ايمانويل كانت..  فيلسوف المثالية والسلام الأبدي

ايمانويل كانت.. فيلسوف المثالية والسلام الأبدي

اعداد/ منارات
يعد الفيلسوف الألماني كانت من أهم آباء الفلسفة المعاصرة فهو أول من شدد على ضرورة التفريق الصارم بين الأخلاق كمنظومة قيمية تربوية وبين الدين. كما يعد كانت رائد السلام الأبدي الذي يهدف إلى تأسيس منظومة عالمية لحفظ السلام.


يرتبط اسم الفيلسوف الألماني ايمانويل كانت, الذي يعتبره البعض بمثابة أكبر فيلسوف عرفته أوروبا منذ قرنين على الأقل, ارتباطا وثيقاً بندائه الشهير الذي استهله بعبارة"اعملوا عقولكم أيها البشر.", التي تعد من أهم شعارات حركة التنوير الأوروبية التي أعادت الاعتبار إلى سلطة العقل, علاوة على تأكيدها على ضرورة احترام فردية كل إنسان واستثمار تنوع المواهب البشرية بعيداً عن الإرث الجمعي التقليدي. وبالإضافة إلى ذلك فإن هذه الصيحة الكانتية عبرت بشكل واضح عن النقلة النوعية التي شهدتها أوروبا آنذاك في القرن الثامن عشر في عصر التنوير. وعلى هذا النحو أسهم كانت في تبديد غياهب ظلام العصور الوسطى المحيطة بالعقول.‏

ماهية عصر التنوير‏
أطروحة السلام الأبدي لكانت لم تفقد من أهميتها حتى اليوم إذ أجاب ايمانويل كانت على السؤال الجوهري الذي يستكشف ماهية عصر التنوير بقوله:"إنه خروج الإنسان عن مرحلة القصور العقلي وبلوغه سن النضج أو سن الرشد."كما عرَّف القصور العقلي على أنه"التبعية للآخرين وعدم القدرة على التفكير الشخصي أو السلوك في الحياة أو اتخاذ أي قرار من دون استشارة الشخص الوصي علينا."ومن هذا المنظور جاءت صرخته التنويرية لتقول:"اعملوا عقولكم أيها البشر! لتكن لكم الجرأة على استخدام عقولكم! فلا تتواكلوا بعد اليوم ولا تستسلموا للكسل والمقدور والمكتوب. تحركوا وانشطوا وانخرطوا في الحياة بشكل إيجابي متبصر. فالله زودكم بعقول وينبغي أن تستخدموها، لكن كانت لم يفهم التنوير نقيضاً للإيمان أو للاعتقاد الديني, وإنما شدد على أن"حدود العقل تبتدئ حدود الإيمان"كما حذر من الطاعة العمياء للقادة أو لرجال الدين كما حصل في دولة بروسيا لاحقاً.‏

نحو السلام الأبدي‏
بلور كانت مفهوما جديداً من نوعه لطبيعة العلاقات بين الدول على أرضية تقوم على القانون الدولي, كما سعى إلى إقامة السلام الدائم بين الشعوب عن طريق عدم اتخاذ الإنسان وسيلة وإنما دائماً غاية, وهو ما يعني احترام الكرامة الإنسانية لدى الآخر بأي شكل كان. وانطلاقا من هذا المفهوم يرى أن تحقيق السلام لن يتم إلا عبر تغيير الإنسان وتربيته أخلاقياً بهدف جعل الحرب أمراً مستحيلاً. يذكر أن هذه النظريات الفكرية المثالية أدت لاحقاً إلى تشكيل عصبة الأمم بعد الحرب العالمية الأولى من أجل حل الصراعات بين الدول على أساس القانون الدولي. وفي النهاية أدت أطروحاته التي لم تفقد أهميتها حتى الوقت الحاضر إلى تطوير عصبة الأمم لتتحول إلى الأمم المتحدة بعد الحرب العالمية الثانية.‏

