صفحة مثيرة من تاريخ العراق الحديث

صفحة مثيرة من تاريخ العراق الحديث

حامد ألحمداني
في 2 نيسان 1924 قدم رئيس الوزراء [جعفر العسكري ]المعاهدة العراقية البريطانية، مع البروتوكول المرفق بها ، والاتفاقيات المتفرعة عنها ، الى المجلس التأسيسي طالباً منه إقرارها . وحاول رئيس الوزراء تبرير ضرورة إقرار المعاهدة بصورة مستعجلة ، بحجة تمكين بريطانيا من إدخال العراق الى عصبة الأمم ، وتأمين الاستقلال الوطني ،

 وحسم مسألة الحدود العراقية التركية ، وقضية ولاية الموصل ، التي سعت تركيا بكل جهودها لضمها الى تركي ، واستخدمت بريطانيا هذه المشكلة وسيلة ضغط على الحكومة العراقية لقبول المعاهدة المفروضة على العراق ، وهذا ما أعلن عنه بصراحة أمام أعضاء المجلس ، عبد المحسن السعدون ،رئيس المجلس ، رداً على اعتراضات النواب الوطنيين حيث قال :

أيها السادة، إن الإنكليز مصرون على ربط قضية الموصل بتوقيع المعاهدة، فإما المعاهدة، وإما خسارة ولاية الموصل .
حاول رئيس الوزراء، جعفر العسكري، إمرار المعاهدة بأسرع ما يمكن، بسبب إلحاح
المندوب السامي البريطاني، لكن المعارضة طلبت توزيع لائحة المعاهدة على أعضاء المجلس لدراستها ومناقشتها، ولكي تعلن للشعب تفاصيلها، جاء ذلك الاقتراح على لسان السيد[ ناجي السويدي] حيث جرى التصويت عليه، وقبل الاقتراح.تم توزيع نسخ من المعاهدة، وطلب السيد ناجي السويدي تشكيل لجنة لتدقيق المعاهدة على أن تضم عضواً عن كل لواء، وبالفعل تم تشكيل اللجنة التي تألفت من النواب التالية أسماؤهم :
1 ـ ياسين الهاشمي
2 ـ عمر تعلوان
3 ـ زامل المناع
4 ـ حبيب الخيزران
5 ـ أصف اغا
6 ـ داؤد الجلبي
7 ـ فالح الصيهود
8 ـ محمد زكي
9 ـ عداي الجريان
10 ـ فهد الهذال
11ـ شريف اغا
12 ـ حبيب الطالباني
13 ـ المرزا فرج
14 ـ عبد الواحد سكر
15 ـ صالح شكارة .
باشرت اللجنة اجتماعاتها لمناقشة بنود المعاهدة، حيث عقدت 29 جلسة نهارية، و20 جلسة مسائية ، درست خلالها بنود المعاهدة ، والمراسلات والوثائق المتعلقة بها، ووضعت تقريرها الذي تألف من 65 صفحة .
في الوقت الذي كان المجلس التأسيسي يناقش بنود المعاهدة ،كان الشارع العراق في حالة من الغليان الشديد ، وكان العلماء والمحامون والمثقفون والأساتذة والطلاب، ينظمون الاجتماعات والمظاهرات المطالبة بتعديل بنود المعاهدة ، بما يتفق وأماني الشعب في الحرية والاستقلال الحقيقي ، وكان لتلك التظاهرات والاحتجاجات أثرها الكبير على العديد من أعضاء المجلس الذين غيروا رأيهم وطالبوا بتعديل بنود المعاهدة وقد سبب هذا الموقف قلقاً شديداً للملك فيصل ، وللمندوب السامي البريطاني على حد سواء ، وخاصة بعد إطلاق النار على أثنين من أعضاء المجلس المعروفين بولائهم للإنكليز، وهما [ عداي الجريان ] و[ سلمان البراك ]، مما خلق جواً من الرعب والقلق ، ودفع عدد من أعضاء المجلس الى تقديم استقالتهم ، فيما امتنع البعض الآخر عن حضور جلسات المجلس بحجج مختلفة .
