دور المثقفين العراقيين في ثورة العشرين الوطنية

دور المثقفين العراقيين في ثورة العشرين الوطنية

سامي عبد مشعب الموسوي
شكلت ثورة 1920 ، اتجاهاً جديداً في تاريخ العراق المعاصر ، وفي حياة العراقيين بصورة خاصة ، وهي لم تكن وليدة صدفة ، بل جاءت نتيجة معاناة قاسية مر بها العراقيون أبان الحكم العثماني ، وزاد فيها ما لمسوه من المحتلين الجدد من خيبة أمل ومعاملة قاسية في كافة مجالات الحياة ، مما أدى إلى الثورة المسلحة.

أن الوسائل التي أتبعتها بريطانيا في العراق ، والقائمة على أساس استخدام القوة لم تجد نفعاً في ايقاف الشعور الوطني ، بل على العكس ساهمت في تحريكه للمواجهة والثورة. فقد شعر العراقيون بأن الوضع الجديد الذي نجم عن خروج العثمانيين ومجيء البريطانيين ، لم يؤد إلى تحسن ولو جزئي في حياتهم البائسة ، بل أصبح لزاماً عليهم أن يتحملوا اعباء جديدة أثقلت كواهلهم إلى حد كبير(، وعلى وجه الخصوص الفلاح العراقي الذي عانى من البؤس والحرمان والجوع في العهد العثماني ، فأنه كان أمام اختيارين إما "تحمل ما هو عليه من وضع لا يحتمل أو الموت جوعاً" ، حسب وصف الرحالة الإنكليزية آنا بلانت (A. Blunt) فقد أصبح بعد الاحتلال ملزماً بدفع ضرائب أكثر من السابق وإداء أعمال شاقة بالسخرة ، والتنازل عن أرضه دون تعويض والرضوخ لكل إقطاعي مد يد التعاون للمحتل الجديد .
كما لجأ المحتلون إلى استخدام القوة لجمع الناس من المناطق النائية بسبب حاجتهم إلى الأيدي العاملة لأنجاز مشاريعهم العسكرية وغيرها التي مس قسم منها مصالح المنتجين الزراعيين مباشرة ، كما أقامت سلطات الاحتلال البريطانية السدود في منطقة العمارة وسوق الشيوخ لرفع مستوى نهر دجلة وهور الحمار بقصد تسهيل الملاحة أمام السفن التي كانت تزود قوات الاحتلال بالمؤن والذخيرة مما أدى إلى قطع المياه عن حقول الرز العائدة للعديد من العشائر المحلية في حوض نهر دجلة .
أن كل هذه الظروف السيئة التي ألحقت أضراراً فادحة بالشعب العراقي لاسيما طبقاته الفقيرة ، مضافة إليها مماطلة الإدارة البريطانية في وعودها التي قطعتها للشعب العراقي بأن تعيد إليه سيادته واستقلاله ، وأنها ما دخلت العراق إلا محررة له من نير العثمانيين حسبما ورد في منشور الجنرال مود
(S. Mude) عندما احتل مدينة بغداد في صباح يوم الأحد الموافق 11آذار عام 1917 ، كل ذلك ساهم في اندلاع الثورة الوطنية الكبرى وإثارة المشاعر الوطنية لدى العراقيين .
لقد أصبح الحماس جذوة توقد في نفوس العراقيين الإصرار على مواجهة المحتلين فاندفعوا بكل طبقاتهم وفئاتهم وبمختلف أعمارهم لمواجهة القوات البريطانية ، يقول المستشرق الروسي كوتلوف : "لقد غادر المواطنون بيوتهم في ظلمة الليل جماعات وأفراداً للمساهمة في الثورة ، بينما بادر كثير من المواطنين الذين التحقوا بالشبانة(إلى إلقاء سلاحهم والهرب من الخدمة".
ومما يجدر ذكره أن ثورة العشرين التي انطلقت شرارتها في الثلاثين من حزيران عام 1920 في منطقة الرميثة (الفرات الأوسط) ، كانت إرهاصاتها ومقدماتها قد سبقتها ، فكان لهيب الثورة قد عم المناطق الشمالية ولم يخمد أواره طيلة أيام سنة 1919 وأوائل سنة 1920 ، واستمرت الثورة فيها إلى ما بعد خمود لهيبها في الفرات الأوسط.