حيـاتـه‏
ولد ايمانويل كانت في 22 نيسان 1724 في مدينة كونغبرغ, الواقعة على الحدود الشمالية الشرقية لألمانيا, من أبوين فقيرين, إذ كان أبوه يعمل سرّاجاً, بينما كانت أمه من أسرة متواضعة. ينتمي الوالدان إلى شيعة بروتستانتية تدعى الشيعة التقوية وتستمسك بالعقيدة اللوثرية الأساسية القائلة بأن الإيمان يبرّر المؤمن, وتعلي من شأن القلب والحياة الباطنية.‏
في الثامنة من عمره دخل إحدى المدارس التابعة للشيعة التقويّة, وأتم برامجها في السادسة عشرة. وكان أظهر ما أفاده فيها شيئان: إعجاباً باللغة اللاتينية, وبالرواقية الرومانية وما تتحلى به من نبل وشجاعة. وبعد المدرسة اتجه الى كلية الفلسفة بجامعة مدينته بقصد دراسة اللاهوت ليصير قسيساً ولكنه عدل عن هذا القصد فيما بعد.تتلمذ بالكلية للرياضيات والفلسفة من أتباع التقوية ومن أتباع فولف. عام 17 تقدم برسالة جامعية حاول فيها التوفيق بين ديكارت وليبنتز في مسألة قياس قوّة الجسم المتحرك. توفي والده, فرأى أن يكسب رزقه بالتعليم في أسرة غنية, وزاول هذا العمل في ثلاث أسر على التوالي عند أهل منطقته, قضى في ذلك تسع سنين لم ينقطع خلالها عن التحصيل والتفكير.بعد ذلك حصل على درجتين جامعيتين حتى ذلك الوقت كان تحت تأثير فولف ونيوتن ميتافيزيقياً وعالماً طبيعياً.‏
ثم جاءت المرحلة الثانية من 1760 إلى شرع كانت فيها بنقد الفلسفة العقلية في النظريات والخلقيات قبل أن يستبين مذهبه. وأبرز الكتب التي كتبها كانت هي"نقد العقل الخالص"و"نقد العقل العمل"و"ميتافيزيقيا الأخلاق". ولقد توفي هذا الفيلسوف في العام ,1804 عازباً.

المعرفة عند كانت‏
المعرفة تتألف من عنصرين: مادة وصورة, بحيث لا توجد المادة في الفكر بدون صورة, وبحيث لا يكون للصورة في نفسها أي معنى لأن وظيفتها الاتحاد بالمادة. المادة موضوع الحدس الحسي, وليس لنا من الحدس سواه ; والصورة رابطة في الفكر تسمح بتركيب حكم كلي ضروري لأنها هي أولية. هناك إذاً مادة للفكر ووجود خارجي, وكانت لا يتابع التصورية المطلقة في إنكار هذا الوجود أو التشكك فيه, وإن يكن مذهبه يمنع من القول به. هنا نجد كانت يذهب إلى ما ذهب إليه أرسطو, بأن الكون هو الهيولى والصورة. ويحصر المعرفة فيما يأخذه من الخارج وما يضيف إليه الفكر, بمعنى آخر أن المعرفة هي تركيب ما تراه وتحسبه الحواس مع ما يتخيله الفكر.‏
هناك مصدران للمعرفة البشرية في رأي كانت ألا وهما الحساسية والفهم ; والمصدر الأول هو الذي يمدنا بالموضوعات, في حين أن المصدر الثاني هو الذي يسمح لنا بتعقل تلك الموضوعات. ولكن كانت حتى حين يتحدث عن الحساسية, فإنه يفرّق بين صورة الحدوث الحسّية ومادّتها, على اعتبار أن المادة هي موضوع الإدراك الحسي, أو هي ما يقابل - الإحساس- في صميم الظاهرة, في حين أن"الصورة"هي المبدأ الباطن في الذات العارفة, والذي يسمح لها بتنظيم مضمون الظاهرة, وفقاً لبعض المعلومات الخاصة, ومعنى هذا أن المادة تمثل كل ما يصدر عن الموضوع, وما هو بطبيعته متغير حادث, في حين أن الصورة تمثل كل ما يصدر عن الذات, وما هو بطبيعته كلي ضروري... فالمعطيات الحسّية هي إمدادات حقيقية ترد إلينا من العالم الواقعي, وليست مجرد أوهام ذاتية من نسج العقل, كما وقع في ظن أصحاب المثالية الذاتية. ولكن ليست مهمة نقد المعرفة سوى العمل على تبين ما يرد إلينا من الخارج, وما نضفيه نحن على المعطيات الحسية, عن طريق ما لدينا من صور أولية سابقة على التجربة. وبالنسبة إلى المكان والزمان باعتبارهما صورتي الحساسية, فإن كانت يرى أن المكان والزمان هما صورتان أوليتان تخلعهما الحساسية على شتى المعطيات الحية التي ترد إليها من الخارج, دون أن يكون لهما أدنى وجود واقعي في العالم الخارجي, باعتبارهما موضوعين قائمين بذاتهما.‏
إن الزمان ليس شيئاً موضوعياً واقعياً, كما أنه ليس جوهراً أو عرضاً أو رابطة, بل هو الشرط الذاتي الذي يجعل في وسع العقل البشري أن يحقق ضرباً من التآزر بين جميع الموضوعات الحسية, وفقاً لقانون محدد , فالزمان إذاً حدث صرف. وهكذا الحال أيضاً بالنسبة إلى المكان, إنما هو صورة تخطيطية ذاتية تصورية, تنبع وفقاً لقانون ثابت, من طبيعة الذهن, وتجعل في الإمكان تحقيق الترابط أو التآزر بين جميع الموضوعات الحسية الخارجية. ولكن كانت لا يقتصر على القول مع ليبنتز, بأن المكان والزمان مفهومان مجردان للامتداد والديمومة الحسيين, بل هو يذهب إلى أن المكان والزمان هما حدسان أوليان أو صورتان خالصتان للحساسية, تنطبقان على مادة الخبرة, فتولدان تمثل الامتداد والديمومة الحسّيين.‏

