أحد كبار مؤرخي فرنسا يتحول إلى تلميذ أمام شاعر

أحد كبار مؤرخي فرنسا يتحول إلى تلميذ أمام شاعر

هاشم صالح
كان رينه شار من أزهد الناس بالتكريمات الرسمية والالقاب ومحاولة التمسح بالسلطة او التقرب منها. كانت هناك سلطة واحدة يقترب منها هي سلطة الشعر. وقد ناضل طويلا ـ وبشراسة ـ لكيلا يعطوه جائزة نوبل. وافتعل مشكلة مع السفارة السويدية في باريس عندما دعته للغداء تمهيدا للموضوع.


قد يستغرب المرء ان يصدر هذا الكتاب الضخم الذي يتجاوز الخمسمائة صفحة عن مؤرخ اكاديمي بعيد مبدئيا عن كل علاقة له بالشعر. فبول فيني استاذ الحضارة الرومانية في الكوليج دو فرانس، ليس ناقدا ادبيا وانما هو احد كبار مؤرخي فرنسا المعاصرين. ومع ذلك فانه امضى سنوات عديدة من حياته وهو يتردد بشكل اسبوعي على بيت رينه شار في جنوب فرنسا لكي يناقشه في شعره وكيفية فهمه وتفسيره.
وعن هذه الجلسات الطويلة والصاخبة نتج هذا الكتاب الكثيف والمليء بالفكر والعلم والشعر.. ذلك ان رينه شار الذي يعتبره البعض اهم شاعر فرنسي في القرن العشرين كان صعبا وغامضا الى اقصى الحدود. وبالتالي فشعره بحاجة الى تأويل ويا ليته يساعد هو شخصيا في هذا التأويل قبل ان يموت. على اي حال ضمن هذا المنظور راح بول فيني يقابل الشاعر ويجمع المعلومات والمعطيات عنه طيلة سنوات وسنوات. ولا يملك المرء إلا ان يبدي اعجابه بهذا التفاني في خدمة الشعر، وهذا التقدير والتبجيل لأحد الشعراء الراديكاليين الذين كرسوا انفسهم لقضية الشعر حتى آخر لحظة من حياتهم. اقول ذلك وبخاصة ان هذا التقدير آت من جهة عالم كبير واكاديمي رفيع المستوى كبول فيني.
في البداية هناك نوادر عديدة عن حياة رينه شار وعن شخصيته ومزاجه وداخليته المضطربة والهائجة. ونفهم منها ان رينه شار لم يكن حائزا على اي شهادة ولا حتى شهادة البكالوريا! ومع ذلك فان احد كبار اساتذة الجامعة الفرنسية يجيء لكي يمثل امامه كالتلميذ، بل ويتحمل احيانا طيلة ساعات وساعات تأنيبه وتقريعه وانفجارات غضبه المشهورة. يقول له مثلا: يا بول فيني، لا تعاندني! قلت لك هذا البيت معناه كذا، وانت تقول لي كذا.. انت لم تفهم شيئا على الاطلاق.. اغرب عن وجهي، اوقف الجلسة! حذار ان تسجل اي شيء من كلامي بدون علمي!.. الخ.. ومع ذلك فان البروفيسور بول فيني صديق ميشيل فوكو وصاحب الكتب الشهيرة في علم التاريخ كان يعود في كل مرة لكي يلتقط كلام الشاعر الكبير وكأنه جواهر ثمينة لا ينبغي ان يضيع منها حرف واحد.. وهناك نادرة اخرى عن فرانسوا ميتران الذي الح على زيارة رينه شار في بيته. وعندما حطت طائرة الهليكوبتر الرئاسية امام البيت ودخل الرئيس الفرنسي مع حاشيته واعوانه وبعض وزرائه دار حديث غريب الشكل عن الشعر والادب والفن. وفي نهاية الزيارة طلب ميتران من رينيه شار ان يسمح له بالجلوس على مكتبه ولو للحظة لكي يستشعر بعض الاحاسيس التي تنتاب الشاعر عندما ينزل عليه الالهام.. وقبل الشاعر طلب الرئيس على مضض بعد ان بدت على وجهه امارات الانزعاج، لكأنه كان يريد ان يقول له: انت تجلس على عرش السياسة، فما علاقتك بعرش الشعر؟! كان رينه شار من ازهد الناس بالتكريمات الرسمية والالقاب ومحاولات التمسح بالسلطة او التقرب منها. كانت هناك سلطة واحدة يعترف بها هي سلطة الشعر! امامها وحدها كان يخشع وينحني. وقد ناضل طويلا ـ وبشراسة ـ لكيلا يعطوه جائزة نوبل!.. ويبدو انه افتعل مشكلة مع السفارة السويدية في باريس عندما دعته للغداء بقصد التمهيد للموضوع. لقد فعل كل شيء لكي يشيحوا النظر عنه، لكي يعطوا الجائزة لغيره. يقول بول فيني بما معناه: لا، يا بول فيني! انا لا استطيع القبول بجائزة نوبل. منذ ثلاثين سنة وانا اردد هذا الكلام، ومع ذلك فانك تفتح الموضوع معي من جديد! انا لا اريد هذه الجائزة. انا سريالي والسرياليون لا يقبلون بالجوائز أيا تكن.
الجائزة الوحيدة التي كان يقبل بها هي بيت جديد من الشعر يتوصل اليه بعد استعصاء ومكابدة. ثم ان الشعر فوق كل الجوائز، ولا ينبغي تلويثه بالجوائز ايا تكن. هل هناك من جائزة تليق ببودلير، او رامبو، او المتنبي؟ اين هي الجائزة التي ترتفع الى مستوى هؤلاء..

