من خفايا انقلاب شباط الدموي 1963

من خفايا انقلاب شباط الدموي 1963

عقيل الناصري
أمست ثورة 14 تموز أهم مَعلَم من معالم عراق القرن العشرين. وقد عكست في إحدى جوانبها، صورة للتنافس الإقليمي وصراع مصالح الدول الكبرى الفاعلة في الساحة الدولية آنذاك، على الشرق الأوسط بعامةً والمشرق العربي منه بخاصةً، حيث كان العراق أحد بؤره المركزية من ناحية البعد الاستراتيجي، بكافة أبعاده الاقتصادية والسياسية وحتى العسكرية. لقد غيرت ثورة 14 تموز الجو السياسي في المنطقة كلها، إذ أدركت القوى العظمى، المسيطرة على اقتصاد الخليج، خطورة نشوب ثورات مماثلة في كل المنطقة.

ونتيجة لما حدث من تغيّر جوهري في عراق 14 تموز تعرضت مصالح ومواقع المراكز الرأسمالية الكبرى إلى صدمة كبيرة، والأخص بريطانيا ومن ثم الولايات المتحدة، إذا قارن رئيسها السابق آيزنهاور أحداث 14 تموز بأحداث الثورة الصينية، إذ قال في مذكراته:
في صبيحة 14 تموز 1958 تلقيت بصدمة أنباء الانقلاب في بغداد ضد النظام الملكي الهاشمي. هذه هي البلاد التي كنا نعتمد عليها بكل ثقلنا في أن تكون الحصن الحصين للاستقرار والتقدم في المنطقة.. إذا لم يلق تحوٌل الأحداث بهذه الصورة المعتمة الرد الشديد من جانبنا فقد يؤدي إلى إزالة كل النفوذ الغربي في الشرق الأوسط... وتحدثتُ مساءً في الخطاب الذي أُذيع في الساعة السادسة والنصف، وأشرت إلى التماثل بين الوضع في لبنان وبين ما واجهنا في اليونان في سنة 1947. كما لفت النظر إلى الانقلاب الشيوعي في تشكوسلوفاكيا في 1948، وإلى الانتصار الشيوعي في الصين 1949، وإلى محاولات الشيوعيين للسيطرة على كوريا والهند الصينية منذ عام 1950 .
لقد أثر هذا التغيّر الجوهري، في يوم 14 تموز، في مجمل المسارات السياسية اللاحقة في منطقة الشرق الأوسط، سواءً فيما يخص:
ـ العلاقة بين المتناقضين الأرأسين المتناحرين آنذاك وهما العالم الرأسمالي، بقيادة الولايات المتحدة الأمريكية، والعالم الاشتراكي، بقيادة الاتحاد السوفيتي السابق، كمفاهيم سياسية وفلسفة اجتماعية ومصالح استراتيجية؛
ـ العلاقة بين المتناقضين اللا متناحرين الساعي كمل منهما لفرض هيمنته على المنطقة، وهما الولايات المتحدة وبريطانيا ؛
ـ واقع الصراع بين مصالح دول المنطقة الإقليمية، والدول العربية، وعلى الأخص المتحررة منها، حول قضيتها المركزية (فلسطين) وماهيتها كواقع وفكر، ومع إسرائيل كقاعدة للمراكز الرأسمالية.
غيرت ثورة 14 تموز من موازين القوى، ومن معادلات الصراع الدولي والإقليمي، وحتى بين المكونات الاجتماعية داخل العراق. مما دفع بالقوى المتضررة، وخاصةً الخارجية منها، إلى العمل بقوة على إيقاف سريان مفعول تأثير الثورة على دول الجوار الحليفة لها في المنطقة، ومن ثم إعادة تعزيز القوى الاجتماعية الحليفة لها في داخل العراق بغية كبح الحصان الجامح وإعادته إلى الحظيرة ـ حسب تعبير مجلة الايكونومست البريطانية-.. متبعةً ثلاث مسارات رئيسية هي:

1 ـ مسار التدخل المباشر:
تمثل هذا المسار، منذ الأيام الأولى للثورة، في محاولات التدخل والاحتلال الخارجي المباشر لإسقاط النظام الجديد من قبل دول حلف بغداد، بالتعاون مع دول الجوار الحليفة لها. لكن هذه المحاولات باءت بالفشل الذريع للأسباب الأرأسية الخمسة التالية:
1 ـ النجاح السريع والخاطف للثورة.