من المعرفة إلى الوجود‏
يذهب مؤرخو الفلسفة إلى أنه إذا كانت مشكلة الوجود هي الموضوع الرئيسي الذي أثار اهتمام الفلاسفة القدماء, فإن مشكلة المعرفة هي المحور الأساسي الذي دار حوله تفكير الفلاسفة المحدثين. وعلى حين كان الأقدمون ينتقلون من الوجود إلى المعرفة, أصبح المحدثون ينتقلون من المعرفة إلى الوجود. ولكن, هل يمكن أن يكون ثمة انتقال من المعرفة إلى الوجود عند كانت, بعد أن أعلن بصراحة استحالة تجاوز العقل لعالم الظواهر - ليست الميتافيزيقيا في عرف أصحابها, إنما هي إدراك موضوعات خارجة عن نطاق التجربة - فكيف يمكن أن نسلم بإمكان قيام علم يكون موضوعه هو - الوجود من حيث هو موجود- في حين أن كل هدف النقد الكانتي قد انحصر في بيان استحالة الانتقال من عالم"الظواهر"إلى عالم"الأشياء في ذاتها".‏
إن كانت صاحب الفلسفة النقدية قد سلم منذ البداية بأنه ليس لدينا أي- حدس عقلي- نستطيع عن طريقه أن نرقى إلى مستوى تأمل - الموضوعات المطلقة- أو الحقيقة اللا مشروطة, أو الجوهر بالذات, ومن هنا فإنه لا موضع للشك في أن كانت قد أراد أن يهدم الميتافيزيقيا التي ظهرت منذ عهد أفلاطون وأرسطو حتى عهد ليبنتز وفولف, فأثارت بين أصحاب المدارس المختلفة خلافات عقيمة ومناقشات غير مجدية... نجد أن عجز الميتافيزيقيا عن انتزاع إجماع المفكرين شاهد على قصور العقل البشري عن معرفة"الشيء في ذاته"أو"المطلق-"أو"اللامتناهي".‏
ولقد قرر كانت أن لديه, عن طريق التجربة الخارجية , شعوراً بوجود الأجسام في المكان, كما أن لديه, عن طريق التجربة الباطنية , شعوراً بوجود نفسه في الزمان, من دون أن يكون في وسعه أن يعرف هذه النفس, اللهم إلا باعتبارها موضوعاً لإحساس باطني يستند إلى بعض الظواهر التي تكون حالة داخلية, بينما تظل ماهية النفس في ذاتها, باعتبارها عامة لكل هذه الظواهر, شيئاً مجهولاً لديه تماماً.‏