انتخابات 1954، وكيف اجهضت السلطة فوز الجبهة   الوطنية بحل المجلس النيابي

انتخابات 1954، وكيف اجهضت السلطة فوز الجبهة الوطنية بحل المجلس النيابي

د . فاضل محمد رضا
ان توحيد الجهود الوطنية التي تكللت بفوز الجبهة الوطنية في انتخابات حزيران 1954 ببعض المقاعد النيابية أقلقت الفئة الحاكمة ولاسيّما بعد أنْ برزت على أنها جبهة موحدة في الانتخابات النيابية، جعل البلاط يعيد النظر في حساباته اتجاه تعاظم قوة المعارضة الوطنية التي اصبحت تشكل خطراً كبيراً يهدّد كيان المملكة,

اذا ما استثمر في مجلس النواب هذا من جهة. ومن جهة أخرى حرصت القوى الاستعمارية على استمرار امتيازاتها في العراق مما جعلها تفكر ببدائل تضمن فيها مصالحها نظراً لقرب انتهاء معاهدة 1930، في الوقت الذي التقت فيه المصالح الامريكية -البريطانية على تطويق الاتحاد السوفيتي لمنع انتشار الشيوعية في الشرق الأوسط، ونظراً لتصاعد المدّ الوطني الذي شكّل خطراً على المصالح الاستعمارية في البلاد، وجدت القوى الاستعمارية نوري السعيد هو الشخص الملائم لحماية مصالحها, وتنفيذ مخططاتها، فاوعزت الحكومة البريطانية إلى عبد الاله بضرورة تدارك الموقف مع نوري السعيد مما جعله متراجعاً عن موقفه في اقصاء نوري السعيد.
وبعد ظهور نتائج الانتخابات التي حصل فيها حزب الاتحاد الدستوري على (51) مقعدا في المجلس النيابي، طرح نوري السعيد تصوراته بشأن تشكيل الوزارة الجديدة مؤكداً على ضرورة ضمانها لثقة العرش بشكل لا تشوبه شائبة وتأييد اكثرية المجلس النيابي لها حتى تستطيع من الإصلاح في الداخل, وتركيز علاقاتها الخارجية، مشيراً إلى انه في السنتين الاخيرتين لم يحصل على ثقة العرش على الرغم من حصوله على اغلبية نيابية مرجحاً تولّي رئاسة الوزراء من هو اكثر منه اعتماداً لدى العرش متذرعاً بمرضه.
أرسل عبد الإله فاضل الجمالي إلى لندن في 23 حزيران 1954 للقاء نوري السعيد, والتباحث معه بشأن الاوضاع السياسية التي اعقبت الانتخابات النيابية، الا انه ابلغه امتعاضه من نتائج الانتخابات, لأنها لم تجر على الاسس الصحيحة، ورغبته عن تحمّل المسؤولية مع وجود مجلس يضمّ عناصر ستسعى إلى إعاقة عمل الوزارة أمثال كامل الجادرجي، وأشار الجمالي الى صعوبة التاثير على نوري السعيد لتغيير رأيهُ في تولي المسؤولية. وبعد أن اطلع البلاط على رأي نوري السعيد أجرى اتصالاته مع بعض السياسيين للوقوف على آرائهم في كيفية معالجة تنامي قوة الحركة الوطنية المعارضة له, التي ظهرت في الانتخابات الاخيرة.