2 ـ عمق التأييد الشعبي الذي لاقته الثورة منذ إعلانها، وسعة شموله الاجتماعية/الأثنية لكل جغرافية العراق.
3 ـ القضاء على ثلاثي أقطاب الحكم وهم: الملك، وولي العهد عبد الإله ورئيس الوزراء نوري السعيد.
4 ـ الموقف الخارجي المساند للثورة والمتمثل بالدرجة الأولى في موقف الجمهورية العربية المتحدة والاتحاد السوفيتي.
5 ـ التناقض في المواقف الإستراتيجية المستقبلية بين الأقطاب الرئيسية لدول حلف بغداد ، وعلى الأخص بين بريطانيا والولايات المتحدة الأمريكية، العاملة على فرض سيطرتها على عموم المنطقة وطرد الأولى منها .
هذه العوامل تفاعلت فيما بينها جدلياً وأسقطت ذريعة التدخل الخارجي المتبرقع بـ (الشرعية الدفاعية) لدول الحلف وكبحت جماحه بالتزامن مع جملة من العوامل الرئيسية التي يمكن إيجازها في :
ـ السرية والكفاءة العاليتين في التحضير والإعداد للثورة وبالتالي المباغتة في التنفيذ.
- السيطرة على المناطق الحيوية في العاصمة العراقية، بغداد، وبقية المعسكرات المهمة.
ـ الإحباط والإجهاض الفوريين للتحركات العسكرية المضادة، التي قامت بها الوحدات العسكرية المتمركزة في: الديوانية والمسيب والناصرية و كركوك.
ـ انعدام وجود شخصية بارزة ومؤثرة من نخب الحكم السابقة، تقود حركة المقاومة (الثورة المضادة) وتطلب التدخل من دول حلف بغداد أو/و الاتحاد الهاشمي.
ـ استدعاء قادة الثورة بعض كبار الإقطاعيين وشيوخ العشائر الكبرى إلى بغداد، وبخاصة المالكين لقوى مسلحة، بغية إغلاق منافذ تحركاتهم المحتملة المناهضة للثورة؛
ـ النشاط الدبلوماسي الهادئ والواعي والسريع، الذي عبرت به الثورة عن ذاتها ومكوناتها، سواءً في البيان الأول أو مقابلاتها لأعمدة السلك الدبلوماسي الغربي وبخاصة دول حلف بغداد وأمريكا.
ـ طبيعة الخطاب السياسي الموزون والمتسم بالحذر والحيطة، الذي أكد على أهمية تدفق النفط، مما طمأن المصالح الغربية والدول المستهلكة له وهدأ من بواعث تدخلهم .
ـ تأمين الحماية للرعايا الأجانب المقيمين في العراق مما أغلق منفذ التدخل الخارجي بحجة حماية الرعايا؛
ـ تأكيد حكومة الثورة على احترام المواثيق والاتفاقات الدولية المبرمة، كميثاق الأمم المتحدة ومؤتمر باندونغ، مما أضفى الطبيعة الحيادية الإيجابية للثورة، وبالتالي نزع فتيل التدخل الغربي.
ـ عمق تأييد شعوب دول الجوار وبعض حكوماتها، وحركات التحرر في العالم الثالث والذي تجلى في سرعة الاعتراف الدولي بالنظام الجديد (22 دولة اعترفت في اليوميين الأولين).