فقد قامت في ولاية الموصل حركات مقاومة مسلحة ضد السلطة البريطانية في سنتي 1919و 1920 ، منها حركة الشيخ محمود البرزنجي وحركات قبائل الكويان والعمادية والزيبار وبارزان ، وكانت كل هذه الحركات بغض النظر عن انتمائتها العرقية والدينية تسير في اتجاه واحد هو الشعور الوطني ومقاومة الاحتلال البريطاني والرغبة في الاستقلال وتكوين الدولة الوطنية الموحدة .
وفي خضم الأحداث التي تتابعت في العراق قبيل الثورة وفي أثنائها ، يبرز سؤال مهم وملح ؛ هو من هي القوى الاجتماعية التي كان لها دور واضح وبارز في هذه الثورة . ليس هناك غير الفئة المثقفة العراقية التي لعبت دوراً بارزاً في صنع الأحداث وفي إثارة كوامن الوعي الديني والوطني في نفوس العراقيين ، فقد قاموا بتحريض المواطنين العراقيين للوقوف بوجه المحتلين البريطانيين والمطالبة بالسيادة والاستقلال ، كما أدوا دوراً مؤثراً تجلى من خلال نشرهم للوعي الثقافي وفي توحيد النظرة الوطنية ضد المحتلين الذين جاءوا إلى العراق بغير رضا أهله ولا بدعوة منهم (فهم بنظر الإسلاميين غربيون كفار نجحوا في ما كانوا يخططون له من قديم الزمان ، وهو الاطاحة بالخلافة الإسلامية ، وهم بنظر العروبيين الأحرار محتلون ناهبون لخيرات بلادهم ، وهم بنظر العرب رفاقهم القدامى ناكثون للعهد ، خاذلون للقضية العربية ، وهم بنظر الأكراد سبب تمزيق أوصال بلادهم قطعاً وتقسيمها بين دول المنطقة).
أدرك المثقفون العراقيون وحدهم هذه الحقيقة ، حقيقة المحتلين ، الذين لم يجلبوا للعراق إلا الشر والتشظي والضياع وفقدان الهوية الوطنية وطمس معالم العقيدة الدينية . لقد اسهم المثقفون العراقيون في القضية الوطنية بمختلف أجناسهم والوانهم وجاء دورهم واضحاً في فتاوى المراجع الدينية والخطباء والشعراء الذين أثاروا حماس الجماهير وجددوا عندهم الأمل بالمستقبل والثقة بوطنهم وعقيدتهم الدينية. إن من أهم الأدوار التي قام بها المثقفون ، دور القيادة واصدار الفتاوى من قبل رجال الدين الكبار ، إذ أدوا دوراً مهماً في هذه المرحلة في اذكاء روح الجهاد والمحافظة على بيضة الإسلام وتحريم ولاية الكافر على المسلمين ، وكانوا يؤكدون على الالتزام بمبادئ الإسلام الحنيف والنزعة الدستورية ومعاداة الاستعمار . يقول ولسن (Willson) : "ان طبقة رجال الدين كانت تتنافس مع الزعماء الوطنيين في مناشدة الجماهير على أسس دينية وطنية وحثها على استئصال شأفة الاحتلال العسكري".
ومن خلال نفوذهم الديني أدوا دوراً بارزاً في تحريك الثورة في نفوس أبناء البلاد وفي التنظيمات السياسية ، فنرى ان محمد الصدر() يتولى رئاسة حرس الاستقلال(في حين ان زعيمها الحقيقي محمد جعفر ابو التمن(، كما ترأس الشيخ سعيد النقشبندي(حزب العهد في بغداد(، إضافة إلى هؤلاء الكثير من رجال الدين المتنورين الذين أدوا دوراً مهماً في الحركة الوطنية أمثال أحمد الشيخ داود(وعبد الكريم الجزائري، أما أبرز هؤلاء العلماء ممن أدوا دوراً مهماً في أحداث الثورة فهو الإمام الحائري في كربلاء الذي أكد في فتواه عدم جواز انتخاب غير المسلم للامارة على المسلمين ، مستخدماً نفوذه الديني لتأجيج المقاومة ضد المحتلين وقد نجح في ذلك حيث توحدت جهود العراقيين من أجل مصلحة البلاد.
