صنع الله إبراهيم: الرواية كذبة

صنع الله إبراهيم: الرواية كذبة

محمد شعير
كاتب مصري
في موسكو تعرَّف صنع الله إبراهيم على رسامة من باكو تسمى جيولا آزيم زاده، كانت تدرس معه السينما، رسمت له «بورتريهين». الأول وردي اللون، كانت تبحث ـ حسب تعبير المخرج السوري محمد ملص - في وجه صنع الله عن لحظة معينة بدت في هذا البورتريه لحظة غائرة في الشفافية العميقة المعذبة. بدأ صنع الله فتيا ذا إرادة لم تهن بعد وفي عينيه حزن يصعب وصفه. أما البورتريه الثاني الذي رسمته له كان باللون الأزرق،

وقد بدأ أكثر عمرا مما هو عليه، ورغم تثبيتها لحزن عينيه فقد بدا مشمئزا، يلقي على العالم نظرة مشبعة باللاجدوى والاحتقار. ربما تصلح هذه الصورة العميقة التي مضى عليها ما يقرب من نصف قرن لصنع الله في هذه اللحظة أيضا: شفافية عميقة معذبة.. ونظرة مشبعة باللاجدوى تجاه العالم.. واحتقار له!
في عام 1964 خرج صنع الله إبراهيم من السجن، بعدما قضى خمس سنوات، في تجربة اعتبرها في ما بعد «أخطر وأهم تجربة في حياتي، فقد كان عمري حينها 20 عاما وكان حولي ناس عظام، لهم تاريخ عظيم، سواء كانوا عمالا أو فلاحين، أو اساتذة جامعة، أو صحافيين أو فنانين، وكان هذا مثيرا جدا ولكن الأكثر إثارة ما تعرضت له شخصيا». في السجن كان في «كلابش» واحد مع شهدي عطية الشافعي، تعرضا للتعذيب، ومات شهدي.. كانت الصدمة الأولى في حياة صنع الله.. الذي اكتشف مع هذه التجربة أن «الكتابة» قد تكون شكلا من أشكال التعبير: «وبدأت أشعر أني سأكون أكثر حرية لو كتبت فأقول أشياء لا يستطيع الإنسان أن يقولها، وكان في ذهني أن أحكي لحظة بلحظة عندما مات شهدي عطية وبدأت أفكر أن ممارسة الكتابة هي الشيء الذي يمكن أن أركز عليه».. وكتب صنع الله.. يوميات صغيرة حول موضوع واحد.. هو الكتابة نفسها: ماذا تعني.. كيف يعبر؟ كيف يعبر؟ يقول: سجلت على ورق السجائر الخفيف (البفرة) الأسئلة التي اعترضتني حينئذ، وهي التي تعرض للكاتب عادة في بداية عمله وتستمر معه - في الواقع - طيلة العمر. دونت خواطري ومشروعات القصص التي أنوي كتابتها ومقتطفات من قراءات مختلفة، وتعليقات على بعضها. واحتلت الكتابة ومشاكلها ودور الكاتب والمدارس الفنية والأقوال المتضاربة بشأن كل ذلك جانبا هاما من هذه المدونات.
بعد الافراج كتب روايته الأولى «تلك الرائحة"التي صدرتها بمقتطف لجيمس جويس «أنا ابن هذا المجتمع وابن هذه الحياة وسأعبر عن نفسي كما أنا».. كان هذه المقتطف شعاره في الحياة في ذلك الوقت، أثارت الرواية ضجة ليس فقط سياسية وفنية بل عائلية أيضا.
السينمائي والروائي
ولم يكن أمام صنع الله سوى الخروج عن مصر بعد قصة حب فاشلة.. سافر إلى ألمانيا، وعمل صحافيا في وكالة الصحافة الألمانية حكى الوقائع في أحدث رواياته (برلين 69).. الصادرة مؤخرا... ثم قرر السفر إلى موسكو.. لدراسة السينما. كان استاذه المخرج الروسي تالانكين، وهو أستاذ محمد ملص أيضا. أدرك تالاكين بعد اللقاء الأول مع صنع أنه «من الصعب تحويل هذا الكاتب إلى سينمائي، بل أن تكون السينما في نسيج تجربته الأدبية».. يحكي ملص تفاصيل هذه التجربة في كتابه الفاتن (مذاق البلح). في موسكو، بدأ صنع يغرق في قراءة الصحف المصرية وقصقصة أوراقها في إطار مشروع روائي قال عنه انه «مفكرة مصر».. كان هذا مشروع روايته (ذات) التي حاول فيها أن يبحث عبر هذه الرواية عن شكل جديد يقول من خلاله: «هذا هو عبد الناصر وهذا هو السادات وهذا هو علي صبري. وان احكي سيرة هذه المؤامرة الطويلة».. عبد الناصر بالنسبة له شخصية روائية، أو بطل من أبطال رواياته المؤجلة: «تستهويني عذابات عبد الناصر الداخلية والوجدانية، والسلطة