طرق هيدجر غادامير قارئاً أستاذه

طرق هيدجر غادامير قارئاً أستاذه

عبدالله المطيري
* في عام 2007 تمت ترجمة كتابين مهمين للفيلسوف الألماني هانز جورج غادامير (1900-2002). هما"طرق هيدجر"وكتابه العمدة"الحقيقة والمنهج"بعد أن كان ترجم له قبل ذلك كتابين"فلسفة التأويل2002"ترجمة محمد شوقي الزين و"بداية الفلسفة 2002"ترجمة علي حاكم صالح ود. حسن ناظم مترجمي الكتابين الحديثين محل قراءتنا هنا.

وهنا سنقدم، في حلقتين، قراءة لهذين الكتابين الأساسيين في فلسفة غادامير وفي الفلسفة المعاصرة.
مَن هو غادامير؟
غادامير هو أحد أهم الفلاسفة الألمان المعاصرين ويمثل مع هابرماس قطبي هذه الفلسفة الآن. ولد في ماربورغ 1900، السنة التي مات فيها نيتشه وذات السنة التي صدر فيها كتاب"تفسير الأحلام"لفرويد. درس الفلسفة على الكبار هوسرل وهيدجر.طبعا الثراء الفلسفي في ألمانيا لا يحتاج إلى الكثير من القول فالجامعات الألمانية تزخر بالكثير من العقول الكبيرة، من باحثين ومؤرخين وفلاسفة. يشكلون تتابعا للأجيال يجعل من التواصل الفكري والاستمرار والتراكم سمة لا تخفى على أي مطلع على المنتج الفلسفي الألماني على وجه الخصوص. لم ينشر غادامير كتبا إلا في فترة متأخرة فقد كان أول كتاب له"الحقيقة والمنهج"نشره وهو في الستين من العمر. كتب أطروحة الدكتوراه حول"ماهية اللذة في حوارات أفلاطون"وعمره 22سنة. عمل أستاذا في العديد من الجامعات الألمانية وقد ساعده عمره المديد، أكثر من قرن من الزمان، على خوض الكثير من التجارب التي أثّرت بالتأكيد في مجمل نظرته للحياة والذات والآخرين. عاش غادامير، الحرب العالمية الأولى والثانية، عاش عصر هتلر، والحرب الباردة، عاش الانقسام والصخب الأيديولوجي الذي ساد العالم في القرن العشرين. عاش كل هذه الأحداث وهو في قلبها، في ألمانيا، الدولة الطرف في كل الصراعات الكبرى في القرن العشرين.
تقع فلسفة غادامير في سياق الفلسفة الألمانية في القرن العشرين، الفلسفة المشغولة بمقابلة المنجز العلمي الذي سادت مناهجه وطرق بحثه أغلب المجالات حتى لم يعد للمناهج العلوم الإنسانية ذلك التقدير والتقييم الذي تستحقه. يقول الزين"المشكل الرئيسي والهام الذي شغل أبحاث غادامير هو الفهم الذاتي الذي تمارسه العلوم الإنسانية في مقابل النموذج العلمي البحت الذي تتمتع به العلوم الدقيقة والطبيعية". يرى غادامير أن العلوم الإنسانية تختلف عن العلوم الطبيعية في مناهجها وأنه من الخطأ تطبيق مناهج العلوم الطبيعية على العلوم الإنسانية، لأن الإنسان يختلف عن مكونات الطبيعية على الأقل في تاريخيته. ولذا يأتي الوعي التاريخي كأحد مقولات فلسفة غادامير، الوعي التاريخي بوصفه المنجز الأهم للإنسان الحديث. يقول غادامير عن الوعي التاريخي"ظهور الوعي التاريخي هو بلا شك الثورة الهامة التي شهدناها منذ حلول العصر الحديث. دلالته الروحية من المحتمل أنها تتجاوز المغزى الذي نقر به إزاء تحقيقات علوم الطبيعة التي حولت بشكل واضح وجه كوكبنا الأرضي. الوعي التاريخي الذي يميز الإنسان المعاصر هو امتياز وربما عبء لم يفرض على الأجيال السابقة". ليست فلسفة غادامير التأويلية مجرد هيرمونطيقا لغوية تجعل من اللغة معيار جميع الأشياء ومقياس كل التصورات. لا يركز غادامير على الوجود اللغوي وإنما يعطي أهمية بالغة للوجود التاريخي دون أن يسقط في التاريخانية الساذجة. سأترك التوسع في فلسفة غادامير إلى الحلقة القادمة المخصصة لكتابه الرئيس"الحقيقة والمنهج".