رأى توفيق السويدي أن الحكومة تحتاج إلى اجراء اصلاحات شاملة تنسجم وتطلعات القوى السياسية الجديدة وأن استعمال الأساليب البوليسيه لا تجدي نفعا في محاربة معارضيها، مقترحاً تأليف حزب باسم (حزب الاتحاد القومي) يضم القوى اليمينة ويرمي إلى هدف توحيد جهود القوميين في الوقوف ضد الشيوعية والقيام باصلاحات قومية عصرية, ويكون سنداً شعبياً للحكومة تموله، الا انّ نوري السعيد انتقد افكار السويدي متهماً اياه بأنه يريد الوصول إلى السلطة. وكان رأي ارشد العمري ضرورة تأليف حكومة قوية برئاسة نوري السعيد تحضى بدعم الأحزاب اليمنية, والمستقليين في مجلس النواب. للوقوف بوجه العناصر الوطنية, والحدّ من خطر تهديدها للمملكة، وإعادة الاستقرار للبلاد، مؤكداً استمرار وزارته حتى تأليف وزارة جديدة برئاسة نوري السعيد، واجرى عبد الإله مشاوراته مع اللجنة المركزية لحزب الاتحاد الدستوري, وعرض على ممثلها خليل كنه تأليف وزارة انتقالية حتى يعود نوري السعيد, ليشكل الحكومة الا أنّه رفض ذلك العرض.
لقد تضافرت اسباب متعددة دفعت عبد الإله يسعى لإسترضاء نوري السعيد وتكليفه بتشكيل الوزارة، على الرغم من توتر العلاقة بينهما بسبب اعتزاز كل منهما برأيه , الا أنّ ولاء نوري السعيد للعرش الملكيّ ظل ثابتاً, ولم يتغير. وبعد وساطة الامير زيد اقتنع نوري السعيد بلقاء عبد الإله, فسافر عبد الإله سراً إلى باريس, واجتمع ونوري السعيد مبدياً له رغبته في تأليفه الوزارة لايجاد شيء من الاستقرار. فيما اكد نوري السعيد على أن الاستقرار لا يتم الا بالتعاون التام بين العرش والحكومة ومجلس الامة مشيراً إلى عدم وجود اكثرية تساند الحكومة في المجلس الجديد، إذّ لا يملك حزبه اكثر من (54) نائبا وقد ينضمّ اليهم نحو (12- 14) نائباً من المستقلين، في حين توقع ان ينضمّ إلى الجبهة الوطنية (15) نائباً من المستقلين فيصبح عددها (28) نائباً، وفي حال اتفاق حزب الأُمة الاشتراكي معها، وانضمام (12) نائباً من النواب المستوزرين و(8) نواب من المتذبذبين اليها، تصبح قادرة على إعاقة عمل الحكومة، وبذلك تحول دون إصدار أي تشريع في المجلس. وقد حاول عبد الإله طمأنة نوري السعيد بأن عدد النواب الموالين إلى الحكومة يبلغ (85) نائباً،ولطمأنة نوري السعيد اكثر أبرق عبد الإله الي احمد مختار بابان طالباً منه الحضور إلى باريس، إذّ اكّد لنوري السعيد بان عدد المؤازرين للحكومة يصل إلى (91) نائبا.

حل المجلس النيابي:
وبعد انتهاء المداولات اتفق على قيام حكومة ارشد العمري بدعوة مجلس النواب لعقد اجتماع غير الاعتيادي, وانتخاب ديوان الرئاسة, ثم تأجيل الاجتماع إلى حين ابتداء دورته الاعتيادية، وقد رشح نوري السعيد عبد الوهاب مرجان لرئاسة المجلس، وعز الدين الملا نائباً أولاً, واحمد العامر, أو طارق العسكري نائباً ثانياً، وذلك لمعرفة عدد المؤازرين له من الاصوات التي سيحصل عليها ديوان الرئاسة، وعند التصويت حصل عبد الوهاب مرجان على (80) صوتاً، من اصل (112) صوت, وظهرت (32) ورقة بيضاء، واحرز عز الدين الملا (73) صوتاً، واحرز طارق العسكري (75) صوتاً، ومن عدد الاصوات اتضح ان الاكثرية في المجلس موالية إلى الحكومة، الا أنّ هذه الاكثرية لم تمثل عامل استقرار إلى نوري السعيد لأنّه يحتوي على عناصر وطنية تمثل عامل قلق له، خصوصاً بعد ان تقدم عشرة نواب ببيان إلى رئيس المجلس أعلنوا فيه تشكيل كتلة برلمانية على وفق مبادئ ميثاق الجبهة الوطنية. فاشترط على عبد الإله حلّ المجلس, وإجراء انتخابات جديدة يضمن فيها وصول العناصر المؤازرة له. وعبثاً حاول عبد الإله وأحمد مختار بابان من اقناع نوري السعيد بالتريث في حل المجلس, لا حتوائه على نسبة جيدة من مؤيدي البلاط، واقترحوا ان يؤجل اجتماع المجلس لمدة شهر واحد, ومن ثم يحلّ بعده، وذلك للحفاظ على هيبة البلاط امام مؤيديه، الا انه أصرّ على حلّ المجلس، فاذعن عبد الإله إلى الامر الواقع معلناً استسلامه لمطالب نوري السعيد.
