كاشف الغطاء وداروين.. وتيتانيك!

كاشف الغطاء وداروين.. وتيتانيك!

د. رشيد الخيّون

دُعيت للمشاركة في حفل مؤسسة الإمام الخوئي، المرجع الشِّيعي المعروف، وقبلت الدَّعوة لتقديري لهذه المؤسسة. أولاً أنها ليست حزبية ولا سياسية، والجميع يجد له مكانًا فيها، فليست قليلة فيها ملتقيات الأديان والمذاهب. أتذكر هاتفني أحدهم مِن خارج لندن، وسألني بنية اللقاء معي: هل تلتقي في مؤسسات إسلامية، قلت له: لا، ما عدا مركز الخوئي!

قال: عجبًا هذه لا غيرها! قلت: لأنه لا يمثل حزبًا، ولم يصبه نوال ما بعد النِّظام السَّابق.

كان الحفل بمناسبة مرور اثنتين وعشرين سنةً (حسب التاريخ الهجري) على وفاة السَّيد أبي القاسم الخوئي (1992)، وعشرين على اغتيال نجلة السَّيد محمد تقي (1994)، وعشر على قتل نجلة السيد عبد المجيد (2003).
فكرت ماذا سأقول في كلمتي، ومثل تلك المؤسسات لها تقاليدها التي قد لا أجيدها، الخطاب المنبري فيها، وما تستهل به عادة الخطب والكلمات؟ لكنهم يعرفون ذلك جيدًا، ولم يطلبوا مني ورقة مقدمًا، وهذا ما سرّني للثقة بيني وبينهم، فما زالت المؤسسة خارج الإسلام السِّياسي، الذي يغرق العراق بالأوهام والفساد، لا تتحدَّد بخطاب آيديولوجي، لا تتشدَّد ولا تمنع، فانتهزتها فرصة؛ لأُعرف بماضي النَّاس.
كان الحضورُ عمائمَ سودًا وبيضًا، لكن ليس بينها خارج خطاب صاحب المؤسسة، فأظن أغلب الحاضرين -إن لم يكونوا كافة- ليسوا مع مزج الدِّين بالسِّياسة مزجًا حزبيًّا، وفي مقدمتهم آيات الله: الشَّيخ فاضل المالكي، وقد ألقى خطبة جامعة مانعة، أتى فيها على مكنون حياة وفقه أستاذه الخوئي، وآية الله السَّيد فاضل الميلاني.
وقفت محاولاً تحاشي المستهل التقليدي، الخاص بعلماء الدِّين، فألقيت السَّلام على السَّادة والشِّيوخ، ففي العرف الدِّيني عليك أن تشخِّص صاحب العمامة السَّوداء بالسَّيد، وصاحب العمامة البيضاء بالشِّيخ، وهذا مفتاح الاطمئنان تجاهي، وأنا أقف أمامهم “ببيريتي”. حاولت في الكلمة استنهاض ماضي النَّجف، والتي هي المكان الذي تأسست به مرجعية صاحب المؤسسة، والمرجعيات الكبرى في التَّاريخ كافة، منذ بدأت الحوزة الدِّينية تُخرج العلماء بالنَّجف، وذلك بعد هجرة (448 هـ) شيخ الطَّائفة أبي جعفر محمد بن الحسن الطُّوسي (ت 460 هـ) إليها مِن بغداد. حصر صادرها وواردها ابنها أحمد الصافي النَّجفي (ت 1977): “صادرات بلدتي عمائم/وواردات بلدتي جنائز”. كان مِن هذه العمائم مراجع وشعراء كبار، بمنزلة محمد مهدي الجواهري (ت 1997)، وأدباء، وهي قد تحايلت على مشهد الجنائز اليومي بما عُرف عن أهلها خفة الروح.
بينت خطة كلمتي المرتجلة في ثلاث نقاط: النَّجف، والضغوط التي واجهت أبي القاسم الخوئي، من ثلاثة أطراف في زمن كان يمور ويموج بالسياسة والفتن والحرب: الحكومة ببغداد تريد شرعية في الحرب، طهران تريد شريعة في حربها، والأحزاب الدينية السياسية تريد للمرجعية أن تكون حزبًا، أو تُقزم إلى منظمة أيديولوجية، فأخذت تلك الأحزاب تكرر في خطابها: المرجعية الصامتة أو الساكتة والمرجعية النَّاطقة!
ولأن الخوئي لم يسايرهم أطلقوا على مرجعيته “الساكتة”، وكذلك أطلقوها حينها على تلميذه السَّيد علي السِّيستاني، فهم يُريدون للمرجعية الانتحار كي يأتوا إلى السلطة، وهاهم أتوها، فماذا؟! النقطة الأخرى التي تحدثت فيها عن الصَّديق عبد المجيد الخوئي، الذي ذهب إلى النَّجف قُبيل السُقوط؛ كي يحاول المساهمة بإنقاذ ما يمكن إنقاذه، والمساهمة بحماية مدينته مِن شرِّ فراغ السُّلطة والفوضى! لكنه قُتل في اليوم الثَّاني (10 نيسان/أبريل 2003)، والمشهد معروف مشهور.