لقد سرتْ إشاعات في بغداد تقول أن إطلاق النار كان مدبراً من الحكومة لاتخاذه مبرراً للتنكيل بالمعارضة وقمعها ، واعتقال العناصر النشطة المعارضة للمعاهدة ، وقيل أن الذي أطلق النار على عضوي المجلس ، هو أحد أزلام رئيس الوزراء جعفر العسكري ، المدعو [ شاكر القره غولي]، وبالتعاون مع [ عبد الله سرية ] .
ولم تكتفِ الحكومة بكل ذلك ، بل لجأت الى إغلاق صحف المعارضة [ الشعب ] و [الاستقلال ] و [ الناشئة ] بغية كمّ الأصوات الوطنية المطالبة بتعديل بنود المعاهدة بما يتفق ومصالح الشعب والوطن .
لكن إصرار المعارضة الشعبية على مواصلة الكفاح ضد المعاهدة وضد سياسة الحكومة ، وتصاعد الأزمة التي نشأت عن محاولة فرض المعاهدة ، والتي كانت تنذر بتطورات خطيرة ، أجبرت الحكومة على تقديم استقالتها .
إلا أن الملك فيصل والمندوب السامي ضغطا على جعفر العسكري لكي يبقى في الحكم لحين إقرار المعاهدة .
كان المندوب السامي يراقب عن كثب مناقشات المجلس التأسيسي لبنود المعاهدة، وخطب الموالين والمعارضين ، كما كان يراقب ما تنشره الصحف المعارضة ، وتملكه شعور بالغضب لإصرار عدد كبير من أعضاء المجلس على تعديل بنود المعاهدة، وعلى تأخر إبرامها ، فبعث إلى الملك فيصل بمذكرة خطيرة تنم عن التهديد، في 26 نيسان 1924، وجاء في المذكرة :
حضرة صاحب الجلالة الملك فيصل المعظم، دام ملكه :
يا صاحب الجلالة
كثيراً ما اقُترح في أثناء المباحثات بخصوص معاهدة التحالف بين بريطانيا العظمى والعراق، والاتفاقيات المتفرعة، أن يُطلب من الحكومة البريطانية أن توافق على تعديلات في بعض الأمور التي يداخل المجلس شك بخصوصها .فلي الشرف أن أبلغ جلالتكم أن الحكومة البريطانية لا يسعها الموافقة على أي تعديلات ، لا في المعاهدة ولا في البروتوكولات، ولا في الاتفاقيات، والأمر متروك للمجلس التأسيسي في أن يقبلها [ أي المعاهدة والبروتوكولات والاتفاقيات ] أو يرفضها برمتها ، على نحو ما يراه الأفضل لمصلحة العراق .
إن السبب في قرار الحكومة البريطانية هذا هو أن إجراء التعديلات في المعاهدة والاتفاقيات بين توقيعها وإبرامها ، مخالف كل المخالفة للتعامل الدولي المقرر من أزمنة بعيدة في التاريخ،ويؤدي إلى جعل إتمام المعاهدات إتماماً نهائياً من المستحيلات تقريباً.
كانت مذكرة المندوب السامي هذه بمثابة إنذار للملك فيصل، بضرورة إقرار المعاهدة دون تغير أو تأخير .