صدرت الارادة الملكية بتعطيل المجلس النيابي ابتداء من 27 تموز حتى نهاية تشرين الثاني بحسب الاتفاق بين عبد الإله ونوري السعيد في باريس، وجاء هذا التعطيل بناء على رغبة نوري السعيد في حل المجلس وإبعاد العناصر المستقلة المؤيدة إلى البلاط الملكي, والمجيء باكثرية مؤيدة له، فضلاً عن رغبته في التخلص من العناصر الوطنية التي تشكل مصدر قلق له وتحول دون تمرير المشاريع البريطانية التي اناطت الدوائر البريطانية مسؤولية تنفيذها به.
وفي 29 تموز 1954 رجع نوري السعيد إلى بغداد وبدأ اتصالاته بالسياسيين لاختيار تشكيلة وزارته الجديدة، ثم رفع كتاباً إلى الملك بتاريخ 31 تموز 1954 اوضح فيه المرتكزات الأساسية التي سيعمل عليها في سياسته الخارجية والداخلية فركز في سياسته الخارجية على إنهاء معاهدة 1930، والانسجام مع التطورات الدولية، التي لها الاثر في سياسة البلاد كالاتفاق الباكستاني- التركي، والمصري- البريطاني، وتعزيز العلاقات مع دول الجوار، وتوثيق علاقات الصداقة, والاخوة مع البلاد العربية، وتعزيز التعاون لدفع الخطر الصهيوني، أما في السياسة الداخلية فقد اكد على أهمية تطهير جهاز الدولة من العناصر الهدّامة والفاسدة والعاجزة، وتعزيز الروح الوطنية بين المواطنين، وإعادة النظر في قوانين الضرائب, والرسوم, والارض, لتحقيق العدالة الاجتماعية، وتطوير الزراعة والصناعة بما يساير التقدم العالمي، ورفع المستوى المهني والمعيشي للعمال.
ورأى السعيد أن تنفيذ هذه الامور يتطلب وجود استقرار سياسي, وتعاون وثيق بين الشعب, والحكومة، وهذا يستلزم الرجوع إلى الشعب للوقوف على رأيه الصريح من طريق اجراء استفتاء عام من خلال حل المجلس وإجراء انتخابات جديدة. أيد الملك ذلك, واصدر ارادته الملكية بحل المجلس في 3 اب 1954.
وفي اليوم نفسه الذي حُلّ فيه المجلس، صدرت الإرادة الملكية بتكليف نوري السعيد لتأليف وزارته الجديدة، ولما كان نوري السعيد على علم بجسامة التطورات السياسية العالمية الجديدة في اثناء وجوده خارج البلاد، كان يمنّي نفسه بتعطيل الأحزاب السياسية القائمة, حتى ينفذ خططه بهدوء، ولاجل ذلك ابتدأ بنفسه فاصدر بياناً عطل فيه (حزب الاتحاد الدستوري) الذي كان يرأسهُ، زاعماً أن قيامه باجراء انتخابات نيابية جديد يسودها جو من الحرية، يمارس فيها المواطنون حقوقهم الكاملة سواء كانوا أحزاب أم جماعات, ولاجل ان يفسح لهم المجال من غير ان ينافس أحداً, أتفق مع اعضاء حزبه على حلّه، إلا أنّ الواقع اكّد خلاف ذلك, فقد ضمن نوري السعيد لاعضاء حزبه مقاعدهم في المجلس القادم، وأن الغاية الحقيقة من هذا الإجراء هو خطوة استباقيه لحل الأحزاب القائمة مبتدأً بنفسه.