يقول المؤلف منذ البداية معطيا لمحة عامة عن شعر رينه شار:
اعمال شار الشعرية لا تشبه اعمال اي شاعر آخر. فهي ليست عبارة عن مجموعة قصائد تتحدث عن جملة من الموضوعات المختلفة. شعر رينه شار له موضوع واحد: الجمال والشعر. ويمكن القول ايضا بأن موضوعه هو: مكانة الجمال ضمن القيم الاساسية التي تتحكم بالوجود البشري، ولكن ينبغي ان نتفق على مفهوم الجمال لدى رينه شار. فهو لا يقصد به ذلك المعنى الشائع او ذلك الترف الارستقراطي، أو مذهب الفن للفن، او ما شابه ذلك. الجمال بالنسبة له يعني: الحب، والحرية، والحقيقة، بل وحتى الاخلاق. وربما كان معناه الحقيقي هو الطيبة الداخلية للانسان والبهجة.

ذلك ان رينه شار معذب ويحب العذاب لدى الآخرين، وينحني امامه ويشعر بالتعاطف الاخوي. اقول ذلك على الرغم من انه كان قويا من الناحية الجسدية، بل وعملاقا مرهوب الجانب. واعماله البطولية اثناء المقاومة ضد الاحتلال الالماني معهودة ومشهورة، ولكنه كان يبدو ضعيفا امام عذاب المحروم الذي يئن، وكثيرا ما سحب من جيبه الفلوس لكي يعطيها لهذا الفقير او ذاك، لهذا العامل المغترب، او تلك المرأة المهجورة، ولو انه استطاع لقضى على بؤس البشرية كلها. عن هذه الخلفية الانسانية العميقة نتجت اشعار رينيه شار. فنحن وحيدون في هذا العالم في نهاية المطاف، وسوف نغادره وحيدين.. ولا شيء يستحق ان نحرص عليه او نستملكه.
كان أبيا عزيز النفس، رينه شار. وربما كانت هذه اول صفة من صفاته. لم يكن يساوم على قضية الشعر او الحقيقة، وهنا تكمن عظمته وكبرياؤه. ولذلك عاش معزولا في قريته بجنوب فرنسا، بعيدا عن ضجيج العاصمة ومثقفيها بكل مؤامراتهم ومناوراتهم وتهافتهم على المناصب والوجاهات والاحتفالات. لم يكن يستطيع ان ينزل الى مستوى الصغار، رينه شار، لم يكن يستطيع ان ينتمي الى هذه العصابة او تلك من عصابات الادب، وكان يخشى الانغلاق. ولذلك عاش قريبا من النهر والغابة والطبيعة المتوسطية في جنوبي فرنسا. وكان يعرف اسماء الحشائش والنباتات والازهار اسما اسما. وكان ينحني عليها حتى ليكاد ينصهر بعناصر الطبيعة.
صحيح انه انتمى الى الحركة السريالية في الثلاثينيات، ولكن لبضع سنوات فقط. بعدئذ اكتشف ان طاقته الشعرية اكبر من ان تنغلق داخل اي حركة حتى ولو كانت مهووسة بالحرية السريالية، فانفصل وراح يعود الى جذوره الاصلية، الى قريته الهادئة وبراءاته الاولى. فالشعر بحاجة الى غذاء، الى تغذية وإلا جف نسغه او نبضه. وغذاء الشعر الوحيد هو البراءة والحقيقة والطبيعة.

