قد ترتعش من البرد.. من الخوف.. من حالة نفسية عصبية، ولكن الرعشة التي تنتابك وانت تستمع الى عزف بياتريس اوهانيسيان هي رعشة من نوع آخر.. منعشة، لطيفة، يهتز لها كل كيانك.. وتشعر كأنك فوق بساط من الزهور تصعد الى الاعالي.. الى اللانهاية، الاصابع الناعمة تتقافز الواحد تلو الآخر على مفاتيح آلة البيانو البيضاء والسوداء،
متداخلة مع بعضها، حتى انك تشك انها ستقع في مصيدة مكونة عقدة مستعصية ولكنها سرعان ما تنفك لتفر هنا او هناك نقرات صغيرة ناعمة اشبه ما تكون بقطرات الرذاذ عندما تتساقط على اوراق الاشجار.. تعقبها ضربة جبارة ساحبة اصبعها من بداية المفاتيح كأنها الرعد القاصف.!؟..
هل شعرت يوماً بالتلاشي وانت تقف امام "شيء" اكبر منك آلاف المرات؟!!.
تعود الحكاية بنا الى ازقة بغداد القديمة، في الربع الثاني من هذا القرن، عندما ازدانت دار السيد والسيدة، اوهانيسيان بطفلة جميلة، جاءت بعد ابنهما البكر "آرشاه" وتم تعميدها باسم "بياتريس".
وكانت في المهد عندما تطرق الى اذنيها صوت الموسيقى.. فامها كانت تجيد العزف على آلة الماندولين وابوها المحاسب في احدى شركات النفط، وعازف "الفلوت" عضو في فرقة موسيقية من الهواة.. واخوها الذي يكبرها عدة سنوات اخذ يتجه هذا الاتجاه، وبدأ يتعلم العزف على آلة الكمان.
عاشت بياتريس طفولة سعيدة، في جو عائلي بهيج متوسط الحال، خاصة بعد مجيء الطفل الثالث، وكانت بنتاً سميت بـ "سيتا" .
في مدرسة الراهبات..
الام هي المدرسة الاولى لتربية الابناء.. ولأم بياتريس تأثير كبير على حياتها الموسيقية. إذ سرعان ما لاحظت. مع زوجها، ميل الابنة الى الموسيقى وحفظها للاغاني والالحان بسرعة مذهلة.
وكانت قد اصبحت في الخامسة من عمرها وبدأ التفكير في ادخالها الى المدسة، وكان لا بد من الاختيار الجيد، إذ لابد ان يقع الاختيار على مدرسة تعطي حصصاً في الموسيقى اضافة الى الحصص التعليمية الاخرى.. فوقع الاختيار على مدرسة "الراهبات" في منطقة "عقد النصارى" ببغداد.
فأخذتها الأم من يدها، ووقفت امام "الأم" الكبيرة، ترجوها في ان تكون ابنتها ضمن الطالبات اللواتي يتلقين الدروس الموسيقية، وبعد اطلاع الراهبات على اذنها الموسيقية المرهفة تم قبولها.. وكانت اصغر طفلة تقبل في حصة الموسيقى.
وبدأت بياتريس، وهي طفلة في الخامسة من عمرها، تتعلم دروس العزف على آلة البيانو.. الآلة التي سترافقها في رحلة عمرها الفني.
في تلك السنين البعيدة.. من سنوات بغداد القديمة، لم تكن في بيوتها اجهزة التسجيل او الراديو كما هي الحال الآن.. والسعيد الغني الذي كان يملك جهاز "الكرامافون" باسطواناته الضخمة وبوقه الكبير، وكان بيت السيد اوهانيسيان يخلو من هذا الجاهز ايضاً.. ومن آلة البيانو، آلة بياتريس المفضلة، فكانت الطفلة مضطرة ان تسمع الموسيقى في المدرسة فقط، وان تحفظها عن ظهر قلب، كي تكون جاهزة في اليوم التالي لتقديم ما تعلمته الى المعلمة الراهبة.
وبعد ثلاث سنوات، بعد ان رأى الوالدان تقدم ابنتهما السريع في العزف وشدة ميلها الى هذه الآلة، قررا ان يشتريا لها آلة مهما كلفهما الأمر، وبعد بحث طويل، سمعا بوجود الآلة في احد المحلات.. فاشترياها بمبلغ ثلاثين ديناراً.. وهو مبلغ ضخم بحساب تلك الايام، اقتطعه الوالد من راتبه الضئيل، ومن افواه اسرته..
ولا يمكن وصف سعادة بياتريس عندما رأت البيانو يدخل الدار ويأخذ مكانا بارزا فيها. بامكانها الان ان تحضر دروسها الموسيقية في البيت، وتقوم بالتمارين وقتما تشاء.
في معهد الفنون الجميلة
في بدايات عام 1940 تم فتح قسم الموسيقى الغربية "الكلاسيكية" في معهد الفنون الجميلة ببغداد، بمبادرة من الاستاذ "شريف يحيى الدين الحيدر" الذي اصبح رئيساً للقسم، وبمساعدة استاذين من رومانيا هما "جوليان هيرتس" عازف البيانو ، و"ساندر البو" عازف الكمان، وعندما طرق هذا الخبر سمع والدي بياتريس، قررا ان يعملا على ادخال ابنتهما الى المعهد، فاخذاها الى هناك.. وامام لجنة الفحص المتكونة من شريف يحيى الدين الحيدر.. والاستاذين الرومانيين، والاستاذ حنا بطرس "سكرتير القسم، وقفت بياتريس ابنة الحادية عشرة مرتبكة لا تنطق بحرف.