غادامير ومعاصروه
خاض غادامير الكثير من الحوارات الفلسفية مع الكثير من العقول سواء تلك التي لا زالت تنطق من الماضي وتمثل التراث أو تلك التي المعاصرة بأنواعها. أشهر تلك الحوارات تلك التي خاضها كانت مع هابرماس ودريدا. ينتقد هابرماس غادامير، كما يذكر محمد شوقي الزين في مقدمة كتاب فلسفة التأويل، أن تأويلية غادامير تجعل التراث فوق العقل النقدي كما ينتقد المنحى المثالي لغادامير في تصوره للمجتمع وطبيعة العلاقات الفردية وإغفاله ل"نسق المرجعية"أي شبكة العلاقات الاجتماعية. إلا أن ما يتفق حوله غادامير وهابرماس هو"الاتفاق الحواري"الذي يتجلى في نموذج الحوار الأفلاطوني كما تبناه غادامير ونموذج الاتصال كما يذهب هابرماس. أما خلاف غادامير ودريدا فيعزوه الزين إلى المسافة المعرفية الكائنة بين الفكر الألماني في طابعه الأنطولوجي - الجمالي- التاريخي والفكر الفرنسي في منحاه المنهجي- النسبوي- التفكيكي. شهد عام 1981لقاء مهما بين غادامير ودريدا في باريس (توجد نصوص هذا الحوار في كتاب فلسفة التأويل). إلا أن ما يجمع التأويل الغاداميري والتفكيك الدريدي، كما يذكر الزين، هو أن هناك دائما اختلافا يفصل الكلمة (أو اللغة) عن إرادة المعنى مما يجعل القانون الذي يحكم كل خطاب هو قانون"الإحالة". كل كلمة تحيل إلى كلمة أخرى من دون الوصول إلى معنى يشفي الغليل أو القبض على حقيقة تتخذ كرهان للسيطرة وإرادة التشويه والتشويش. هناك دائما مشاركة في إنتاج الحقيقة وبناء المعنى، مشاركة ليست حكرا على أحد تؤول إلى معرفة مقتسمة والمعنى كحصص موزعة وفهم مشترك تتداخل آفاقه وتختلف مستوياته وأبعاده.
الكتـــاب
الكتاب هو عبارة عن قراءة غادامير لهيدجر، الفيلسوف الألماني الأكثر أثرا في القرن العشرين. علاقة غادامير بهيدجر علاقة واسعة. فهو أستاذه وباعث الروح الفلسفية فيه. لم يكن هيدجر أستاذا عاديا ولا باعثا فلسفيا كغيره. هذه حقيقة جلية بالنسبة لغادامير. يتأمل غادامير أستاذه هيدجر بحب. يتأمل عينيه وصوته وطريقته في إلقاء المحاضرات. بعد قراءتي للكتاب ذهبت لموقع اليوتوب على الانترنت بحثا عن مقاطع فيديو لهيدجر وغادامير ووجدت ما يستحق المتابعة خصوصا المترجم للإنكليزية عن الألمانية. كنت أبحث عن هيدجر كما وصفه غادامير. طبعا الفارق كبير بين من يشاهد مقطعا في النت وبين من يعيشه، إلا أنه من الأكيد أن هيدجر مختلف جدا. على الأقل في طريقة عيشه وعزلته في كوخه الذي قام بتصميمه.
يصف غادامير لقاءه الأول بهيدجر ويقول: في ربيع 1923سمعت همهمات في الحلقات الفلسفية بماربورغ عن نابغة ظهر بفرايبورغ، وعن تقارير مكتوبة تدور حول الأسلوب غير المألوف لمساعد هوسيرل كانت تتناقلها الأيدي. فذهبت قاصدا زيارته في مكتبه بجامعة فرايبورغ، وما أن دخلت الرواق حتى رأيت شخصا يخرج من مكتبه برفقة شخص آخر: لم يكن ضخما، ولكنه كان صغير الجسم وعابسا. فانتظرت في الخارج بصبر مفترضا أن هناك شخصا آخر ما يزال مع هيدجر. ولكن هذا الشخص الآخر الذي كان قد خرج هو هيدجر نفسه. بالطبع كان مختلفا تماما عن أساتيذ الفلسفة الذين عرفتهم. فبدا لي أشبه بمهندس، أو تقني: كان مقتصدا في حديثه، وعمليا، ومتحفظا، ومفعما بطاقة صلبة، ولا يتمتع بتلك الطبيعة العفوية التي يتمتع بها الإنسان المثقف.
أما طريقته في محاضراته فهي تمتاز بتلك الجدية المثيرة، والغاضبة تقريبا، التي يغامر فيها فكره، وتلك الطريقة التي كان ينظر فيها من طرف عينه عبر نافذة القاعة، وعيناه التي تمسحان جمهوره والطريقة التي يندفع فيها صوته إلى الحد الأعلى من الإثارة.