وفي 16 أيار 1924 بعث المندوب السامي بمذكرة أخرى للملك فيصل،جاء فيها :
يا صاحب الجلالة : لقد قمت بإيقاف حكومة صاحب الجلالة البريطانية تمام الوقوف على ما قد بدا حديثاً في العراق من الآراء والرغائب فيما يتعلق بمعاهدة التحالف بين بريطانيا العظمى والعراق والاتفاقيات المتفرعة عنها، وقد فوضتني الآن حكومة صاحب الجلالة البريطانية، بأن أبلغ جلالتكم رسمياً ما يلي :
{ إن حكومة صاحب الجلالة البريطانية لا يسعها أن تقبل قبل الإبرام، أي تعديلات ما في المعاهدة والاتفاقيات التي سبق توقيعها بالنيابة عن الحكومتين، ولكن ستكون بعد الإبرام مستعدة لأن تبحث بروح الاعتدال، في كل ما قد يُرغب فيه من تعديلات في الاتفاقية المالية ، هذا ولاشك في أن جلالتكم ستتخذون الوسائل لنشر هذا الكتاب
صديق جلالتكم هنري. دوبس
في الوقت الذي أشتد فيه ضغط المندوب السامي وحكومته على الملك فيصل والحكومة، والمجلس التأسيسي، من أجل الإسراع بإقرار المعاهدة العراقية البريطانية، دون تأخير، ودون إجراء أي تعديل أو تغير عليها، صعد الشعب العراقي كفاحه ضد المعاهدة، وسير التظاهرات الصاخبة المطالبة بتعديل بنودها، بما يحقق السيادة الحقيقية، والاستقلال التام للعراق . لقد أراد الشعب، وقواه السياسية الوطنية تقديم الدعم الأقصى للنواب الوطنيين في المجلس التأسيسي ، ليكون موقفهم قوياً أثناء مناقشة المعاهدة .
ولما بلغ أسماع أبناء الشعب أن المعاهدة ستناقش يوم 29 مايس 1924، خرجت مظاهرة صاخبة تندد بالمعاهدة، وتطالب بتعديلها ، وتوجهت المظاهرة الى مقر المجلس التأسيسي ،وأحاطت به، وكانت أصوات الغضب المنبعثة من حناجر المتظاهرين قد دخلت القاعة ، مما اضطر رئيس المجلس ، عبد المحسن السعدون ،إلى الخروج والتحدث الى قادة المظاهرة ، طالباً منهم التفرق ، والاعتماد على المندوبين ، واعداً إياهم بعدم التفريط بحقوق الشعب وحرية العراق واستقلاله .
لكن حديثه لم ينجح في إقناع المتظاهرين ، وحاولت الشرطة تفريقهم بالقوة ، ولكنها فشلت في ذلك ،ووقعت صِدامات عنيفة بينهم وبين المتظاهرين، مما دفع [نوري السعيد ] وزير الدفاع ،إلى استدعاء قوات الجيش ، حيث جرت مصادمات عنيفة بين عناصر الجيش والمتظاهرين، بعد أن استخدم الجيش الرصاص لتفريق المظاهرة، ووقوع إصابات عديدة في صفوف المتظاهرين العزل من السلاح، واستطاع الجيش تفريق المظاهرة .
سارعت الحكومة إلى إصدار بيان رسمي، في محاولة منها لتبرير استدعاء الجيش، واستخدام السلاح ضد أبناء الشعب المطالب بحريته واستقلال وطنه ، كما أصدر رئيس المجلس التأسيسي في 29 أيار 1924، بياناً تطمينياً إلى أبناء الشعب ، معلناً أن المجلس سوف لن يفرط بحقوق الشعب ، مهما كانت الأحوال ، طالباً من أبناء الشعب انتظار قرار المجلس بكل اطمئنان .
وعلى اثر تلك الأحداث الدامية ، قرر المجلس تأجيل مناقشة المعاهدة إلى يوم السبت 31 أيار، لكن عدد من المندوبين تغيبوا عن الحضور في ذلك اليوم ، وكانت آثار الخوف والقلق بادية على وجوه الحاضرين منهم ، حتى أنهم رفضوا الدخول إلى القاعة، مما اضطر رئيس المجلس الى تأجيل الاجتماع الى يوم 2 حزيران .
وفيما بدأ الحاضرون في مغادرة بناية المجلس ،حضر المندوب السامي [ هنري دوبس ] وبصحبته مستشار وزارة الداخلية المستر [ كرونواليس ] واضطر أعضاء المجلس إلى العودة إلى القاعة ليستمعوا الى المندوب السامي .
