الذي يحكم المدينة المقدسة!

الذي يحكم المدينة المقدسة!

الذل هو السيد المطلق الذي يسيطر على المدينة المقدسة بآثار حكمه في كل مكان.
على وجوه الناس، وفي شوارع القدس نفسها، بل ويكاد يطل مجسداً من نوافذ البيوت، على جانبي الطرق في المدينة المقدسة، او التي كانت مقدسة!


وقد مزقت خطوط الهدنة شوارع القدس واحياءها، وسيطر اليهود على اكبر واعظم احيائها، فلم يبق منها في يد العرب إلا المدينة القديمة الواقعة داخل الاسوار، وثلاثة شوارع او اربعة على أكثر تقدير، خارج هذه الأسوار.

ففي كل ركن، وفي كل مفترق طرق، علامات تحمل اشارة كتب عليها" ممنوع الاتجاه في هذا الطريق" ومعنى ذلك ان المضي في هذا الطريق بضعة امتار اخرى، يقود السائر الى اسرائيل!
ومن كل مكان فيما تبقى من المدينة التي كانت مقدسة يبدو علم اسرائيل الازرق والنجمة البيضاء في وسطه.
انه يرفرف على مستشفى هدايا وعلى الجامعة العبرية، والاثنان على قمة جبل يشرف على القدس من عل، وهو يرفرف من نهاية الشارع الكبير الموازي لسور المدينة المقدسة، ويبدو على بعد لا يزيد على مائة متر من باب العمود، مدخل المدينة القديمة الشهيرة، ويبدو ايضا من منطقة المصرارة، على بعد خطوات، واخيراً يبدو هذا العلم المشؤوم من "بوابة مندلبوم" الشهيرة، التي تعتبر المنفذ الرسمي بين القدس القديمة ، والقدس التي يسيطر عليها اليهود!
وقت اسرائيل!
وتتجاوز آفاق المدينة التي كانت مقدسة، طوال الليل باصداء دقات الساعات الكبيرة، ولكن جميع هذه الساعات في المنطقة التي تسيطر عليها اليهود ويضبط السكان العرب في المنطقة التي يسيطر عليها الذل، ساعاتهم على وقت اسرائيل!
ويسير السكان العرب بين الشوارع التي هدمها العرب، والتي لم يجئ من يحاول ان يرفع انقاضها بعد، وعلى بعد امتار منهم، تتجاوب دقات المطارق التي تشيّد مكان الانقاض ابنية جديدة، ولكن هذه الابنية الجديدة في المنطقة التي يسيطر عليها اليهود!
ويمشي الاطفال العرب قرب حي المصرارة، في اسمال بالية، وابتسامات شاحبة، ونظرات وجوم واستسلام، وعلى قيد خطوات منهم وراء الاسلاك الشائكة التي تحدد خط المنطقة الحرام، يتناهى الى اسماعهم ضجيج الاطفال ولعبهم واجراس دراجاتهم في المنطقة اليهودية ويجيء الليل على المدينة التي كانت مقدسة.
وتتراقص ذبالات خافتة من النور في المناطق العربية، اما المناطق اليهودية فان الاضواء القوية المتوهجة منها تلمع فوقها في آفاق السماء، وينعكس لمعانها على القدس القديمة، شاحبا خافتا.. أليما!.
أشباح وراح الاسلاك!
ورداً هذا التناقض اوضح ما يكون في الاسبوع الماضي. كانت القدس اليهودية غارقة الى اذنيها في معركة الانتخابات وكانت القدس العربية في قلق ووجل وحزن بسبب مقتل الملك عبد الله.
وبينما كانت المدينة العربية غارقة في صمتها، مستسلمة للذل، لا ينبعث منها ضوء متوهج، او نغم مرسح، وبينما لم يكن فيها بيت واحد، ولا محل واحد، ولا سيارة واحدة لا ترفرف عليها شارات الحداد السود.. بينما كان هذا حال المدينة العربية، كانت المناطق الواقعة تحت سيطرة اليهود، شيئاً آخر بالمرة.