ونتيجة لهذه العوامل جميعها، إضافة إلى التخوف من احتمال المواجهة مع دول المعسكر الاشتراكي آنذاك، ولاستتباب النظام في بغداد، فقد أُجبر الغرب، متمثلاً بدول حلف بغداد، على التخلي عن استخدام القوة العسكرية لعودة النظام القديم، مبررةً ذلك بتكرارها القول أنها بذريعة مبدأ آيزنهاور أنزلت قواتها في لبنان، وهذا لا ينطبق على ما يحدث في العراق الجمهوري، مما يعني شل قدرتها على التدخل العسكري المباشر وعدم سماحها لدول الجوار التابعة لها القيام بمثل هذا العمل. وبــإخفاق هذه السياسة، اتفقت دول حلف بغداد والولايات المتحدة (مجبرةً) على إتباع سياسة جديدة تمحورت خطوطها العامة في:
ـ التخلي عن فكرة التدخل المباشر من قبلهم؛
ـ عدم تشجيع دول الجوار الحليفة على القيام بمغامرة عسكرية، وبخاصةً من قبل تركيا والأردن.
ـ دعم هذه الدول الحليفة عسكرياً وسياسياً وأمنياً، ومنع سريان مفعول الثورة إليها
ـ الحفاظ على الحالة السياسية في دول المنطقة بعامةً والخليج بخاصةً، وقمع التعاطف الشعبي مع ثورة العراق ومنع تطوره وتماثله لما حدث فيه وبقاءها ضمن الفلك الغربي.
وإزاء ذلك قررت دول المراكز الرأسمالية أتباع مسار آخر لكبح جماح التغيّر في العراق والمنطقة.

2 ـ مسار سياسة الاحتواء (الترغيب والترهيب):
حاولت الدول الغربية، ضمن منطق ماهيتها الاستعمارية، إعادة فرض هيمنتها السياسية والاقتصادية ببعديهما الاستراتيجيين، من خلال عملية احتواء النظام الجديد بكل السبل الممكنة وغير الممكنة ( وذلك باتباع أساليب عدة تستهدف زعزعة النظام وتفتيت قاعدته الاقتصادية وتحجيم قواه الاجتماعية، لأجل كبح استمرارية تطوره المستقل، وكذلك اصطناع إثارة العديد المصاعب الكامنة والتي يعود بعضها، موضوعياً إلى الطبيعة المتنوعة للمكونات الاجتماعية والسياسية والاثنية للعراق، كل ذلك بغية خلق حالة من اللااستقرار السياسي، الذي سينفي بدوره منطقياٌ، أية إمكانية في تطوره الاقتصادي، وبالتالي يعيق الثورة من تحقيق ذاتها وأهدافها المرسومة مما ينجم عنه تشتت قاعدتها الاجتماعية المستهدفة من قبلها أصلاً وزعزعة الثقة بالنظام وهذا يسهل بالتالي القضاء عليه.
تتوأمت وتزامنت هذه الوضعية، مع سياسة الترغيب، في البدء، ومن ثم الترهيب المبطن، ليصل الأمر إلى خاتمته المنطقية، المعلنة. وذلك عندما رأت المراكز الرأسمالية، أن السلطة الجديدة لم تخضع للتهديد والابتزاز ولم ترضخ لضغوطاتها المتعددة الابعاد، ولا لسياساتها، وعلى الأخص فيما يتعلق بأحد أهم مضامين الصراع الدولي في المنطقة، ألا وهو النفط والذي تعتمد عليه ماكنة هذه المراكز الصناعية/العسكرية.
كان صعود التيار الديمقراطي ذو القاعدة الشعبية الواسعة، وعلى وجه الخصوص اليساري منه الذي رنا إلى اختصار زمن قهره المادي والمعنوي، في مثل هذه المنطقة المهمة وضمن لعبة التوازنات الدولية الأكثر حساسية، قد أخاف هذه المراكز (الرأسمالية) من قوة التماثل معها في دول المنطقة.. بمعنى آخر تكاثفت في الظاهرة السياسية للحكم الجديد، صيرورة متكونة من أربعة أبعاد، اعتبرت من محرمات السياسة الدولية وفقاً للمنطق الامبريالي، هي:
ـ حكم وطني مستقل في توجهاته، ذو نزعة اجتماعية اصلاحية تقدمية، بكل معنى المفردة، لمصلحة قاعدة اجتماعية واسعة حكم لها وإن كان بدونه.
ـ سياسة نفطية مستقلة عن الاحتكار العالمي.
ـ سياسة عربية ذات منطق تحرري لواقع انتمائه القومي وقضيته المركزية (فلسطين) وتحررهما.
