابي نواس .
يمكن القول ان الملاهي قد انتعشت خلال الحرب العالمية الثانية وما بعدها ، بسبب انتشار البطالة وسيادة التذمر والاستياء لنتائج الحرب وانعكاساتها السلبية على واقع الحياة اليومية في المجتمع العراقي بصورة خاصة . ويبدو لنا انها قد خرجت عن غرضها الترفيهي البريء الى اغراض سياسية واقتصادية تمثلت بتحول بعضها الى ملاهي متخصصة بتعاطي الفحش ، لها اماكن ودور لممارسة البغاء علنية او سرية ، معروفة من قبل رواد تلك الملاهي مما ساعد انتشار البغاء .

الطـب الشعبي فـي مدينة بغـداد
عانى المجتمع العراقي بصورة عامة من امراض مختـلفة حاول معالجتها بشتى الطرائق المعروفة ، وبمختلف الوسائل المتاحة ، كان من اهمها الطب الشعبي ، الذي مثل المحاولات الاولى في علاح الأمراض ، وكان دليلاً على علاقة الانسان بالطبيعة ، ومدى تأثره بعقائده وعاداته وتقاليده التي امتدت اليها الخرافات والأوهام في بعض الاحيان.
لم يقتصر الطب الشعبي على التداوي بالاعشاب لمعالجة الامراض وانما استعملت فيه ادوية متنوعة مختلفة ( معدنية وحيوانية ونباتية) والنباتات لا تقتصر على الاعشاب بل اشتملت على مختلف انواع النبات الطبيعي ، فضلاً عن ( جذره وساقه وورقه واغصانه وثمره وبذرته وقشرته وعصارته ). ويدخل فيه الدعاء والطلاسم والسحر والخرافة.
وظهر في بغداد اطباء يمارسون الطب القديم. يعالجون مختلف الامراض وبعضهم يفعل ذلك مجاناً لا سيما في المناطق الشعبية. فقد كان الحلاقون والعطارون والعّرافون والكحالون والحجامون ورجال الدين والسادة والمشايخ وكبار السن والقابلات والسحرة والدجالون والمشعوذون هم طبقة الاطباء والجراحين.
برز في المملكة العراقية عامة وفي بغداد على وجه التحديد عدد كبير من الحلاقين الذين مارسوا مهنة الطب الشعبي وكانوا يقومون بختان الاولاد. وقلع الاسنان ومعالجة الجروح وتضميدها وازالة بعض النتوءات مثل الشامات بكيها بالتيزاب وبعضهم يقوم بالحجامة.ومعالجة المصابين بالقرع وتفجير الدمامل وتربية دود العلق مع قليل من الماء في (كيزان الفخار) وتستعمل لغرض امتصاص الاورام المتقيحة وذلك بعد وضع الدودة فوق " الدمبلة " فتقوم بامتصاص الدم وتسقط بعد امتلاء جوفها وبعضهم يعيد استعمالها مرة ثانية بعد عصرها عصراً خفيفاً.
وكان للعطارين اثر كبير في معالجة الامراض بفعل الممارسة الطويلة والتعامل ( بالمواد العطارية ) السائدة آنذاك إذ اكتسبوا خبرة في وصف وجمع مواد الادوية الشعبية وجمعها لمعالجة بعض الامراض. ومارس العرافون [ العرافة] مهنة الطب الشعبي باستعمال الكي بوساطة قضيب صغير من الحديد او مسمار او منجل بعد ان يحمى بالنار يكوى به المريض الذي يشكو من آلام الظهر او بوساطة قطعة من القماش (عطابة) يشعل رأسها ويطفئ ويستعمل عند الجروح والدمامل وعرق النسا وصداع الرأس. وبهذا الصدد أورد عباس بغدادي مثلاً معبراً عن قيام احد هؤلاء العرافة وهو ابن ( شيخ كمر) في عام 1929 ( بتسخين طاوة الدهن) ثم كوى بها رأس الطالب صبري درويش احد طلاب المدرسة الثانوية المركزية في بغداد ، بهدف استخراج الشيطان من رأسه فتسبب في موته. واشتهر بعضهم بعلاج العيون عرفوا بالكحالين.
وقام رجال الدين والسادة والشيوخ بعمل الاطباء بقراءة الأدعية. والآيات القرآنية الكريمة او بوساطة ( التنشير على المريض بالبخور او بقدح الماء ) بعد قراءة الأدعية عليه واعطائه للمريض. وقد أورد خيري العمري مثلاً معبراً عن إيمان بعض الناس بجدوى هذه المعالجات وقدرة رجال الدين على الشفاء من الامراض ، إذ يذكر ان وزير الصحة محمد مهدي بحر العلوم في الحكومة العراقية المؤقتة عام 1920 نصح اقاربه الذين قصدوه طالبين منه التوسط لدى احد الاطباء البريطانيين ليعالج مريضهم ، بان يراجع " الملا جواد " الذي يعالج الامراض بالأدعية .