إن أول اجتماع مهم لرؤساء العشائر عقد يوم 14 مايس 1920 في دار الإمام الحائري للتخطيط للثورة(. وعندما قامت مظاهرات سلمية في بغداد أيدها الحائري برسالة موجهة إلى عموم العراقيين دعاهم فيها إلى مساندة حركة بغداد السلمية والمطالبة بحقوقهم على ان ترسل كل مدينة إلى بغداد وفداً للمطالبة بحقها أسوة بأهالي بغداد. واصدر العلامة الحائري فتواه المشهورة في التوصل بالقوة لتحقيق الاستقلال ، كما ان فتواه التي اصدرها بعدم جواز إمارة غير المسلم على المسلمين، كانت بمثابة الدعم القوي للحركة الوطنية في العراق ، وقد ظهر أثرها في الاستفتاء العام الذي أجراه ولسن.
ويأتي دور الخطباء والشعراء في تأليب الرأي العام العراقي ضد
المحتلين ، فكان دورهم من أشد أدوار الفئة المثقفة العراقية نشاطاً ، إذ كانوا يمثلون الجذوة الحارة التي لا تنطفئ ولا يمكن إخمادها ، فساهموا مساهمة فعالة ومباشرة في إذكاء روح النقمة والسخط ضد البريطانيين سواء قبيل الثورة أو في أثنائها أو عند إحياء ذكراها في كل عام . وفيما كان التحضير للثورة يمضي قدماً كانت القصائد والخطب الثورية الدافع المحرك لغضب الجماهير ضد المحتلين ، فكان بعض الخطباء والشعراء أمثال محمد مهدي البصير، وصالح الحلي، ومحمد حبيب العبيدي وغيرهم يتنقلون بين المدن والأرياف يحرضون الناس على المقاومة ، كما اصبحت بعض الجوامع في بغداد مراكز لبث الوعي الوطني وكان الزعماء السياسيون يعقدون فيها الاجتماعات التي مهدت للثورة ، ويلقي الخطباء خطبهم الحماسية وينشد الشعراء فيها قصائدهم الوطنية التي تحرض المواطن العراقي على القيام بالثورة والمواجهة ضد المحتلين ، ولم يكن ذلك في بغداد فقط ، بل شمل سائر أنحاء العراق ومدن الفرات الأوسط والنجف وكربلاء وكذلك ديالى. كما كان لقصائد الشعراء التي القيت تمهيداً للثورة أثر ووقع كبير في نفوس العراقيين ومنها قصيدة للشاعر عيسى عبد القادر الريزلي الأعظمي التي أثرت حتى في نفوس الإنكليز مما أثار حفيظتهم فأصروا بالقبض عليه واعتقاله في دائرة الشرطة ، يقول في مطلع قصيدته مخاطباً أبناء العراق بأن يفيقوا ويسمعوا :
بني النهرين نسل الطيبينا
تفرقنا شعوباً واختلفنا
افيقوا واسمعوا حقاً يقينا
فأصبحنا جميعاً صاغرينا
فالشاعر يثير في قصيدته المشاعر الدينية التي تحتل مساحة كبيرة في نفوس العراقيين ويناديهم بآبائهم الطيبين الذين رفضوا الظلم وحاربوا الاستبداد ومن الشعراء الذين برزوا بشكل مؤثر في ثورة العشرين محمد مهدي البصير فقد كانت قصائده تساهم بصورة فعالة في إذكاء الفروسية في نفوس الثوار، فهو شاعر الثورة وخطيبها ومؤرخها ، ألف كتاب (القضية العراقية) والذي يعد مصدراً مهماً للباحث في أحداث ثورة العشرين ووقائعها ، وله ديوان شعر ضمنه قصائده الثورية التي نظمها قبيل الثورة وفي أثنائها وأسماه (البركان) ، ونستطيع من عنوان الديوان ان نعرف الدور المتميز الذي قام به البصير في تفجير بركان الثورة ضد المحتلين البريطانيين . ومقطوعته (لبيك يا وطن) تهيب بالعراقيين ان ينهضوا بأنفسهم ويذودوا عن دينهم وتربة بلدهم معرضاً بغدر المحتلين البريطانيين بالعرب وفي وعودهم التي قطعوها للعراقيين ومساعدتهم في بناء دولة مستقلة إلا انهم نقضوا عهودهم وتنكروا لمواثيقهميقول البصير:
الحر من لا يستكين لقاهر
وادرأ بموتك عن بلادك موتها
ولدتك تربتها وضمك جوها
افبعد ذاك تعاف نفسك نصرها
ما أنت من أبنائها ان لم تكن
فانهض بشعبك يا فتى قحطان
ما للبلاد سواك من قربان
وبها نطقت مميزاً بلسان
ببيان حر صادق وبنان
عنها تذود بكل طعان
ويقول في قصيدته (صرخة من دار السلام) يستنهض بها همم الثوار وينقل من خلالها حال أهل بغداد :
غضبنا فقمنا ثائرين لغاية
ورددت الأجواء قصف زئيرنا
فهل تنطق الزوراء وهي أسيرة
تهون المنى من دونها والمشانق
فردت عليه بالدوي البنادق
وتسكت عما تبتغيه المناطق
كما ان هناك شعراء آخرين ، أسهموا في قصائد عبرت عن مشاعرهم الوطنية وروحهم القومية ، وحماسهم الشديد قي مواجهة البريطانيين ، منهم عبد المطلب الحلي، الذي جاءت قصائده مفعمة بالحس الوطني القومي ، ويستنهض من خلالها همم العرب ويشيد بأمجادهم ، فهو يقول(:
بني العرب ان العصر بالعلم أزهرا
تأخرتم عن حقكم وتقدمت
وصبح الهدى من ظلمة الجهل اسفرا
به أمم من حقها ان تؤخرا
ومنهم أيضاً محمد حبيب العبيدي الذي تصدى لمواجهة المحتلين بقصائد عديدة منها هذه القصيدة ، التي يقول فيها وهو ثائر حانق على المحتلين :
أضرموا النار يا سراة العراق
كلا لن تُسقون كأس هوان
واغسلوا العار بالدم المهراق
فاقطعوا بالسيوف كف الساقي
ومنهم سعد صالح الذي رفد الثورة الوطنية (1920) بقصائد
عصماء ، بقيت عالقة في الأذهان ، يتناقلها العراقيون في مناسباتهم الوطنية ومنتدياتهم الثقافية ، إذ يقول(:
عزيز على الحر تلك البلاد
إلى كم نكابد مر الهوان
يداها رهينة قهارها
وتشقى البلاد بأغيارها
أما محمد رضا الشبيبي فقد تميزت مواقفه الوطنية بالجرأة والمواجهة ، منذ شبابه ، فقد جمع بين الخطابة والشعر ، وأذابهما في المسيرة الوطنية ، ومنها أنه حضر الاجتماع الذي عقد في النجف بين وجهاء ورؤساء العشائر المحيطة بالنجف وبين المندوب المدني البريطاني آنذاك ، وقد قام أحد الحاضرين في الاجتماع وكان من المندسين ، فقال : "لا نريد غير الإنكليز" ، فقاطعه الشبيبي قائلاً : "تكلم عن رأيك فقط ، لأن أكثرية الحاضرين ، وهم الذين يمثلون الجمهور ، لهم رأي آخر في القضية ، يختلف عن رأيك" ، ثم خاطب المندوب المدني البريطاني ، قائلاً : "أن الشعب العراقي يرتأي أن الموصل جزء لا يتجزأ عن العراق ، وأن العراقيين يرون أن من حقهم أن تتألف حكومة وطنية مستقلة استقلالاً تاماً وليس فينا من يفكر في اختيار الحكم الأجنبي".