ـ سياسة خارجية بعيدة عن التكتلات والاحلاف العسكرية الدولية ضمن مفهوم الحياد الايجابي.
جعلت هذه السياسات التي اتبعتها سلطة تموز/قاسم، في العراق أخطر بقعة في العالم، حسب المفهوم الامبريالي، وبخاصة الامريكي، المستند على منطق القوة والتي ماهيتها: [مسموح له بكل اشكال الإجبار والقسر، بما فيها حروب الدمار، وهذا يعني أن الصراع من أجل القوة هو بذاته الصراع من أجل البقاء، لذلك فإن تحسن مراكز القوة لابد أن يصبح الهدف الأول للسياسة الداخلية والخارجية للولايات المتحدة... إن هذه القوة تعني البقاء وإمكانية أن نفرض إرادتنا على الأخرين...] هذه السياسة طبقت بجواهر مضامينها في العديد من مناطق العالم، ومنها في عراق تلك المرحلة. وعندما انتهى مسار التهديد (بكسر رأس الزعيم قاسم) حسب تعبير دين راسك، تم الشروع في تطبيق المسار الاخير:

3 ــ مسار التغيير بالقوة (الانقلاب والاغتيال)
ونتيجة فشل سياسة الاحتواء من قبل قوى الهيمنة الامبريالية؛ وإصرار الحكم الوطني على اتباع سياسات من منطق تصوره المستقل؛ والمناقض لماهية إستراتيجية تلك القوى، وكمحصلة جدلية لها وما يستنبط منها؛ ولما أحدثته الثورة، كنتاج طبيعي، من اصطفافات طبقية نتيجة التناقض الاجتماعي داخل التركيبة الاجتماعية وطبقاتها المناظرة، وما أعقبها من هزيمة للقوى التقليدية والماضوية؛ وما وضعته الثورة العراقية أمام الطبقات الحديثة من صيرورة مفترق الطرق بين التقدم نحو تعميق المضامين الاجتصادية أوالتراجع عنها، أو المراوحة في المكان ذاته، الذي هو شكل من أشكال التراجع، لها ولنظيراتها في دول الجوار الساكن؛ وما أحدثته فيهم من حالة وعي الضرورة وبالذات في الفئات الوسطى وإمكانية تملك المستقبل أو على الأقل التأثير في جريانه، ومن ضمنها التحالفات على المستويين الداخلي والعربي، الاقليمي والدولي وإيقاعها المتناغم مع واقع الامة العربية وطموحاتها في التحرر والوحدة، المبنية على الارادة الكلية لشعوبها وليس للإنتقائية الرغبوية لقادتها.
وعلى خلفية هذا الوضع وما أفرزه من توترات وصراعات، من حركة واستقطاب، من مخاوف واستفزاز، تحالفت القوى المتضررة من الثورة، لأول مرة في عراق القرن العشرين، مع القوى الخارجية التي كانت بدورها تبحث عن أدوات جديدة لها، لتنفيذ قرار إسقاط سلطة تموز/قاسم بالقوة المادية المدعومة من قبلها( ). لأن الدوائر الامريكية رأت أنه [كان واضحاً منذ البداية، أن النظام الجديد (يقصد نظام تموز/ قاسم ـ الناصري)، لا يمكن الاطاحة به، إلا بقوة خاطفة ومتفوقة من الخارج...] حسب تعبير والدمار غولمان، السفير الامريكي السابق في العراق في الفترة 1954 ـ 1958.
وعلى ضوء هذا الرأي وذلك الواقع المعقد تم التحالف بين القوى المتضررة داخلياً والقوى الخارجية لإسقاط النظام الوطني في انقلاب 8 شباط 1963. ولايخفى أن القوى الانقلابية سبق أن جربت العديد من المحاولات اعتمادا على قواها الذاتية الداخلية، لكنها فشلت في تحقيق ذلك لعوامل عديدة، لذا اتجهت نحو الاعتماد على الخارج في تحقيق ذلك. إذ (مهما ابتعدنا عن الاستعانة بدليل لوجود قوي وفعال للعامل الدولي في عملية إسقاط ثورة 14 تموز والإجهاز عليها وإعدام قائدها في الحال، فإننا لا نجد مخرجاً سوى أن نكرر بأن العامل المحلي لم يكن على الإطلاق إلى جانب نجاح الانقلابين، فما زالت الأغلبية الساحقة من العراقيين مشدودة إلى عبد الكريم قاسم...