انتقدت الأحزاب السياسية نوري السعيد لقيامه بحل المجلس على الرغم من انتقاداتها لاجراءات الحكومة في الانتخابات السابقة التي جاءت بمجلس مزيّف, لا يمثل ارادة الامة بحسب اعتقادها، إلا أنّها لم تؤيّد حلّه, وإجراء انتخابات جديدة لأنّها تعرف نوايا نوري السعيد مسبقاً, وعَدّ الحزب الوطني الديمقراطي حلّ المجلس واجراء انتخابات جديدة لا يتعدّى الرغبة الشخصية لنوري السعيد في ضمان الاكثرية النيابية الموالية له شخصياً في المجلس الجديد، ومن هنا استطاع تنفيذ المشاريع الاستعمارية التي تعهّد بتنفيذها للقوى الاستعمارية. وذكر الحزب بسياسة نوري السعيد في حلّ المجالس السابقة التي كان في اثنائها يّدعي استفتاء الأُمة للوقوف على رأيها في المشاريع المهمة, وهو يقصد من ذلك اضفاء الشرعية على القرارات التي يتخذها لتنفيذ المشاريع الاستعمارية، وفي الوقت نفسه يقوم بتزييف الانتخابات ليضمن من يؤيده في تنفيذ مخططاته ، وحذر الحزب الوطني نوري السعيد من وعي الأُمة, وأنّ الامور قد تغيرت، وأصبح الشعب مدركاً حقه في الحكم, ولن يتردد في محاسبة الحاكمين على اعمالهم، وكتبت جريدة صوت الأهالي مقالاً بعنوان (( وزارة نوري السعيد)) اشارت فيها إلى نوايا نوري السعيد في حلّ المجلس وبقية الاجراءات التي سيعمل عليها في التمهيد لتنفيذ المشاريع الاستعمارية وذكرته بتجاربه الطويلة التي لم يتعض منها, وكتبت في مقالة أخرى بعنوان (( للشعب حقوق لا يتنازل عنها وواجبات سوف يؤديها مهما كان الثمن)) حذّرت نوري السعيد من غمط حقوق الشعب وأول هذه الحقوق حقّه في حكم نفسه بنفسه, وطالبت باطلاق الحريات الديمقراطية التي ضمنها الدستور.
وانتقد حزب الاستقلال خطوة نوري السعيد بحلّ المجلس ووصفها بأنّها غير دستورية, لان المجلس الجديد لم ينعقد ولم يتضح اتجاهه بعد, حتى تتذرع الحكومة بعدم التعاون معه فضلاً عن أنّ الحكومة الجديدة لم تطرح عليه برنامجاً حتى يتضح موقفه منها، إلا ان الحكم السابق لنوري السعيد على المجلس الجديد هو جزء من سياسة قديمة اتبعها مع المجالس المنصرمة، فما بالك مع المجلس الذي يضمّ اشد مناوئيه من السياسيين الكبار.
أصدر الحزب الشيوعي بياناً أشار فيه إلى أن عودة نوري السعيد إلى السلطة هو انعكاس لنتائج الاتفاق الانجلو- امريكي في السياسة الدولية، متهماً نوري السعيد بالعمل على ابقاء معاهدة 1930 التي ناضل الشعب العراقي لإلغائها، داعياً إلى تأليف جبهة وطنية موحّدة تضمُّ جميع القوى السياسية المناؤة إلى الاستعمار, والرجعية؛ للوقوف ضدّ مخططات السعيد, وافشال مؤامرته في ربط العراق بالحلف التركي- الباكستاني، داعياً الشعب, والقوى السياسية إلى اسقاط وزارته.