عنده وحب الذات لقد صاغ بجهود كبيرة وصنّع عملية اهتمام الناس به، ليعيش لذة هذا التعلق، لقد كان سعيدا بزعامته». المدهش، أن صنع الله في فترة سجنه وما قبلها كان في تنظيم حدتو الذي كان يؤيد عبد الناصر تأييدا كاملا: «فقد كنت في السجن بواسطة نظام أؤيده تأييداً كاملا ومع ذلك يرتكب هذا النظام فظائع التعذيب وغيرها، وفي سنة 1960 كان هناك حملة بشعة في الجرائد تطالب بقتل الشيوعيين، وكان تأثير هذا نوعا من التناقض الواضح بين أن هناك نظاما يرتكب كل هذه الجرائم ومن ناحية أخرى يقوم بأشياء رائعة من بناء للسد العالي وباندونغ وعدم الانحياز.. الخ، وكان السؤال لماذا يمكن أن يحدث هذا؟"ربما أجاب صنع الله عن هذا السؤال في روايته «نجمة أغسطس» (1974) التي تناولت التناقض بين صورة بناء السد العالي المرسومة في وسائل الإعلام والواقع القمعي اللا إنساني في مكان البناء. وأبرزت أوجه الشبه بين جمال عبد الناصر والملك الفرعوني رمسيس الثاني، الذي بنى معبد أبو سمبل. إذ شيّد كلّ منهما لنفسه نصباً تذكارياً عبر أعمال بناء ضخمة.
)مفكرة مصر) لم يكن مشروع رواية واحدة من مشروعات صنع الله، بل يمكن القول إن مشروعه الروائي كله قائم على تلك الفكرة، اللجنة، ثم ذات، شرف.. وغيرها: «كنت أبحث عن شكل روائي وجدته في الصحف فمنذ أيام المراهقة كنت أهوى تقطيع صور الممثلات من الجرائد وكان يحدث أنه في خلف هذه الصور موضوعات سياسية، ومع تطور وعيي بدأت أهتم بالموضوعات السياسية وشعرت أنه من الممكن عمل خريطة فنية من موضوعات الجرائد بحيث تعبر عن الواقع الموجود» ولكن هل يصبح مؤرخاً.. لا يُجيب: الرواية كذبة، أنا أحكي حكايات حكاية مؤلفة ومتخيلة، ومن حقي أن أستخدم كجزء من هذا البناء تفاصيل حقيقية في الحياة والتاريخ والجغرافيا وأي مجال، هذا يغني عملية التخييل، عملية الكذب التي تتم، وفي الوقت نفسه يجب ألا تؤخذ ككتاب تاريخ، لأن التاريخ مجال آخر، التاريخ علم، يمكن أن نختلف حول صدق هذا التاريخ أو عدم دقته، لكنه مجال فيه تطور وأبحاث وإضافات وخلافات وتفسيرات.. إلخ، الرواية مجال إمتاع، أنا أمتعك بأن أحكي لك حكاية، ومن حقي أن أستخدم مادة معينة، وهذا ما يجعلني مختلفاً عن أي روائي آخر.
رفض الجائزة
وبالتأكيد أية مقاربة لحياة صنع الله، فلا يمكن لأحد نسيان هذا المشهد، يصعد إلى منصة المسرح الصغير بدار الأوبرا، يصافح المسؤولين وأعضاء لجنة التحكيم. ويتسلم جائزة الرواية (التمثال والشيك) يُلقيهما على المنصة بلا اكتراث.. ويبدأ في الحديث: لا يراودني شك في أن كل مصري يدرك هنا في هذه القاعة حجم المأساة المحدقة بنا جميعاً، ولا سيما في سياسة حكومتنا الخارجية، ولم يعد لدينا مربع واحد ولا متر لم يدنسه الأعداء.. لم يعد لدينا مسرح أو سينما أو بحث علمي أو تعليم... لدينا فقط مهرجانات ومؤتمرات... وصندوق أكاذيب... لم تعد لدينا صناعة أو زراعة أو صحة أو عدل... تفشي الفساد والنهب ومن يعترض يتعرض للامتهان والضرب والتعذيب... انتزعت القِلة المستغِلة منا الروح... الواقع مرعب.
يحلم صنع الله بكتابة رواية عن الفراعنة، رواية حب لهم. قال لمحمد ملص في أوائل السبعينيات: سأكتب ثلاثية روائية عن الطفولة، ثم رواية عن ألمانيا، ورواية أخرى عن الاتحاد السوفياتي... بعد ذلك سأبدأ التاريخ برواية عن المتنبي، أما الذروة فهي رواية «النبي» التي ستكون الرواية الوحيدة التي تمزج بين الرواية والقصيدة، والبنية بلغة الشعر القرآني. رواية «النبي» ستكون رواية السياسة والسلطة والمرأة والجنس... خاتمة الروايات هي «الاستعراض الأخير"وهي عن الجسم الإنساني.. بعدها سأنتحر (هذه هي حياتي يا محمد)!
عن جريدة السفير اللبنانية