تحدث المندوب السامي أمام الأعضاء الحاضرين بلهجة تنم عن التهديد قائلاً :
بلغني أن بعض النواب قدموا تقريراً يقولون فيه أن المجلس لا يقبل إبرام المعاهدة ما لم تعطي بريطانيا ضماناً بالتعديل على أساس تقرير اللجنة التي شكلها المجلس لدراسة بنود المعاهدة ، وهذا يعني في حقيقة الأمر تعديل المعاهدة ، وهذا ما تعتبره حكومتي رفضاً للمعاهدة ، وعلى المجلس أن يلاحظ تأثير ذلك على سير المفاوضات مع تركيا، حول ولاية الموصل ، فقد أخذنا معلومات ،أن السير [بيرسي كوكس ] عند وصوله الى الأستانة ، شاهد تسهيلات في المعاملة لإبقاء ولاية الموصل للعراق ، ولكن عند ما بلغ الأتراك سير أعمال المجلس التأسيسي العراقي ، تغيروا وصاروا يطلبون ولاية الموصل ، وإنهم يرفضون إحالة الأمر الى مجلس عصبة الأمم .
كانت كلمة المندوب السامي أمام الحاضرين من أعضاء المجلس التأسيسي ،بمثابة إنذار لهم ، فإما إقرار المعاهدة، وإما سلخ ولاية الموصل من العراق ، مستخدماً قضية الموصل ورقة ضغط كبرى لغرض إقرار المعاهدة . وقبل أن يغادر القاعة طلب إقرار المعاهدة بشكلها الحالي ، واعداً أعضاء المجلس بأجراء مفاوضات لتعديل ما طالبت به اللجنة في تقريرها ، شرط أن يكون ذلك بعد إقرار المعاهدة .
وفي 2 حزيران 1924 أجتمع المجلس التأسيسي من جديد ، وحضر الاجتماع 63 عضواً من مجموع 100، وبدأ المجلس بمناقشة بنود المعاهدة ، وأثناء المناقشة حدثت مشادات عنيفة بين الأعضاء المؤيدين للحكومة والمعارضين لها ، واسُتخدمت فيها أقسى العبارات .
في تلك الساعات الحرجة، كان الملك فيصل يشعر نفسه واقعاً بين نارين، نار المندوب السامي البريطاني وضغطه المتواصل لإبرام المعاهدة، بما فيها من مس خطير بحقوق العراق ومستقبله، ونار المعارضة الشعبية العارمة، والرافضة لتلك المعاهدة، وبقي في حيرة من أمره، لا يدري ماذا يفعل وكيف يرضي المندوب السامي، ويرضي الشعب العراقي في الوقت نفسه .
وحاول الملك من خلال اللقاء الذي دعى إليه أعضاء المجلس التأسيسي ، يوم 9 حزيران 1924 الوصول إلى حل ما لهذه الأزمة . تحدث الملك فيصل مع أعضاء المجلس قائلاً :
{أنا لا أقول لكم أقبلوا المعاهدة ، أو ارفضوها ، وإنما أقول لكم اعملوا ما ترونه الأنفع لمصلحة بلادكم ، فان أردتم رفضها فلا تتركوا فيصلاً معلقاً بين السماء والأرض ، بل أوجدوا لنا طريقاً غير المعاهدة ، فلا تضيعوا ما في أيديكم من وسيلة للمحافظة على كيانكم وتحينوا الفرصة لتحصلوا على ما هو اكثر مما في أيديكم .
وفي 10 حزيران 1924 عقد المجلس التأسيسي جلسته الثالثة والعشرين، وأعلن رئيس المجلس أن هناك اقتراحاً من عدد من أعضاء المجلس بتأجيل البت في المعاهدة الى حين الانتهاء من مشكلة ولاية الموصل . ثم طلب رئيس الوزراء [ جعفر العسكري ] الحديث وطلب من المجلس عدم تأجيل البت في المعاهدة بسبب أمور سياسية خارجية استوجبت ذلك ، وكان رئيس الوزراء يشير بذلك الى التهديدات البريطانية المتصاعدة للملك والحكومة لإقرار المعاهدة .