عدت بالزَّمن إلى العقد الأول مِن القرن العشرين، كي أثير حفيظة الحريصين على العراق والنَّجف، فالمشاهد التي تُقدم في هذه المدينة وبقية مدن العِراق، حيث تمتد مرجعية هذه المدينة، تعكر المزاج وتملأ القلوب يأسًا مِن القوى المهيمنة، التي لا تجيد سوى إغراء النَّاس مِن أجل الانتخاب، وكيف تفسد في المال، وتحط مِن قدر العقل.
معلوم أن في (1910) كانت مدن العراق نسيًا منسيا، لهذا أن تصدر مجلة بعنوان “العِلم” بالمدينة الدِّينية، وبإدارة عالم دين هبة الدِّين الشَّهرستاني (ت 1967) لأمر ليس بالهين، وتناقش الضوء والظلام، وتأتي بأخبار الاختراعات والاكتشافات، وكأنها مجلة “المقتطف” المعروفة، وأن صاحبها يسعى إلى تهذيب المواكب الحسينية مِن اللطم والعويل إلى الخطابة والشِّعر، وأن يفتي بحرمة نقل الجنائز إلى النَّجف، أمر ليس بالقليل.
في ذلك العام (1910) خاطبت الدّولة العثمانية المرجعية بالنّجف، في الموافقة على إدخال كتاب «أصل الأنواع» بعد أن أنجز ترجمته شبلي شميل (ت 1917)، فأفتوا بجواز إدخال الكتاب، على أن يُسمح لهم بالرَّد عليه (شمس الدين، حديث الجامعة النّجفية، 1956).
حصلتُ على صورة لنسخة مِن كتاب شبلي شميل “فلسفة النُّشوء والارتقاء” مِن مكتبة آل كاشف الغطاء بالنَّجف، الطبعة الأولى (مصر: مطبعة المقتطف 1910)، كُتب على غلافها عبارة مختومة: “طالع هذا الكتاب بكلِّ تمعن، ولا تطالعه إلا بعد أن تطلق نفسك مِن أَسر الأغراض؛ لئلا تغم عليك وأنت واقف تطل على العالم مِن شرفةِ عقلك، تتلمس الحقيقة مِن وراء ستارها”.
أول مَن ردَّ على الكتاب، مِن العِراقيين، الشَّيخ محمد حسين كاشف الغطاء (ت 1954)، وذلك ضمن كتابه “الدِّين والإسلام” أو “الدَّعوة الإسلامية”، والرَّد لم يُخصص نظرية “النُّشوء والارتقاء” إنما واضح أن كتاب شبلي شميل كان هو المحفز، صدر الرَّد العام 1911 وقد علمنا أن كتاب شميل صدر العام 1910. ورد في الرَّد: “الدَّاروينية وعُباد الطَّبيعة الذين يرون الإنسان إلا خلايا مضمة وأجزاء مجتمعة، وشيكًا ما تنحل وتذهب أدراج الريَّاح”..
يأتي بعد رد كاشف الغطاء رد الشَّيخ محمد رضا الأصفهاني(ت 1943)في كتابه “نقد فلسفة دارون” (مطبعة ولاية بغداد 1912)، فقد ورد على غلاف الكتاب عبارة “مطبعة الولاية العامرة”. حاول الأصفهاني تقديم رده بحذر؛ كي لا يفهم أنه ضد دارون وبخنر وشميل المسيحيين، لذا قدم لكتابه قائلاً: “كتابي هذا موضوع للدِّفاع عن الدِّين المطلق في قِبال اللادين المحض، لا للانتصار لدين على دين والانتصاف لبعضه مِن بعض، ولهذا تراني أدفع ما استطعت عن الأديان لا انتحلها، ومذاهب لا أقول بها. لأن أحد هؤلاء لا يثلب دينًا إلا وقصده ثلب الأديان عامة”.
الجدير بالذكر نجد ضمن قائمة مؤلفات الشيخ الأصفهاني كتابًا بعنوان “القول الجميل إلى صُدقي جميل” (الغروي، مع عُلماء النَّجف)، والمقصود هو الشَّاعر الزَّهاوي (ت 1936)، القائل بأنه أدخل نظريته إلى العِراق وشاعت بسببه. قال: «المذهب القوي في رأيي هو مذهب داروين في النّشوء والارتقاء، وقد تبعته، ولم يتبعه غيري قبلي، وقد شاع بسببي في العراق» (الرشودي، الزهاوي دراسات ونصوص). هذا وله شعر يقول:
رجعتُ إلى الماضي البعيد بفكرتي
وقلتُ لقردِ الغالب ما لكَ مِن قردِ
تَقلبتَ في الأصلاب دهرًا وبعدهُ
نسلتَ ابنك الإنسان نادرةِ الولدِ
(عبد الجبار، النّزعة العِلمية في الفكر العربي الحديث).
كذلك ردَّ متأخرًا على صدور كتاب شبلي شميل، مِن فقهاء العِراق، الشَّيخ محمد جواد البلاغي (ت 1933)، ضمن “الرِّحلة المدرسية والمدرسة السَّيارة”، تولت طباعته المطبعة الحيدريَّة بالنَّجف العام 1928، وقد خصص الجزء الثَّاني لنقد نظرية “داروين” تحت عنوان “مذهب داروين في أصل الأنواع”.جاء الرَّد عبر محاورة متخيلة: “فتصفحت أقوال داروين وبخنر وغيرهما في ذلك، فرأيت الذي ذكروه مِن التشبثات أمورًا”.
بعد عدة عقود يقوم الباحث يوسف هادي بتحقيق كتاب “الرِّحلة المدرسية”، ويصدره تحت عنوان “الرِّحلة المدرسية بحوث في التَّوراة والإِنجيل”، لكنه للأسف يحققه ويصدره خاليًا مِن الفصل الخاص بنظرية داروين، وفصل آخر في النفس والجوهر الفرد وعذره الذي لا يعتبر عذرًا.
يُعد احتفاظ النَّجف بكتاب داروين، سليمًا منذ ذلك التَّاريخ، أي لا يفتى بحرقة ولا يغرى الغوغاء في التظاهر ضد مَن امتدحه، ولم تجعله مِن الممنوعات، وتسمح بدخولها والرَّد عليها، تكون لهذه المدينة الدِّينية بادرة حضارية وتسامحية. لقد تُرجم هذا التَّسامح، لعل مدن الشَّرق لم يسبقها إليها، في قصائد رثاء الباخرة تايتنيك، التي تحمل مِن مختلف أجناس النَّاس وأديانهم.
دار بأبو ظبي الحديث مع مخرج «تايتنيك» “جيمس كاميرون” حول تلك القصائد، وسأل من جانبه: هل تُرجمت إلى الإنجليزية؟ فقد نشر الشَّيخ علي الشَّرقي (ت 1964) قصيدته «دمعة على مستر سيد» في صحيفة «جبل عامل»، ثم مجلة «العرفان» الصيداوية (أبريل 1912)، مع علمنا أن الباخرة غرقت في 15 أبريل 1912، فربما كان التَّفاوت بين الحادثة والقصيدة أيامًا.
قال الشَّرقي راثيًا داعية السَّلام مستر سيد، أحد غرقى الباخرة:
رنت عيني لمبسمه فأثرت
ألم ترها تلون بالعقودِ
ترفع عِقده فأطحت عِقدي
ولوحَ جيده فلويتُ جيدي
وفي الباخرة قال:
أسيدة البواخر عنك تُفدى
لو اكتفيت الرَّزية بالمسودِ
(ديوان علي الشَّرقي).
قيل داعية السَّلام فطبول الحرب الكونية الأولى كانت تقرع.
بعد أربعة شهور مِن غرق تايتنيك نشر الشَّيخ محمد رضا الشِّبيبي (ت 1965) في «لغة العرب» (آب 1912) قصيدته:
بأبيك أقسم يا ابنة البحر الذي
وأراك كيف رأيت فتك أبيك
ما حط ثقلكِ في حشاه إهانة
لكنه فرط احتفال فيكِ
يا بابل البحر الضم سحرتنا
سحراً أرى هاروت في تايتنيكِ
زعموا ضللتِ ولو أردت هدايةً
كان المحيط بنفسه هاديكِ
هذا شيء مِن الجانب الآخر للنَّجف، التي أراها مِن خلاله وما قرأته وشهدته عنها وفيها، أنها مدينة متسامحة الجوهر، متشددة المظهر، والأول اللُّب والثَّاني القشر.
أنهيت كلمتي بالقول عن هذه المدينة: ما في عقلك وفي بيتك لك، وما في المدينة للمدينة، فلم يحصل أن فَزَّعت المرجعيات الغوغاء لكسر باب على أحد بما يسمونها بالمعاصي، أو منعت قصيدة أو حجبت كتابًا. إنها مدينة لا تليق لميليشيات ولا عصابات طهورية، ولا أحزاب وتنظيمات سياسية. هذا هو خط مرجعيتها الأصل، لكن في الآونة الأخيرة أخذت تُحاصر بمرجعيات سياسية حزبية، الأرض النَّجف والقبلة ولاية الفقيه! تلك التي لم تقترب مِن مرجعية أبي القاسم الخوئي، ولم يقترب منها، لذلك أطلقوا عليها نفاقًا: الصَّامتة أو السَّاكتة!

عن جريدة
الاتحاد الاماراتية