وانتقد صالح جبر رئيس حزب الأُمة الاشتراكي حلّ المجلس, إذ ارجع سبب حل المجلس إلى رغبة نوري السعيد الشخصية في استبعاد الشخصيات الوطنية المعارضة له في المجلس وعدّ هذا الحل ليس في مصلحة الحكومة ولا في مصلحة البلاد, لأن المجلس المنحل ضم في تشكيلته جميع الأحزاب السياسية, وإن كانت بنسبة قليلة إلى جانب اكثرية مستقلة مرتبطة بالبلاط الملكي, ولو امكن الاستفادة منها في ايجاد نوع من التعاون, وخلق جو جديد للحياة النيابية؛ لأعطى دلالات كثيرة، مبدلاً نظرة الامة للمجالس النيابية, ولساعد على تحقيق الاستقرار في البلد، لأنّ هذه الأحزاب تقف موقفا سلبياً من السلطة لأنها بعيدة من المجلس النيابي وباشتراكها في المجالس تتطور مع الزمن نحو الايجابية, والاعتدال مما يؤدي إلى انتقال الخلاف القائم بينها وبين السلطة من الشارع إلى مجلس النواب فيتحول إلى نقاش علمي, وموضوعي يساعد على امتصاص نقمة الشعب, واصلاح البلد. مشيرا إلى ان حجّة نوري سعيد بالوقوف على رأي الامة في حل المجلس واجراء انتخابات جديدة غير منطقية قبل ان تعرف الامة ما القضايا التي يريد الاستفتاء بشأنها لكي يجري الانتخاب بعد مصارحتها وليس قبل ذلك.
مواقف الأحزاب السياسية من الانتخابات
ولما كان الغرض من حلّ المجلس واضحاً فلا بد ان تكون النتيجة اوضح. وعلى هذا شرعت وزارة الداخلية في اصدار اوامرها إلى الالوية كافة بالشروع في الانتخابات وحددت يوم 12 ايلول 1954 موعداً للبدء بها. فكانت مواقف الأحزاب السياسية من الانتخابات الجديدة متباينة، فقد قرر حزب الاستقلال المشاركة فيها واصدر بياناً في 18 اب 1954 اوضح فيه منهاجه الانتخابي مؤكّداً على اطلاق الحريات الديمقراطية, والدفاع عن حرية الانتخابات، مطالباً الغاء معاهدة 1930 وامتيازات الشركات الاحتكارية رافضاً المساعدات الامريكية متضامناً مع الشعوب العربية الساعية إلى نيل الاستقلال. مبيناً الاسباب التي دعته إلى المشاركة في الانتخابات واصفاً المجلس النيابي بإحدى ساحات الكفاح التي منها يسعى إلى تحقيق مبادئه واهدافه فضلا عن أنّه منبر يدلي فيه بارائه في القضايا العامة التي تتعلق بمصير الشعب ومصالحه، وان المعركة الانتخابية من السبٌل التي تتيح له ممارسة نشاطه في اثناء اللقاء بناخبيه ومؤازريه، فضلاً عن أنها تعزز ثقة الجماهير به وتسمح له نشر افكاره، وعدّ حديث النائب في المجلس النيابي خطاباً يخاطب فيه ضمير الشعب اكثر مما يخاطب عقول الحاكمين، وإنّ العناء الذي يلقاه في المعركة الانتخابية هو جزء من نضاله في توطيد دعائم الديمقراطية. وفي الوقت نفسه دعا إلى ضمان حرية الانتخابات, مؤكداً على ضرورة إلتزام الحكومة جانب الحياد, وافساح المجال للمرشحين بعقد الاجتماعات الانتخابية للتعبير عن آرائهم وخططهم ومناهجهم بكل حريّة، وطالب تطهير الجهاز الاداري المشرف على الانتخابات من المتلاعبين والفاسدين الذين عمدوا إلى تزييف الانتخابات سابقاً، وحثّ الجماهير على التمسّك بحقوقهم الديمقراطية.