في كتاب بول فيني هناك فصل كامل عن علاقة رينه شار بالفلاسفة الكبار في التاريخ من امثال هيراقليطس، هيدغر، نيتشه، ومشهورة قصة صداقته مع مارتن هيدغر الذي زاره اكثر من مرة في الخمسينيات. وعندئذ اعتقد الناس ان الشعر والفلسفة عقدا تحالفا على مستوى القمة من خلالها. ولكن الامور اكثر تعقيدا على ما يبدو. فرينه شار كان نيتشويا لا هيدغريا. يقول بما معناه: قلت لك يا بول فيني اذا كنت تريد ان تفهمني حقيقة فإن عليك ان تأخذ بعين الاعتبار ما يلي: الكتاب الاساسي والحاسم بالنسبة لي هو «ولادة التراجيديا» لنيتشه.

مقاطع من شعر رينه شار «وحدهم المتشائمون يربيهم المستقبل. انهم يرون بأم اعينهم مخاوفهم تتحقق. ومع ذلك فإن العنقود الذي تلا الحصاد فوق داليته. ينعقد. واطفال الفصول الذين لا يجتمعون مع بعضهم البعض كما هو معتاد يثبتون الرمل على حافة الموجة. هذا ايضا يعرفه المتشائمون جيدا».
(ذلك انه على مرتفعات الصيف ينتفض الشاعر ومن جمرات الحصاد يستمد شعلته وجنونه)

* من مقدمته الشهيرة للاعمال الكاملة لرامبو

* «مع رامبو بطُل الشعر ان يكون نوعا ادبيا، او مباراة. قبله كان هيراقليطس ورسام يدعى جورج دولاتور قد بنيا البيت الذي ينبغي ان يسكنه الانسان فعلا ودلا عليه: انه مقر للروح والتأمل في آن معا. بودلير هو العبقري الاكثر انسانية في تأريخ الحضارة المسيحية كلها. وشعره يجسد هذه الحضارة في ضميرها، في مجدها، في وخزات ضميرها، في لعنتها، وكل ذلك في لحظة انحطاطها، وذبولها، وقيامتها.. او موتها، الشعراء، كما يقول هولدرلين، «يظهرون اما في بداية الحقبة التاريخية، او في نهايتها. ذلك انه عن طريق الاناى ما فإن الشعوب تغادر سماء طفولتها لكي تدخل في الحياة العملية، في عهد الحضارة. وعن طريق الاناشيد ـ اي الشعر ـ فانها تعود الى الحياة البدائية. الفن هو الانتقال من حالة الطبيعة الى حالة الحضارة، ومن حالة الحضارة الى حالة الطبيعة». اما رامبو فهو اول شاعر لحضارة لم تظهر بعد!.. انها حضارة لا تكون فيها الآفاق والحواجز إلا عبارة عن تبن هائج. واذا ما تكلمنا على طريقة موريس بلانشو قلنا بأن تجربة رامبو هي تجربة الكليانية انها مؤسسة في المستقبل ومكفر عنها في الحاضر. (او منجزة في الحاضر).

ولكن، لو اني كنت اعرف ما الذي يمثله رامبو بالنسبة لي، لكنت عرفت ما هو الشعر، ولكنت رأيته مشخصا امامي بعينه.. وعندئذ ما كانت قد عادت بي اي حاجة لكتابة الشعر»..

* Rene"Char en Ses Poe"mes
رينه شار في قصائده

* المؤلف: بول فيني Paul Veyne

* دار النشر: غاليمار ـ باريس
Gallimard – Paris


عن الشرق الاوسط اللندنية