يوضح تاريخ الصراع السياسي على السلطة آنذاك، تشكل عدة محاور تهدف جميعها إلى قلب نظام الحكم، وإن لم يكن بينها اتفاق مسبق على ذلك، منها:
ـ المحور الإقليمي غير العربي والمتمثل بأنظمة حكم دول حلف بغداد السابق منها تركيا وإيران؛
ـ المحور العربي وكان يضم العربية المتحدة، ومن ثم مصر الناصرية بالإضافة إلى الأردن والكويت؛
ـ المحور الدولي والذي ضم أهم المراكز الرأسمالية العالمية وبخاصة أمريكا وبريطانيا..
إذ [ظل العراق ولفترة طويلة ساحة مفتوحة أمام النفوذ البريطاني، وقد لعبت كل من شركة النفط البريطانية والسفارة البريطانية والمخابرات البريطانية، أدواراً خطيرة في رسم معالم السياسة العراقية، وقد وصل الأمر بهذا الثالوث أن صار ممثلاً للنفوذ البريطاني. وبمجيء ((عبد الكريم قاسم)) حدثت هزّة للنفوذ البريطاني وصلت إلى أوجها حينما أقدم ((عبد الكريم قاسم)) على إصدار قانون رقم 80... ثم كانت مطالبته بــانضمام الكويت إلى العراق عام 1961، مما زاد في حدة مخاوف بريطانيا وتعميق قلقها على مصالحها في المنطقة.
وقد بذل الكارتل الثلاثي (السفارة، المخابرات، الشركة) جهوداً مكثفة في محاولة إستعادة النفوذ المفقود أو بعضه على الأقل. وقد اضطلعت بهذه المهمة بشكل أساس، المخابرات البريطانية عبر التنسيق مع عملائها القدامى والجدد... دون أن تقلل بالطبع من أهمية الدور الذي قام به سفير بريطانيا في بغداد يومذاك السير روجر آلن].
رغبت جميع هذه المحاور أن تتم عملية إسقاط حكم عبد الكريم قاسم بأيدي عراقية تحديداً، وهذا ما ينسجم مع العمليات السوقية التي كانت تقوم بها الولايات المتحدة في المنطقة آنذاك وبواسطة المؤسسة العسكرية والامنية. ويلاحظ أن الخط العام لإسقاط أنظمة الحكم الوطنية، وفقاً لهذا السيناريو، تمثلت في إحداث واصطناع العديد من الاشكاليات وتأزيم الموقف الاجتصادي والسياسي والامني لزعزعة الثقة بالنظام ومن ثم تهيئة الظروف لنزول القوات المسلحة لتسيطر على الموقف وتزيل الحكومات غير المرغوب فيها، حسب وجهة نظرها.
لقد سبق وأن جربت هذا الاسلوب في البدء ضد الحكومات التقدمية في أمريكا اللاتينية كما جربته ـ وكان هذا العمل التأريخ الأول لتدشين الحقبة الامريكية في المنطقة، منذ نهاية الاربعينيات في الشرق الاوسط بدءاً من سوريا (انقلابات الزعيم والحناوي والشيشكلي) والمحاولة التي جرت زمن شكري القوتلي عام 1956 ومن ثم جربته بنجاح لإسقاط حكم مصدق في إيران وحكم فاروق في مصر( )، ومن ثم في اندونيسيا سوكارنو، وشيلي ألليندي وغيرها.
كما حاولت الولايات المتحدة تطبيق هذا الشكل من الانقلابات حتى في عراق العهد الملكي، ضد النخبة الحاكمة في خمسينيات القرن المنصرم وذلك عندما: [اتصل الأمريكان بكامل الكيلاني، شقيق رشيد عالي وأبدوا استعدادهم للتعاون والتفاهم مع حزب الاستقلال من أجل تغيير النظام الملكي إلى جمهوري ودعم حزب الاستقلال إذا وافق على هذا الاتجاه. وبالفعل اتصل الكيلاني بالحزب وعرض رغبة الامريكان هذه ولكنه (شنشل أمين عام الحزب) رفض التعاون أو التفاهم مع الامريكان وقال أنه لا يريد تبديل إستعمار بأخر.