أعلن الحزبُ الوطني الديمقراطي مقاطعته للانتخابات واصدر بياناً اشار فيه الى شكل المجلس الذي يرغب نوري سعيد في تشكيله، واصفاً الانتخابات بانها ستكون اشد ارهاباً, واكثر تزييفاً. وابعد من تمثيل ارادة الامة، وإن الانتخابات التي يسعى نوري السعيد إلى اجرائها ليأتي بمجلس يضمن فيه اقرار المشاريع الاستعمارية بلا معارضة. لذا قرر الحزب المقاطعة ودعا الشعب إلى مقاطعة الانتخابات لكيلا يتحمل مسؤولية الاتفاقات التي يريد السعيد ابرامها عللّت جريدة صوت الاهالي المقاطعة بعدم حدوث تغيير في الانتخابات القادمة لا من حيث المضمون, ولا من حيث الشكل عن الانتخابات السابقة وَعدّت الاشتراك فيها بلا ضمان حرية الناخب والمنتخب ليس سوى الاشتراك في مسرحية مزيّفة. وأشارت الى أن اشتراك الحزب الوطني الديمقراطي يعطي شرعية للمجلس الجديد في حين أن عدم الاشتراك يجرّد المجلس من الشرعية إذا أخذ بالحساب المهام التي أناطتها به الدوائر الاستعمارية، وَعدّت المقاطعة ليس بالامر السلبي في الوقت الذي زيّفت الفئة الحاكمة الوسائل الديمقراطية للوصول إلى مآربها، وعلى الرغم من المقاطعة دعت الشعب لمراقبة العملية الانتخابية, وفضح التزييف الذي يقع فيها.
اما حزب الأمة الاشتراكي فقد تعرض إلى انشقاق داخلي نتج عنه اتجاهين الأول مثله توفيق وهبي النائب الثاني لرئيس الحزب وعدد من انصاره, ودعا إلى حلّ الحزب والاشتراك في الانتخابات بشكل منفرد، أما الاتجاه الثاني الذي مثله عبد المهدي المنتفكي وعدد من انصاره فدعا إلى مقاطعة الانتخابات، في الوقت الذي كان رئيس الحزب صالح جبر خارج العراق مما استدعى عودته على وجه السرعة والاجتماع بالهيئة العليا للحزب, واتخاذ قرار بفصل توفيق وهبي وانصاره، واصدار بيان اعلن فيه مقاطعة الانتخابات لاعتقاده بان الوزارة غير حيادية وغايتها من حل المجلس لم يكن استفتاء الشعب بل للتخلص من المعارضة الوطنية الموجودة في مجلس النواب. وفي السياق نفسه كان صالح جبر يميل إلى تجميد الحزب ثم حله وتأييد نوري السعيد فيما يتعلق بالسياسة الخارجية ومكافحة الشيوعية، الا أنّ قراره هذا جاء وفاء إلى جماعته وحفاظاً على كرامته.
واصدر حزب الجبهة الشعبية المتحدة بياناً أعلن فيه تجميد نفسه, ووقف نشاطه السياسي تاركاً لاعضائه حرية القرار في خوض المعركة الانتخابية والمشاركة بصفتهم الشخصية. أمّا الحزب الشيوعي المنقسم على كتلتين, فقد أعلنت الجماعة الاساسية في الحزب وهي (جماعة القاعدة) مشاركتها في المعركة الانتخابية بحجة عدم حرمان الشعب من مزاولة حقوقه الديمقراطية, والحد من التزييف، في حين قاطع جماعة (رايه الشغيلة) الانتخابات, واصدروا بياناً دعوا فيه إلى تحويل المعركة الانتخابية إلى معركة وطنية غايتها احباط المخططات الاستعمارية التي ترمي الوزارة السعيدية إلى تمريرها في مجلس نيابي موالٍ لها.