وقد رشح الشباب المثقفون الشبيبي ليكون عنهم مندوباً إلى الملك حسين بن علي شريف مكة(في مطاليبهم التي منها أن يكون أحد أنجاله ملكاً على العراق .
مثلت قصائد الشبيبي موقفاً وطنياً ودافعاً قوياً للحركة الثورية في العراق وأسهمت في بلورة الموقف الشعبي للفئة المثقفة العراقية ، إذ عبر الشبيبي من خلال قصائده عن وطنيته ، وعن موقفه الشجاع بدعوته إلى إقامة الحق بالسيف لا بالجدل والنقاش ، فهو يقول:
السيف قرب مناكل قاصية
لا المنطق المفصل من قدم ولا الجدل
فقد كان يمتلك حساً وطنياً وقومياً ، فهو يأسى لبلاد العرب كلها ويحزن لكل نازلة تصيب الوطن العربي ، فنراه يقول بعد احتلال بغداد ودمشق :
ماذا بك وبذي يراد؟
من موطن البلاد قامت نزعاً
ساءت وقائعها وما سرت بها
فقدت دمشق وقبلها بغداد
خيل لهن بحلق ميعاد
لا الهجرة الأولى ، ولا الميلاد
لقد اتسم تنوع المثقفين العراقيين بالاتجاه الواحد الذي عبروا من خلاله عن دورهم الوطني وهو تحرير العراق من المحتلين والمطالبة بسيادة العراقيين واستقلالهم ، وجاء ذلك في فتاوى المراجع الدينيين والخطباء والشعراء ، وقد كان للكتاب والصحفيين العراقيين دور واضح ومؤثر في الحركة الفكرية والسياسية في احداث الثورة الوطنية سواء قبيل اندلاعها أو في أثنائها ، وقد تجلى ذلك من خلال المنشورات واصدار الصحف (لاسيما ان المحتلين حاولوا من جانبهم تجريد الفئة المثقفة الثورية العراقية من وسائل العمل الفعال بين الجماهير)(. وفي وقت مبكر من الاحتلال البريطاني طالب رجال الحركة
الوطنية ، بحرية الصحافة ، فقد اصدرت جمعية الدفاع المقدس(السرية
منشوراً بعنوان (هذا بلاغ للناس) طالبت فيه بـ (اعطاء بعض الحريات للمطبوعات ، رغبة بالوقوف على افكار أحرار العراق) .
لم تقف عند هذا الحد ادوار الكتاب والمثقفين ، فنرى ان (الجمعية العربية العراقية) تحتج على اجراءات سلطة الاحتلال التي تقضي بمنع اصدار صحف وطنية حرة وترسل احتجاجها في مذكرة إلى مؤتمر الصلح في (فرساي) يوم 15 أيلول 1919 ، قالت في مذكرة الاحتجاج : (نحتج على منع الكتاب من انشاء صحف سياسية واجتماعية) ، كذلك عزز موقف الفئة المثقفة احتجاج (حزب العهد في الموصل) المرسل إلى مركز الحزب في دمشق يوم 30 تشرين الثاني 1919 ، قالوا فيه : (وقد منعت السلطة المحتلة اصدار الجرائد الوطنية السياسية منعاً باتأ فلا يوجد الآن في جميع العراق سوى الجرائد الرسمية).
وعندما عقد المندوب المدني اجتماعاً عاماً مع رؤساء العشائر في الشامية يوم 3 تموز 1920 (طالب الثوار باطلاق حرية الرأي) ، وجاء المطلب الثاني في المذكرة التي قدمها مندوبو بغداد إلى المندوب المدني معبراً عن رأي المثقفين في "اطلاق حرية الصحافة فوراً ليستطيع الشعب التعبير عن شعوره الوطني ويشرح مطاليبه واحتياجاته" ، واشارة إلى أهم الأسباب التي أثارت سخط الشعب على الحكومة ، يقول محمد مهدي البصير : "ان أهم الأغلاط التي أثارت سخط الشعب على الحكومة ووقعت في نفوس المفكرين من أبنائه أسوء وقع ، خنق الحرية الفكرية ومنع اصدار جريدة سياسية غير الجرائد الرسمية"، مما عزز من موقف المواجهة ضد المحتلين " إذ وقف بعض المثقفين ضد السلطة المحتلة لأنهم حرموا حرية ابداء الرأي".