ويعد ( فتاح الفال ). اكثر هؤلاء المتطببين الذين عرفوا بممارستهم " للدجل والشعوذة " في المجتمع البغدادي ، ينادي بصوت جهوري في الشوارع " فتاح فال – عداد نجم " ويقوم بكتابة التعاويذ والحجابات ورد المظالم وابطال السحر والحسد وفض المنازعات وفك الزوج المربوط ورجوع الغائب والمحبة وغيرها ، بخطوط غير واضحة او بكلمات غير مفهومة ويفرض اجور نقدية وعينية لا سيما الدجاج والصابون والسكر والشاي لكي يعزم عليها الجن [ حسب ادعائهِ ] بعد ان يعرف اسم من يريد الفال واسم امه ، على الرغم من ان هذه الوسائل لم ينزل الله بها من سلطان وهي لغرض ابتزاز الاموال بطرق سهلة وسريعة لكنها كانت مهن مقبولة اجتماعياً لدى الفئات البسيطة الساذجة التي تؤمن بما يقوله هؤلاء المشعوذون لا سيما في المناطق الشعبية من بغداد .
ويشير الملا عبود الكرخي. وهو شاهد عيان معاصر لتلك الحقائق – الى اسماء جمهرة كبيرة من أولئك الأطباء والحكماء بشعره الشعبي قائلاً :
ومحمد ابو الفينة طبيب القـوم
وسلمان بن باقر واحمد وعاشـور
والمرزه علي وحاج فرج فاهـم
وابو نشعه علي وسيد ابو القاسـم
وابن سيد ربيع الحلي و افرايـم
والجدة الحكيمة ريمة بنت سرور.
واثرت العادات والتقاليد في العلاج الشعبي ، فقد وضع بعض البغداديين المعلقات على ابواب بيوتهم كراس الغزال واباريق الخزف ذات اللون الاخضر لطرد الارواح الشريرة. وبهذا الصدد يشير بعض المؤرخين الى اعتقاد السذج من البغداديين والبغداديات بمعجزات طوب ابو خزامة ، اذ انهم يشعلون الشموع حوله ويتبركون به(. وتقوم القابلة (الجدة) بحمل المولود الجديد في يومه السابع وتدخله في فوهته ثلاث مرات ثم تذهب به الى المصبغة حيث يقوم الصباغ بوضع بعض النقط على قطعة خاصة بالطفل ثم تذهب به الى محل السجناء ثم الى المدبغة والى الثكنة العسكرية لاخراجه من تحت السلاح ثم الى الجوبة ( مكان بيع الماشية ) وتعود به بعد ذلك وهي فرحة مسرورة. وقد ذكر الكرخي بعض معتقدات العامة من سكان بغداد وما فيها من خرافات واساطير فعلى سبيل المثال قيام الام بحمل سعفة طويلـة بعـد ان تضرم النار بها بهدف معالجة طفلها المصاب بالحمى وتسير بها نحو النهر. فاذا انطفأت في منتصف الطريق كانت نذير شؤم بموت الطفل قائلاً :
الرجعيـة اذ مكموعهـا تـورط
بصخونة وحرارة مهلكة وانحـط
تشعل سعفة من مهجوهها للشـط
جبارة طويلة أطـول السعفـات.
ويمكن القول ان العادات والتقاليد قد أثرت في تحديد تخصص الاطباء بالامراض النسائية لعدم وجود العدد الكافي من العنصر النسوي المتخصص في هذا المجال فقد كان الموت بمرض حمى النفاس امراً طبيعياً لجهل الأمهات الحوامل والقابلات وانعدام النظافة وعدم وجود اللقاحات الضرورية للطفل الذي يترك للقدر وعناية الله ، وحاول الاطباء الشعبيون معالجة امراض المرأة المختلفة لا سيما الحساسية والآلام الداخلية التي تسمى مرض الحرارة (بالعشبة والجوبجيني). بعد قليها بالماء ثم شربها بشرط ان يحافظ على الهدوء وان لا يقوم أي احد بازعاج المريض خشية ان تنقلب الاية ويحصل ضرر الدواء بدلاً من نفعه حسب اعتقادهم.
وعالج الطب الشعبي مختلف الامراض التي عانى منها المجتمع البغدادي على سبيل المثال لا الحصر الروماتيزم وآلام المفاصل وتشنجات الاعصاب والضعف الجنسي والاكزيما والبواسير وتساقط الشعر وامراض المعدة. واستعملوا سعف النخيل والواح الخشب واللفائف في تجبير كسور الارجل والايادي ، وقد برع في هذا المجال خليل الحويشاوي وابناؤه استعملوا زيت سمك الجري وبطن سمك الشبوط ودهن الكوسج وزيت الزيتون لمعالجة كسور العظام بمختلف انواعها.

عن رسالة
( الحياة الاجتماعية في بغداد)