لكن المجلس صوت على تأجيل الجلسة الى اليوم التالي ، وقد أثار قرار التأجيل المندوب السامي ، الذي صمم على فرض المعاهدة فرضاً.
فقد تحدث المندوب السامي مع الملك فيصل بالهاتف ، وأعلمه بأنه سوف يكون عنده عصر ذلك اليوم لأمر هام ، فيما كان قد أعد مذكرة خطيرة يطلب فيها إصدار قانون بحل المجلس التأسيسي ، وإصدار أمر باحتلال بناية المجلس .
وعند وصول المندوب السامي الى البلاط ، عصر ذلك اليوم ، وفي بداية لقائه مع الملك،سلمه نص المذكرة والتي جاء فيها :
لا تستطيع حكومة صاحب الجلالة البريطانية ، في مثل هذه الظروف أن تسمح باستمرار الحالة الراهنة التي ينشأ عنها خطر عظيم يهدد سلامة العراق الداخلية والخارجية ، فأن المذاكرات الأخيرة للمجلس التأسيسي التي جرت في هذا اليوم ، لم تظهر أي اقتراب من الاتفاق ، ولا أي أمل في اتخاذ المجلس قراراً صريحاً وسريعاً ، لذا طُلب إليّ أن أوجه أنظار جلالتكم ، كشرط لاستمرار تأييد حكومة صاحب الجلالة البريطانية ، أن تصدروا فوراً ، بعد استشارة مجلس وزارتكم ، وبواسطته ، تعديلاً لقانون المجلس التأسيسي ، يخولكم حق فض المجلس في أي وقت شئتم ، خلال الأربعة اشهر من تاريخ افتتاح جلساته ، وأن تأمروا ، بموجب هذا التعديل ، حل المجلس اعتباراً من الساعة الثانية عشرة من ليلة 10 / 11 حزيران .
وأرى من واجبي أن اطلب من جلالتكم أن تبلغوا الأمر رسمياً ، بواسطة رئيس وزرائكم ، إلى رئيس المجلس التأسيسي قبل الساعة السابعة من صباح اليوم الحادي عشر من حزيران ، وأن تصدروا التعليمات بواسطة وزير الداخلية ، لغلق بناية المجلس فوراً، وإحاطتها وما يجاورها بقوة من الشرطة تكفي لتنفيذ هذا الأمر
حاول الملك فيصل، بحضور رئيس الوزراء [جعفر العسكري] وزعيم المعارضة [ياسين الهاشمي] إيجاد حل لهذه الأزمة مع المندوب السامي ، وجرى بحث مستفيض حول السبل الممكنة لذلك ، وقد طلب المندوب السامي أن يدعى المجلس التأسيسي إلى عقد جلسة له ، فوق العادة ، وقبل منتصف الليل من هذا اليوم ، ويبرم المعاهدة ، كحل أخير ونهائي، وإلا يجب أن يحل المجلس .
وعلى الفور أمر الملك باستدعاء رئيس المجلس الى الحضور، وطلب إليه الملك والمندوب السامي أن يجمع أعضاء المجلس هذه الليلة ويقرّ المعاهدة دون تأخير .
خرج رئيس المجلس ، وبصحبته رئيس الوزراء ، واحد مرافقي الملك ، وبقي المندوب السامي في البلاط ليواصل الضغط على الملك لإقرار المعاهدة قبل الساعة الثانية عشرة ليلاً . وصار مدير الشرطة ، يرافقه مرافق الملك وعدد من أفراد الشرطة ، يدورون على أعضاء المجلس ، ويرغمونهم على حضور الجلسة ، لأجل إقرار المعاهدة في تلك الليلة ، فقد ذكر الحاج ناجي ، أحد أعضاء المجلس أن الشرطة انتزعته من سريره وحشرته في السيارة ، وهو لا يعرف إن كانوا سيأخذونه الى المشنقة أم الى السجن ، فقد كان من معارضي المعاهدة .

