البرتو مورافيا والأدب الروسي

البرتو مورافيا والأدب الروسي

أ.د. ضياء نافع
ترجمتُ مرة حواراً مع الكاتب الإيطالي الشهير البرتو مورافيا (1907- 1990) مع أحد الصحفيين ونشرته آنذاك في صفحة (آفاق) التي أسسها وأشرف عليها في حينه الصحفي العراقي محمد كامل عارف في جريدة (الجمهورية البغدادية) في سبعينات القرن العشرين الماضي, وأذكر أن الكاتب الإيطالي قال في ذلك الحوار, إنه قام بزيارة لروسيا,

وبالطبع كان في مدينة بطرسبورغ (لينينغراد آنذاك) واطلع على كل الأماكن المرتبطة هناكبدستويفسكي, وقد أعلن مورافيا في حواره ذاك, أنه يفتخر بامتلاكه قطعة صغيرة جدا من الخشب محفوظة لديه اقتطعها بظفره(أثناء تلك الزيارة)من الباب الخشبي القديم في شقة المرابية العجوز التي قتلها راسكولنكوف– بطل رواية دستويفسكي - (الجريمة والعقاب),
وأذكر أيضا أن مورافيا أشار في ذلك الحوار إلىإعجابه الشديد برواية غوغول– (الأرواح الميتة) التي يعدها واحدة من أبرز الروايات الساخرة في الأدب العالمي, الذي قال عنها بما معناه, إنه مستعد لأن يتنازل عن كل رواياته مقابل ان يكتب شيئا موازيا أو مشابها لها"أكتب كل ذلك من الذاكرة ليس إلا ولا أستطيع – مع الأسف– أن أرجع إلى المصدر". تذكرت كل هذه التفاصيل الدقيقة والصغيرة والطريفة أيضا من وجهة نظري طبعا, عندما وجدت عددا قديما من مجلة (فابروسيليتيراتوري) (قضايا الأدب) الروسية رقم 9 الصادرة عام 1958 (وهي مجلة فكرية معروفة بدراساتها المعمقةتعنى بتاريخ ونظرية الأدب صدرت عام 1957 في موسكو ومازالت تصدر إلى حد الآن), واستوقفني في ذلك العدد القديم من تلك المجلة دراسة بعنوان – (حول تقاليد الأدب الروسي) يناقش فيها الباحث السوفيتي كتابا من تأليف الكاتب الإيطاليالبرتو مورافيا صادر عام 1956 بعنوان – (شهر في الاتحاد السوفيتي), وهو – من وجهة نظر الباحث السوفيتي – كتاب ممتع جدا لأنه يتناول انطباعات الكاتب الإيطالي حول ما شاهده خلال زيارتهالاتحاد السوفيتي التي استغرقت شهرا بأكمله, ولكن الباحث يسجل رأسا عدم اتفاقه مع بعض آراء مورافيا حول الأدب الروسي, التي جاءت في ثنايا ذلك الكتاب. تقع هذه الدراسة في 14 صفحة من المجلة (من ص. 24 إلى ص. 36) , وهي دراسة معمقة يشير في بدايتها إلىان مورافيا يعد الأدب الروسي واحدا من – (آداب العالم العظيمة),إلا أنه يتناقش مع مورافيا بالأساس حول فكرة الكاتب الإيطالي القائلة بعدم وجود (بطل الأدب الروسي)عموما كما هو الحال مثلا بالنسبة لهاملت, وإنما يوجد (البطل المضاد) كما يسميه مورافيا , ويتوقف عند رواية غوغول– (الأرواح الميتة) ويتناول بطلها تشيتشيكوف, ثم يتحدث عن رواية دستويفسكي– (الجريمة والعقاب) وبطلها راسكولنيكوف , ثم ينتقل إلى تولستوي وروايته – (الحرب والسلم) ويأخذ عدة أبطال منها،مثل الأميرأندريهبولكونسكي و بيزوخوف وحتى الجنرال كوتوزوف الذي حارب ضد نابليون, ثم يتناول أبطالتشيخوفالذين يقول عنهمأيضا إنهم مصنوعون من تلك(العجينة) نفسها, ويصل مورافيا إلى استنتاجيؤكد , أن الأدب الروسي لم يرسم