اعترض اعضاء اللجنة على قبولها لصغر سنها، وافهموا والداها ان يأتي بها في الاعوام القادمة، غير ان الاستاذ "حنا بطرس" هو اول من قال (دعونا نسمع عزفها.. من يدري.. قد تنجح).
فجلست بياتريس امام البيانو.. وباصابعها الصغيرة الناعمة.. عزفت قطعة كانت قد تمرنت عليها كثيراً.. ولم يتمالك الاستاذ جوليان هيرتس نفسه، قفز من مقعده صائحا، (انها المعجزة .. طفلة غير عادية)..
وتم قبولها في المعهد وكانت اصغر طالبة فيه.. تعتبر الاربعينات من التواريخ اللامعة في مسيرة معهد الفنون الجميلة.. فلقد تخرج فيه خيرة الطلبة الذين يحتلون الآن مقاعد مهمة وبارزة سواء في الفن او في نواحي الحياة الاخرى.. فالعوائل البغدادية – وخاصة العوائل المعروفة.. كانت ترسل ابناءها وبناتها الى المعهد لتعلم الموسيقى وبين الطلبة كانت توجد سيدات متزوجات يذهبن الى المعهد مع اطفالهن والان تستطيع ان تلقى في العراق اطباء وجراحين مشهورين، كانوا في الاربعينات من المع الطلبة في الموسيقى.
تتذكرهم بياتريس واحدا واحداً.. ويعتقد انهم لو اكملوا طريق الفن، لكانوا الان من اكثر فناني العراق شهرة وعطاء..
كانت الدراسة في المعهد مساء وكانت البناية تقع في "عقد النصارى" وبعد اشهر قليلة من انتماء بياتريس اليه انتقلت الى منطقة "البتاوين" وفي ذلك الزمان.. لم تكن وسائط النقل متوفرة كما هي عليه الآن.. ومعظم الشوارع في بغداد لم تكن مبلطة بالقير.. فكانت الطفلة مضطرة ان تذهب وتأتي مشياً على قدميها في اكثر الايام تحت وابل المطر وبرد الشتاء.. موغلة في الطين والاوحال.. مسببة الازعاج لاخيها او والدها اللذين كانا يرافقانها بالتناوب دائماً من البيت الى المعهد ثم الذهاب ثانية للعودة بها.. كانت ليالي قاسية لشتاء بغداد، المدرسة التي سترفع اسمها في المحافل الدولية مستقبلاً.
في دار الاذاعة العراقية ..
الضوء الاحمر يعني ان تكوني مستعدة .. الضوء الاخضر.. يعني ان تبدأي بالعزف تعليمات المخرج للطفلة بياتريس اوهانيسيان، عندما بدأت تعزف من "دار الاذاعة العراقية" لأول مرة.
جاء طلب الى معهد الفنون الجميلة، بتقديم المع الطلبة فيه بعض المعزوفات من دار الاذاعة ولم يتردد استاذها جوليان هيرتس من تقديمها.. وكان البث حياً مباشرة.
استمع المستمع صوتاص رخيماً لآلة البيانو تعزف بعض المقطوعات لشوبان وبيتهوفن تقوم بعزفها طفلة تدعى بياتريس اوهانيسيان، ولم يدر يخلد هذا المستمع ان الطفلة كانت ترتجف من قمة رأسها الى اخمص قدميها من الخوف والرهبة داخل الاستديو.. عندما كانت ترى الضوء الاحمر والاخضر ووجوه المخرجين ومهندسي الصوت من وراء الزجاج السميك!!.
ونستطيع الان ان نقرأ في سجلات الاذاعة، ان طفلة تدعى بياتريس اوهانيسيان عزفت الكثير من المقطوعات لكبار المؤلفين ما بين عامي 1941-1942.
** في السنة الدراسية 1946-1947 تخرجت بياتريس اوهانيسيان في معهد الفنون الجميلة بدرجة ممتازة، وتعينت – كمستخدمة – في المعهد نفسه لتدريس العزف على آلة البيانو.
امام الجمهور .. لأول مرة
خارج نطاق الحفلات الصغيرة التي كانت تقام في اروقة المعهد.. وخارج نطاق ما قدمت من دار الاذاعة العراقية.. لم يسبق لبياتريس اوهانيسيان ان وقفت امام الجمهور في حفلة رسمية.. تدبرها وحدها.. وانتها دعوى من المعهد الثقافي البريطاني في بغداد لتقديم حفلة موسيقية لمدة ساعتين.. ولم تتردد.. انها فرصتها لتجرب نفسها في احتكاك مباشر مع الجمهور..
كانت قاعدة المعهد فسيحة.. امتلأت بالجمهور العراقي والاجنبي من بداية المسرح الى ما وراء الباب الرئيس.
وبكل ثقة بدأت اناملها الذهبية تتحرك على المفاتيح السوداء.. منتزعة منها الحاناً لم يصدق الجمهور انها تصدر عن انامل شابة عراقية تقف امامهم لأول مرة.!
مجلة الاذاعة والتلفزيون
1978