ومن باب أولى أن تشتد وتائر هذه النزعة بعد ثورة 14 تموز التي أرّخت لحقبة جديدة ومتميزة عما سبقها وما تلاها، من حيث المضامين الاقتصادية والسياسية، ومن حيث الضرورة التاريخية ولزوميتها. مما حفز القوى المتضررة هذه، الداخلية والخارجية، على الاطاحة بالنظام بغض النظر عن الاسلوب وعواقبه، والعنف ودمويته. إذ حددت هذه القوى لنفسها تحقيق ثلاثة أهداف آنية مباشرة هي:
ـ القضاء على الزعيم قاسم وتوجهاته السياسية والاجتماعية والاقتصادية.
ـ محاولة اجتثاث قوى التيار الديمقراطي بعامة واليسار بخاصة والشيوعي على الأخص مرة وإلى الأبد؛
ـ محاولة إجهاض تطوير المؤسسة العسكرية العراقية، كفكر عسكري وأسلحة متطورة وكوسيلة دفاعية وأداة تحررية، وذلك عن طريق إبعاد الاتحاد السوفيتي من المنطقة، لكونه الموّرد الرئيسي لسلاح العراق بعد تموز 1958 بغية أن لا تكون متكافئة في صراعها مع إسرائيل، ناهيك عن تهديدها.

2
وهكذا تكالبت القوى الداخلية والخارجية في تحقيق أهدافها المعلنة وغير المعلنة عبر الانقلاب العسكري المدعوم من الخارج، وعبر تأجيج الاحتراب السياسي، والذي، كما أشرنا سابقاً، كان بعضه مبرراً كرد فعل موضوعي قامت به الطبقات والفئات الاجتماعية (المهزومة) تاريخياً وعملياً نتيجة فعل الثورة. والبعض الآخر كان غير مبرر مطلقاً وبكل المقاييس. وأعني به ذلك الصراع الذي نشب بين القوى السياسية التي في جوهرها تعبر، بصورة نسبية كبيرة، عن أهداف الثورة ذاتها وما يتلاءم مع زمنية المرحلة وماهياتها التاريخية، وهي في نفس الوقت تمثل جوهر طموحها المبتغى آنذاك. وبأنه الصراع بين التيارين القومي، وبالأخص الجمهوري منه، واليساري وبخاصةً الشيوعي.
لقد تزامن هذا الصراع مع تشتت التيار الوطني الديمقراطي الواسع وممثله الأرأس الحزب الوطني الديمقراطي وعجز قيادته عن مواكبة المرحلة التي كانت في الجوهر مرحلته. ترافق ذلك مع انكفائية التيار القومي الكردي وأنوية قيادته وعشائرية زعامته وخطل تكتيكه.. كلها عوامل، وغيرها، أضاعت فرصة تاريخية ندرت بها ظروف عراق القرن العشرين والوقت الراهن. وما يحل بالعراق الآن، هو في بعض أوجهه نتاج لذلك الصراع والضياع.
وعلى ضوء ذلك ومنذ النصف الأول من عام 1961 وخاصة بعد صدور قانون رقم 80، تكثفت العمليات التآمرية الانقلابية وأخذت أبعادها التطبيقية تتجلى بالتوترات الاجتماعية والاقتصادية وتعبيراتها السياسية، بصورة مقصودة ومصطنعة، وازدادت حدة الاحترابات بين:
التيارات الأساسية المؤثرة؛ بين بعضها والسلطة الوطنية؛ بين السلطة الوطنية والحركة الكردية؛ بين السلطة وأغلب دول الجوار ومعها أمريكا وبريطانية؛ بين السلطة الوطنية ومصر الناصرية.. مما أدى منطقياً إلى التشتت والتباعد بين السلطة وقاعدتها الاجتماعية وبين عناصر قيادة الحكم ذاته؛ وسادت اللامبالاة/ العدمية إزاء مصير الجمهورية ونظام الحكم وعدم الاستقرار، وأغمضت مؤسسات الدولة الأمنية بصائرها عن التحركات المناهضة للسلطة، لا بل ساعدتهم في الوصول إلى مراميهم.