كانت الاضواء تشع كأن الليل عيد. وكانت الميكروفونات الكثيرة المنتشرة في المدينة، تقذف الى الجو بخليط من انغام الموسيقى، وخليط من هدير الخطباء من اجل الدعاية الانتخابية باللغة العبرية.
وكانت اصداء هذه الحركة الصاخبة في المنطقة اليهودية، تذوي مجلجلة في المناطق العربية، وخرج بعض السكان العرب الى قرب الاسلاك الشائكة التي تحدد المناطق الحرام، يتطلعون عبر الاسلاك الى هذا المرح وهذا الصخب.. وبدوا جميعا في هذا الجو المقبض، كأنهم اشباح متلصصة تسعى في يأس وسط اطباق الظلام!
السياسة في فلسطين!
واذا كانت الحياة في القدس العربية ذلا في النهار، فانها في الليل سجن انفرادي من نوع رهيب!
فلقد قضت اسبوعها الماضي تحت نظام منع التجول في الليل، من السادسة مساءً الى السادسة صباحاً، وكأن كل من فيها سينامون.. ومن الساعة السادسة.. ساعة حظر التجول حتى يجيء موعد النوم، لا شيء.. وعلى كل واحد ان يبقى في مكانه.
وحتى بعد ان رفع قرار حظر التجول، ظلت الحال في القدس العربية كما هي
ان الليل يجيء ويجرر معه وحشة مقبضة
وليس في القدس الا مكان واحد يمكن للناس ان يجلسوا فيه، هو حديقة فندق الزهراء، وكان فندق الزهراء قبل التطورات المعروفة في فلسطين ، من فنادق الدرجة التاسعة، ولكن الظروف الاخيرة وسقوط كل الاحياء الانيقة، ذات الفنادق الفاخرة، في ايدي اليهود، جعلت منه بحكم الواقع وبحكم الظروف القاهرة، فندقا من فنادق الدرجة الاولى!
وفي حديقة الزهراء يتجمع بعض الناس.. على الموائد ثم يدور الحديث، ولكن هذه الاحاديث كلها تكون في السياسة، والسياسة في القدس العربية.. هي الاخرى ذلة وانكسار، انها دموع على ما ذهب من فلسطين، ودموع اكثر عى ما بقي من فلسطين!
الهرب قرب العصر
وربما كانت الصورة الساخرة التي تصور هذا كله.. هي صورة اسراب السيارات الانيقة التابعة للديبلوماسيين، ومراقبي الهدنة، والسياح القادمين من اقصى الارض لزيارة الاماكن المقدسة، وهي تهرب قرب العصر من المنطقة العربية.
ان كثيرين من هؤلاء تضطرهم الظروف الى القدوم الى المنطقة العربية في النهار لانجاز اغراضهم في الصباح اسرابا بسياراتهم من بوابة "مندلبوم" عبر الشق الحرام.. من المناطق التي يشرف عليها اليهود الى المنطقة العربية.
وتمضي ساعات.. ويجيء العصر، واذا بهذه السيارات عائدة منطلقة باقصى سرعتها في اتجاه بوابة مندلبوم لتعبرها.. مرة اخرى الى المنطقة الاسرائيلية ولقد رأيت احد مراقبي الهدنة الفرنسيين، سابق الريح، قرب العصر، الى بوابة مندلبوم في طريقه الى القدس اليهودية وقال الرجل الفرنسي المرح:
- لماذا ابقى هنا بالليل وقد انجزت عملي الذي جئت من اجله.. ان الحياة هنا مقبضة موحشة .. اما هناك..
واطلق الفرنسي من بين شفتيه صفارة مرحة. وانطلقت به السيارة عبر بوابة مندلبوم.. وامامه صخب القدس اليهودية ووراءه الخرائب والاطلال الذليلة فيما تبقى من المدينة التي كانت مقدسة!!