لنا بطلا سلبيا أوإيجابيا, ويتمنى ان يأتي اليوم الذي سيعطينا الأدب الروسي فيه مثل هذا البطل. يرفض الباحث السوفيتي هذه الفكرة جملة وتفصيلا , ويشير إلىان مورافيا لم يستوعب حتى النهاية صفات تشيتشيكوف السلبية(بطل رواية الأرواح الميتة لغوغول)التي جعلته بحق بطلا سلبيا بكل معنى الكلمة وليس كما قال عنه مورافيا – (ليس بطلا سلبيا أوإيجابيا... وإنما هو تعبير عن الأزمة الداخلية في أعماقه), ويتناول الباحث كيف يمتلك تشيتشيكوف قوة الإرادة الشريرة وموهبة التغلغل في أعماق النفس البشرية وكيف يجبر الآخرين على تقبٌل أفكاره, وان غوغول استطاع ان يرسم شخصية تاريخية للواقع الروسي آنذاك , وفي نفس الوقت شخصية نموذجية سلبية وشريرة لكل المجتمعات الإنسانية بشكل عام , التي تقدر ان تستخدم التحايل على كل واقع وإخضاع هذا الواقع للمصلحة الشخصية النفعية بغطاء يبدو وكأنه حضاري ينطلق من مواقع الخير (لنتذكر ببساطة ما يجري في الوقت الحاضر في عراقنا الجريح وكم يوجد هناك من أمثال هؤلاء الأبطال!),ويشير الباحث إلى أن هذا البطل السلبي من وجهة نظر غوغول هو شخص خطير بشكل رهيب لدرجة ان بعض النقاد أسموه (وهم على حق)– نابليون صغير, وأطلقواأيضا على نابليون نفسه تسمية – (تشيتشيكوفالكبير!) وذلك انطلاقا من روح المغامرة الشريرة والوقحة لديهما, ويؤكد الباحث انغوغول هو أول أديب رسم شخصية البطل السلبي الوقح في الأدب الروسي وربما الأدب العالمي أيضا, ويأسف لأن مورافيا لم يستطع ان يتلمس ذلك , بل لم يستطع حتى ان يكتشف انغوغول قد جسد تفاهة الشر وجعل بطله مضحكا, وان فلسفة غوغول بالذات تكمن في انه قدّم لنا صورة فنية مجسّمة لفلسفة الأنانية والنفعية والحضارة الكاذبة التي تحاول ان تبني وجودها ومجدها على (عظام الناس وقبورهم!) وهي فكرة مبتكرة وأصيلة تعبر عن عظمة وأهميةغوغول في تاريخ الأدب الروسي والعالميأيضا والجوهر الفلسفي العميق لأبطاله السلبيين, ثم ينتقل الباحث إلى نتاج آخر لغوغول وهو – (تاراسبولبا), الذي لم يتناوله مورافيا , ويتحدث عن هذا البطل الإيجابي من وجهة نظره ويأسف لأن الأديبالإيطاليلم يتوقف عنده على الرغم من ارتباطه الموضوعي والمباشربأفكاره حول الأدب الروسي وموضوعة البطل الإيجابي والسلبي فيه بالذات. يختتم الباحث السوفيتي مناقشاته مع مورافيا بالحديث عن دستويفسكي وروايته – (الجريمة والعقاب), وعن تولستوي وروايته – (الحرب والسلم), وهو حديث واسع ومتشعب من الصعب اختصاره بعدة سطور, ولكن مضمونه العام يتمحور أيضا حول وجود الأبطال سلبا وإيجابا عند هذين الأديبين الكبيرين, وان سمات هؤلاء الأبطال ذات أبعادإنسانية عامة بغض النظر عن مجتمع ذلك الإنسان وقوميته وانتمائه الديني. لقد مضى 55 سنة على هذه المقالة ومع ذلك فإنها ما زالت تحتفظ بأهميتها وحيويتها , ولا نعرف – مع الأسف– ردود فعل البرتو مورافيا نفسه بشأنها , إذ أن الكاتب الإيطالي كان عندها حيٌا ومن الممكن جدا انه قد اطلع عليها , وأدعو زملائي المتخصصين في الأدب الحديث أن يحاولوا الإجابة على السؤال.