واجه المثقفون العراقيون سلطة الاحتلال ، عندما احسوا انه من المتعذر بل من المستحيل موافقة المحتلين على اصدار الصحف الوطنية التي تعبر عن آمال الشعب العراقي في بناء دولة وطنية مستقلة ، فبادروا " وطبعوا المنشورات بالدعوة إلى القيام بالثورة" وكانت "المنشورات الحزبية ترسل تحت جنح الظلام وبأساليب مختلفة".
يقول طالب مشتاق(: (جاءني يوماً والثورة مشتعلة في منطقة الفرات صادق حبة) (وبيده ورقة قدمها إليّ وقال : (انها وردت من النجف يطلبون إلينا طبع مائتي نسخة منها ، وقرأتها وإذا هي منشور يحث العشائر وكل الناس على القتال ضد الإنكليز ومقاومة الاستعمار بكل أشكاله وألوانه) ، إضافة إلى ذلك فقد صدر العديد من المنشورات عن رجال الثورة في هذه المدينة تؤكد الصلة الوثيقة والرابطة الوطنية بين قادة الثورة في النجف وزعماء الفرات كما تؤكد الصلة القوية مع ثوار بغداد وغيرها من مدن العراق، وهذا بدوره يؤكد توافق الاتجاه الوطني بين مثقفي العراق في سائر مدنه ، إلى جانب ذلك استمر طبع (المنشورات اليومية الحاوية لإخبار المناطق والمقالات الشديدة اللهجة والنصائح القيمة) في مختلف المدن العراقية ، كما برزت في ايام الثورة بشكل واضح
(الخطب والمنشورات السياسية التي تتعلق بمسألة تقرير المصير).
استمر دور المثقفين العراقيين من كتاب وصحفيين باصرار على مواصلة الجهاد الوطني ضد المحتلين من خلال المنشورات السرية والصحف الواردة من دمشق وغيرها.
ففي عام 1920 تأسست هيئة تنسيق نشاطات " حرس الاستقلال" والمنظمات الدينية وشيوخ القبائل ودعيت بمكتب الثورة(. وأخذ المكتب على عاتقه توزيع النشرات السرية والصحف الواردة من خارج العراق ثم تطور هذا المكتب إلى أن أصبح علنياً باسم "الحزب الوطني" ، وقد أدى دوراً مهماً خلال الثورة في توزيع النشرات التي يقوم بتنظيمها الشيخ محمد باقر الشبيبي وتتضمن سير المعارك في مختلف ميادين الثورة.
ومن أهم الأدوار التي مارسها المثقفون الوطنيون في الاعداد للثورة هي متابعة حركات البريطانيين في كل مكان ونشر مساوئهم لاسيما ما يتصل بالضرائب التي فرضوها على المدنيين والعشائر بدون انصاف ، فقد فرضوا ضرائب مضاعفة عما كان يتقاضاه العثمانيون وقد عمل زعماء الحركة الوطنية على نشر هذه المساوئ بين رجال العشائر وسكان المدن وربما كانوا يهولون في بعضها في بعض الأحيان لزيادة النقمة على المحتلين ، فكان زعماء العشائر يتشائمون من المستقبل المظلم الذي ينتظرهمكما كانوا يبثون " اشاعات عن اضطرابات وشيكة الوقوع بواسطة المعلمين(وغيرهم من الدعاة المثقفين الذين يتصلون بالعشائر وبمختلف طبقات الشعب من كسبة وعمال وحرفيين " وفد أرسل مئات الدعاة لهذه المناسبة إلى جميع أنحاء الفرات الأوسط"، فساعدوا على نشر الحماس في نفوس المواطنين العراقيين . لقد ساهمت الفئات المثقفة في بلورة الموقف العام وجعلته يبدو واضحاً للجماهير وعرفتهم ان القوة هي الوسيلة الوحيدة لاستعادة الحقوق.