كما عمدت شركات النفط الاحتكارية إلى تخفيض الإنتاج والأسعار، مما عمق من الأزمة المالية، التي أثرت على حالة السوق وآليته. وتحركت القوى المتضررة المضادة للثورة في الريف من أجل تعميق الأزمة الداخلية كي يتاح لها استعادة بعض من مكانتها المفقودة بفعل الثورة وإجراءاتها. كما شرع طلبة التيار القومي والمنضويين تحت خيمته وبمساندة اتحاد طلبة كردستان في إضرابهم وعرقلة الدراسة في المعاهد العليا، واشتدت وتائر الحرب في كردستان التي حاربتها سلطة الزعيم قاسم بالوسائل السياسية، في حين حاربها ضباط التيار القومي بصورةٍ عنفية قصدية آنذاك وبالعقلية العسكرية المقترنة بأقسى وسائل القهر، بغية قطع أواصر إمكانية إعادة العلاقات بينها وبين السلطة التي بدأها الزعيم قاسم بــإعلان وقف القتال من جانب واحد والعفو العام، في الوقت الذي نسقت قيادة الحركة الكردية مع قوى الانقلاب الإطاحة بالسلطة، كما مدت علاقاتها مع القوى الخارجية الغربية ودول الجوار لمناهضة الحكم الوطني، تحت يافطة (التعاون مع الشيطان)(20).
وانغمس اليسار (الشيوعي تحديداً) في مطالبة السلطة ب (السلم في كردستان) حتى أصبح هذا الشعار، رغم أهميته الكبرى، مثبطاً لفعالية الإنذار الحزبي ذو الدرجة القصوى الذي كان قد أُعلن منذ مطلع كانون الثاني 1963، وهذا ما حال دون التصدي للانقلاب الذي بات معروفاً حتى من أي وحدة عسكرية سينطلق ومن هي قواه الرئيسية. وقد أدت حالة التناقض هذه التي كان يعيشها الحزب الشيوعي إلى عدم اتخاذه إجراءات ملموسة لمواجه الانقلاب وعجزه عن تنفيذ خطة الطوارئ التي أعدها لمواجهة ذلك(21).. وهذا يضع الباحث في حيرة في فهم كنه هذا التقاعس؟ ربما نجده في الصراع الداخلي الذي سكن لب العقل السياسي للكوادر العليا للحزب منذ أواسط عام 1959:
[وهذا ما كنت أتحسسه فيما يطرح في المنظمات القاعدية وحتى اللجان المتفرعة في بغداد حيث ملت تلك المنظمات من عدم انقطاع التوجيهات الحزبية الصادرة إليها بضرورة التزام أقصى درجات الحذر واليقظة إزاء الأخبار المتكررة عن احتمالات قيام حركات تآمرية انقلابية تستهدف الحكم. إذ كانت تتوالى في بيانات الحزب منذ صيف عام 1962 وحتى انقلاب شباط المشئوم. ولقد وصل الأمر جراء تكرار هذه الحالة، أن تراخت يقظة المنظمات القاعدية والجماهير الملتفة حول الحزب، مما سهل على المتآمرين في صبيحة يوم الجمعة 8 شباط 1963، انقلابهم بينما واجه الحزب حالة من الارتباك لم يستطع تجاوزها، وبالتالي فقد الحزب السيطرة، ليس فقط على الشارع، بل وعلى المنظمات الحزبية (وخاصةً في الجيش ـ ع.ن).