قرر الحزب الديمقراطي الكردستاني المشاركة في الانتخابات فقط في منطقة كويسنجق، طالباً من مسعود مُلّة محمد ترشيح نفسه لخوض المعركة الانتخابية، الا انه انسحب بعد ان ادرك الدخول في الانتخابات يكلّفه اكثر من النتائج التي تتمخض عنها، مما أدّى إلى فوز منافسة بالتزكية
وبهذا تباينت مواقف الأحزاب السياسية ازاء الانتخابات بين مشارك ومقاطع وقد علق مراسل جريدة الأهرام المصرية على مقاطعة الأحزاب السياسية للانتخابات بان الحياة الحزبية في العراق لم يسبق لها, ان منيت بمثل هذا التفكك منذ عودتها عام 1946 اتجاه أي قضية مثل ما منيت في هذه الانتخابات.
ولم يبق سوى حزب الاستقلال في ساحة المعركة الانتخابية يراقب سيرها أملاً منه بفضح التدخلات الحكومية الرامية إلى تزييف ارادة الشعب, واطلاع الراي العام عليها, وما إن بدأت الانتخابات حتى ظهر التدخل بشكل مفضوح في انحاء العراق كافة فبلغ التدخل في بعض مناطق الحزب الانتخابية حدا لم يبلغه من قبل، ففي سامراء منطقة مرشح حزب الاستقلال فائق السامرائي بذلت السلطات جهوداً مضنية للحيلولة دون فوزه, وكاد زمام الأمور يفلت من يدها لولا ان تداركها متصرف اللواء بنفسه متدخلاً في إجراءات التزييف مما أدّى إلى افشال السامرائي وفوز منافسيه، ثم توجه السامرائي إلى بغداد, وذهب مع محمد مهدي كبة, ومحمد صديق شنشل لمقابلة الملك محتجين على ما جرى في سامراء من تدخل وتزييف، فكتب فائق السامرائي مقالاً بعنوان (( انتخابات فذة)) وصف فيه سير الانتخابات بصورة فذة, ساخراً من طريقة إجراءها والمداخلات التي حصلت فيها، مما ميزها عن الانتخابات السابقة بانها لم تحافظ حتى على الشكليات التي جرت عليها العادة في الحكومات المتعاقبة.
سير الانتخابات ونتائجها:
وبدأ نوري السعيد بتنفيذ سياسته الارهابية فحلّ الأحزاب, والجمعيات, والنوادي, وعطل الصحف, وحارب اساتذة الجامعات, والطلبة, والعمال, واسقط الجنسية عن المواطنين بحجج واهية, ونفى اخرين, واعتقل العديد من السياسيين، فساد جو من الارهاب لم يسبق له مثيل في تاريخ الانتخابات السابقة.
وفي ظل هذه الاجواء أصدرت وزارة الداخلية أوامرها بالشروع في الانتخابات الجديدة وحددت يوم 12 ايلول موعداً للبدء بها، في الوقت الذي كانت الساحة تخلوا من الأحزاب السياسية, والمنافسة الانتخابية نظرا للاساليب الدكتاتورية التي سلكتها الوزارة السعيدية, فحالت دون ممارسة الشعب حقوقه الديمقراطية التي كفلها الدستور.
اسفرت الانتخابات النيابية عن مجلس نيابي لم يشهد تاريخ العراق مثيلاً له، وكانت نتيجة الانتخابات فوز (121) نائباً بالتزكية من اصل (135) نائباً، وقد تحقق هدف نوري السعيد في الحصول على اغلبية مطلقة في المجلس النيابي الجديد. وفاز ثمانية اعضاء من حزب الأُمة الاشتراكي المتضامنين مع توفيق وهبي, والموالين إلى نوري السعيد, ومقعد واحد للجبهة الشعبية, ومقعدين لحزب الاستقلال وهما محمد مهدي كبة وعبد المحسن الدوري.

عن رسالة
( الانتخابات النيابية في العراق)