كانت الصحف والمجلات والجرائد التي اصدرها عدد من المثقفين العراقيين تؤدي دوراً كبيراً في التاريخ السياسي والفكري للعراق ، بما قدمته من أفكار وآراء ومعطيات سياسية ساهمت في دعم الحركة الوطنية في العراق ، كما ساهمت هذه المجلات والجرائد في نشر الوعي الوطني والقومي لدى العراقيين وكشفت لهم الحقائق عن بشاعة الاستعمار وضرورة اخراج المحتلين من
بلدهم ، ودعتهم إلى التمسك بالوحدة الوطنية والمطالبة بالسيادة والاستقلال للعراق . وأول مجلة عربية دعت إلى الثورة ونشرت مفاهيمها "اللسان"، إذ كانت "تنادي بالحرية والسيادة والاستقلال "، وقد عالجت منذ صدورها القضايا الوطنية والقومية ، كما انها كانت أول صحيفة أهلية تطالب بحقوق العراق في الحياة والدعوة للنهوض ، وكانت واسعة الانتشار لقيامها بمعالجة القضية العربية واظهار محاسن المدنية العربية وترمي إلى تذكير الأذهان في العراق بما كان لأمتهم من المكانة السامية لا سيما في نفوس الشباب العراقي المتحمس للثورة ، مما شجع المثقفين ان يرسلوا مقالاتهم وأبحاثهم لتنشر على صفحاتها .
وعندما قررت قيادة الثورة اصدار صحف ناطقة باسمها لتنقل اخبار الثورة أولاً بأول لترد على مجلات الدعاية البريطانية ضد الثورة أصدرت قيادة المثقفين في النجف المحررة من السلطة البريطانية ، جريدة الفرات وأتبعتها بجريدة الاستقلال(، ثم ظهرت في بغداد جريدة "الاستقلال البغدادية"(، وقد شكلت تلك الصحف نواة الصحافة الوطنية آنذاك .
كما تصدت تلك الصحف إلى مواجهة المحتلين من خلال المقالات والكتابات التي كانت تنشر في صفحاتها ، فقد أدى المثقفون العراقيون دوراً وطنياً في كتابة البيانات والمقالات التي تندد بالاحتلال ، الذي لا يتفق مع المدنية والإنسانية ، إذ ان الاحتلال يعني تهديم دعائم النظام الاجتماعي واسقاط حقوق الإنسان وسلب الحريات ومصادرة الملكيات . فنقرأ ما قالته الفرات في أحد أعدادها في هذا الشأن :
(وشاهدنا قوماً ليسوا من البشر ، أفسدوا البلاد واضطهدوا العباد ، وسحقوا القوانين العامة ، وهتكوا حرمة الشرائع الموضوعة ، وهدموا دعائم النظام الاجتماعي … قلب صفحات التاريخ القديم والحديث فلا تجد سوى البريطانيين أفسدوا النظام ، واسقطوا حقوق الإنسان فلا حرية ولا طمأنينة ونزعوا الملكية وهي من حقوق الإنسان المقدسة لأنها من لوازم الحرية والمساواة ، نعم فهم كما أسقطوا حقوق الإنسان المدنية أسقطوا حقوقه السياسية فعاد ولا حق له ، محروماً من كل ميزاته محروماً من عمومياته وذاتياته).
كذلك من مواقف صحافتنا الوطنية في تلك المرحلة والتي أسهمت في تعرية أهداف الاستعمار البريطاني نقرأ ما قالته "جريدة الفرات" أيضاً في هذا الشأن : "…ان البريطانيين اسقطوا حقوق الإنسان المقدسة " ثم خاطبت البريطانيين بهذا الخطاب الذي ينم عن جرأة وثقافة وطنية : (لقد هدمتم هذا الركن بمقالع من السياسة التي أهلكت الحرث والنسل وأتت على الأخضر واليابس فتراب كل منطقة يشهد بأنكم سلبتم الحب حتى من منقار الطائر واستخرجتم المخ من العظم وضاعفتم الخراج أضعافاً للزارع فأصبحوا يسألون الناس إلحافاً وأنتم تسألونهم فوق الجهد وتكلفون نفوسهم فوق الوسع أهذا عدلكم).