يسجل غادامير مشاهدات يومية عن هيدجر كما سجّل الكثير من التقاطعات مع فلسفته."كان يبدأ يومه مبكرا وفي الصباح الباكر كان يدرسنا أرسطو أربع مرات في الأسبوع"كما يذكر أن لهيدجر جانبا رياضيا فهو متزلج منذ طفولته (ويعطي محاضرات في التزلج) كما كان متميزا في كرة الطائرة. هل سيتحول هيدجر إلى أسطورة بعد كل هذا الشغف بالتفاصيل؟ يقول غادامير في هدف هذا الكتاب"جميع الأعمال المجموعة هنا تنشد من حيث الجوهر، الهدف نفسه وهو: تقديم فكر هيدجر المستقل وغير المألوف، فكر ارتد عن جميع طرق التفكير والحديث القائمة من قبل. وتقصد هذه الأعمال، فوق ذلك كله، إلى أن تحول دون وقوع القارئ في الافتراض الخاطئ القائل أن ثمة أسطورة وأن ثمة غنوصا شعريا في ارتداد هيدجر عن المألوف".
طرق هيدجر
ليس لهيدجر طريق واحد، بل طرق عــدة"وعندما نظر هيدجر في ما أنجزه، عزم على كتابة مدخل لأعماله الكاملة التي أشرف عليها بنفسه اختار شعارا لهذه الأعمال وهو:"طرق وليس أعمالا". طرق يجب أن تقطع ليخلفها المرء أمامه متقدما إلى الأمام، فهي ليست شيئا ثابتا يستريح فيه المرء، أو يستطيع أن ينكفئ عليه". وفي إهداء المترجمين كتبا"إلى كل مثقف عربي يؤمن بالطرق لا بالطريق". وبرأيي أننا هنا أمام إحدى القضايا الجذرية التي نعانيها وهي معضلة الطريق الواحد والرأي الواحد والحق الواحد والبطل الواحد، إنها الواحدية. من أهم دروس هيدجر أن الطرق متعددة باعتبار أن"الحياة غامضة ودائما ما تلف نفسها بالضباب"كما يقول في إحدى أكثر عباراته إدهاشاً.
"ما سرّ حضور هيدجر الدائم؟"كان هذا سؤال غادامير في هذا الكتاب. يرى غادامير أن أهمية هيدجر تكمن في عدد من القضايا توضح مقدار تأثيره العظيم. فهناك الطريقة التي التقط بها مفهوم الوجود الذي صاغه كيركيغارد. وهناك تحليله لمفهوم القلق ومفهوم الوجود نحو الموت، فكان لهما تأثير بالغ العمق على اللاهوت البروتستانتي في العشرينيات. وهناك"منعطفه"في الثلاثينيات نحو الشاعر الألماني هولدرلين. وهناك المحاولة الرائعة والمضادة من أجل تأويل نيتشه تأويلا مستقلا. وخلال الفترة التي أعقبت الحرب العالمية الأولى، كان هناك تأويله للميتافيزيقا الغربية التي بلغت ذروتها في عصر التكنولوجيا الكونية بوصفها قدر نسيان الوجود.
تُهـم ضد هيدجر
خصوم هيدجر كُثر، ولو استبعدنا الخصوم السياسيين، لوجدنا من الطبيعي أن تكون هناك خصومات فلسفية عديدة. نذكر مع غادامير بعضها من مثل دعوات تحطيم العقل (لوكاش)، ورطانة الموثوقية (أدورنو)، وهجر التفكير العقلاني من أجل أساطير شبه الشعرية، ومعركته الدون كيوخيتية ضد المنطق، والفرار من الزمان إلى الوجود. تأتي هذه الخصومات الفلسفية في سياق التيارات المتعددة المختلفة بالضرورة وإن كان هيدجر شهد في فترات محددة عدم اهتمام كما حدث بين (1935- 1945) وهي عموما فترة قلقة في ألمانيا بسبب النازية والحرب إلا أن الإقبال على فلسفته ودراستها والاهتمام بها لم ينقطع حتى اليوم بل لا تزال الأسئلة التي أثارها هيدجر لا تزال حيّة حتى اليوم. يكفي أن نتذكر أحد أسئلته الأصلية وهو سؤال: كيف يمكن للمرء الحديث عن الله دون أن يختزله إلى موضوع من موضوعات معرفتنا؟ هو سؤال محوري اليوم في وسط تنامي الفهم الحديث للدين كما في أوروبا حاليا.
صمت عن السياسة والحـُـب
كان غادامير مشغولا طول الكتاب بفهم هيدجر وكشف سر حضوره الدائم. كان ينطلق من تجربة خاصة ومهمة. توقف غادامير عن الحديث عن هيدجر منذ عرفه حتى 1960ثم تحدث بعد ذلك وتحدث كثيرا حتى وصفه هابرماس في حفل فوزه بجائزة هيجل ب"تمدن المقاطعة الهيدجرية". كان صمت غادامير من أجل أن يبتعد المسافة الضرورية عن هيدجر، المسافة التي ستتيح له النظر بشكل أوضح. تحدث بعد أن اكتشف طرقه الخاصة. لم ينشغل غادامير بنقد هيدجر في هذا الكتاب ربما لأن فهم هيدجر لم يتحقق حتى الآن. كما صمت تقريبا عن التاريخ السياسي لهيدجر المتورط مع النازية ربما لأنه يصنفه ضمن"الحديث الفارغ"كما صمت عن عاطفة هيدجر وقصته مع الحب!

عن جريدة الرياض السعودية