... ليس من الصحيح أن قيادة الحزب لم تنتبه إلى خطورة الأوضاع السياسية التي كانت تمر بها البلاد عشية الانقلاب. إذ إن شعوراً بذلك كان يعبّر عنه في مناسبة أو أخرى، ويبدو لي أن انشغال قيادة الحزب بموضوعة ((التكتل)) صيف وخريف ذلك العام، قد لعب دوراً في تأخير إحداث استدارة حادة في سياسة الحزب إزاء حكومة قاسم ونهجها، وما أن أوشكت القيادة على تصحيح سياسة الحزب أواخر عام 1962 وأوائل 1963 حتى كانت الفرصة قد أفلتت من قبضتها ووجه الانقلابيين بتخطيط ودعم المخابرات الأجنبية ضربتهم القاصمة بالحكم والحزب أيضاً](22) (التوكيد منا ـ ع.ن(.
ومع ذلك فمن الناحية العملية لم تتخذ قيادة الحزب أي إجراء ملموس لمواجهة الانقلاب الوشيك الوقوع، سوى إصدار البيانات ودعوة الحكومة لإجراء تطهير واسع وفعال في صفوف الجيش، وهذا ما بدأ الزعيم قاسم القيام به، وإطلاق سراح المعتقلين السياسيين وإعادة حرية العمل للحزب، كما دعوا الجماهير إلى أن تكون محترسة ومستعدة للرد كرجل واحد(23(
في هذا الوقت الذي كان حزب البعث يعد عدته مع قوى الخارج، للانقضاض على السلطة الوطنية.
كانت حركة القوميين العرب، تعد هي الأخرى لحركة عسكرية، كان المفروض لها أن تتم في أول يوم عيد الفطر، أثناء الحفل الذي اعتادت جمعية المحاربين القدماء على إقامته. وكانت الحركة على أهبة الاستعداد لتنفيذ الخطة، وكانت تعتبر:
أهم مؤامرة انقلابية نسقتها حركة القوميين العرب، هي مؤامرة 25 شباط 1963 ((أول أيام عيد الفطر)) حيث تقرر اغتيال قاسم في نادي الضباط إبان استقباله للمعايدين. ويبدو أن الحركة من خلال قيادييها الشابين البارزين نايف حواتمة وباسل الكبيسي، قد اتصلت بمجمل الكتل العسكرية القومية في الجيش في وقت واحد، كل على انفراد، فاتفقت مع كتلة اللواء الركن عبد العزيز العقيلي الموصلية الصغيرة ومع كتلة الضباط القوميين (صبحي عبد الحميد) المهمة وكتلة العميد الراوي (عبد الهادي) والمقدم حداد (جابر حسن). وطبقاً لمصادر كتلة صبحي عبد الحميد فإن خطة الحركة اعتمدت على كتلة الضباط القوميين وكان فريق الاغتيال بــإمرة الرئيس الأول الركن فاروق صبري عبد القادر، إلا أنه طبقاً لمصادر كتلة الراوي ـ حداد، فإن فريق الاغتيال كان مؤلفاً من عشرة ضباط صغار جميعهم من كتلة الراوي ـ حداد وتولى تدريبهم على العملية المقدم جابر حسن حداد نفسه، غير أن هذه المصادر تشير في الآن ذاته إلى أنه تم الاتصال بكتلة صبحي عبد الحميد وأحاطتها علماً بالعملية من قبيل تنسيق الجهد... وكان مبدر الويس وعامر حمدان وعبد الرحيم سلمان وعبد الأمير الربيعي ضمن فريق الاغتيال](24). ( التوكيدات من-ع.ن)
لكن، في الوقت نفسه، لم تنسق حركة القوميين العرب مع حزب البعث، الذي حدد في البدء نفس التاريخ والمكان لاغتيال الزعيم قاسم. وكان الطرفان في (سباق المسافات الطويلة) للسيطرة على السلطة. إلا أن هذا الأخير (حزب البعث) قدم موعد انقلابه نتيجة تسرب أخباره للسلطة التي شرعت بإحالة العديد من ضباطه وأنصاره المشاركين على التقاعد. إذ صدرت القائمة الأولى بالمرسوم رقم 34 في 24 كانون أول/ ديسمبر 1962 وبعدها صدر مرسومين آخرين برقم 58 و59 في 3 و4 شباط / فبراير 1963، وكان المفروض صدور القائمة الرابعة في يوم 9 شباط والتي تضم العديد من المشاركين الكبار في الانقلاب.