المجلس التأسيسي يجتمع ليلاً،ويقر المعاهدة تحت التهديد :
استطاع مدير الشرطة ورجاله جمع 68 نائباً في ليلة 10 / 11 حزيران 1924، قبل منتصف الليل، وأعلن رئيس المجلس [ عبد المحسن السعدون ] عن افتتاح الجلسة، حيث تحدث الى الحاضرين من أعضائه قائلاً :
{كان مجلسكم العالي قد أجل جلسته الى يوم الغد ( الأربعاء )، غير أن جلالة الملك أبلغني بأن فخامة المندوب السامي قد أبلغ جلالته بأنه لا يمكن تأجيل المذاكرات إلى الغد، لأنه يعد ذلك رفضاً للمعاهدة ، وعليه فقد دعوتكم الى الاجتماع ، ومن وظيفتي أن أبلغكم ذلك .
لم يكن أمام المجلس إلا إقرار المعاهدة في تلك الليلة ، حيث جرى التصويت عليها على عجل ، وتحت التهديد بحل المجلس ، وقد وافق عليها 37 نائباً ، وعارضها 24، وامتنع عن التصويت 8 أعضاء ، وبذلك أقرت المعاهدة من قبل المجلس التأسيسي .
ُسرّ المندوب السامي لإقرار المعاهدة ، وهرع إلى البلاط الملكي، حيث اجتمع إلى الملك فيصل، وأبلغه أن الحكومة البريطانية تعتبر تصويت المجلس على المعاهدة وذيولها، على النحو الذي تم ، يفي بالشروط المطلوبة في المادة 18 من المعاهدة ، والتي تنص على أن المعاهدة لا تبرم من قبل الفريقين الساميين المتعاقدين إلا بعد قبولها من المجلس التأسيسي .ولابد أن أشير هنا الى أن الأعضاء الذين وافقوا على المعاهدة قد أضافوا فقرة تقول وتصبح هذه المعاهدة واتفاقياتها لاغية لا حكم لها إذا لم تحافظ الحكومة البريطانية على بقاء ولاية الموصل ضمن العراق .
وبعد توقيع المعاهدة، وحصول الإمبرياليين البريطانيين على الامتيازات النفطية، صادقت عصبة الأمم في 16 كانون الأول 1925 على عائدية ولاية الموصل للعراق، وجعل حدود العراق وفقاً لما يسمى [ خط بروكسل ]، ودعت عصبة الأمم العراق الى عقد معاهدة مع بريطانيا تضمن استمرار الانتداب على العراق لمدة 25 سنة، وبالفعل تم إقرار المعاهدة الجديدة في البرلمان في 18 كانون الثاني 1926، رغم معارضة النواب الوطنيين الذين طلبوا إحالتها الى لجنة برلمانية لدراستها ، ولكن دون جدوى .
أما تركيا فقد خضعت للضغط البريطاني، ووافقت على بقاء ولاية الموصل ضمن العراق ، وذلك بموجب المعاهدة العراقية البريطانية التركية ، المعقودة في 5 حزيران 1926، على أن تمنح الحكومة البريطانية تركيا نصف مليون ليرة بريطانية تعويضاً عن حصتها في البترول ، بعد أن فشلت في إقناع بريطانيا بمنحها ولاية الموصل، لقاء منحها بريطانيا امتياز استخراج النفط واستثماره فيها ، لكن الحكومة البريطانية رفضت العرض التركي لأنها وجدت مصلحتها في إعادة الولاية الى العراق ، بعد أن ضمنت هيمنتها المطلقة على العراق سياسياً وعسكرياً واقتصادياً ، بموجب المعاهدة التي فرضتها على المجلس التأسيسي فرضاً .

عن كتاب
(من تاريخ العراق الحديث ج1)