احمد فياض المفرجي
البدايات
تحدد ظهور النشاط المسرحي في العراق الحديث خلال الربع الأخير من القرن التاسع عشر .. ولم يتفق الباحثون و الموثقون حتى الأن على تاريخ ( يوم – – شهر سنة ) لبداية هذا النشاط ، و من كان اول رائد له ؟. الا ان الأشارات قد كثرت الى ما كان يعرض و يكتب خلال سنوات التأسيس التي تمتد الى عام 1921 ، حيث انفصل العراق عن الأمبراطورية العثمانية ، وكون دولته الجديدة التي تولت تشريع القوانين و الأنظمة و التعليمات التي حاولت تنظيم المجتمع ، و كان للحياة المسرحية نصيب في ذلك .
فقد صدر اول قانون للجمعيات عام 1922 الذي اجيزت بموجبه الفرق التمثيلية و الجمعيات الفنية .
ان الأتفاق قائم الأن ، على ان مدينة الموصل في محافظة نينوى قد شهدت بدايات النشاط المسرحي في العراق ، وقد طبع اول كتاب مسرحي عام 1893 ، احتوى مسرحية ( لطيف و خوشابا ) التي تولى ( نعوم فتح االله سحار ) ترجمة نصها عن اللغة الفرنسية و إسقاط موضوعها على واقع المجتمع العراقي وصوغ حوارها بلغة دارجة .
وهناك عروض عديدة ، قدمت في نينوى و بغداد خلال العقدين الأولين من القرن العشرين ، و كانت هذه العروض تقدم من قبل المدارس و يتولى المعلمون إخراجها و يقوم الطلبة بتمثيلها ، و في اطار هذه الفترة شاهد الجمهور عروضا باللغات العربية و الفرنسية و الأنكليزية .
و خلال هذه المرحلة التي سبقت عام 1921 صدرت بضع مسرحيات طبعت داخل العراق و خارجه ، نذآر منها المسرحية الشعرية ( لهجة الأبطال ) للدكتور سليمان غزالة ، و التي تمت طبعتها الثانية عام 1911 ، أي قبل ان يطبع الشاعر احمد شوقي كل مسرحياته التي ذاع صيتها . ولمؤلف هذه المسرحيات مؤلفات عدة ، في الطب و اللغة و الأجتماع منشور بالعربية و الفرنسية ، وله الى جانب ذلك حوارية شعرية مطبوعة ، كما ان له رواية اسمها ( علي خوجة ) . ولم تظهر على مدى المرحلة نفسها اية فرقة تمثيلية ، فقد تبنت المدارس هذا النشاط و مارسته و عرضته للجمهور العام ، و شجعت طلابها على الأقبال عليه و للولع به . و من اقدم المدارس التي اشتهرت بنشاطها المسرحي في الموصل (محافظة نينوى ) هي ( مدرسة القاصد الرسولي ) و ( المدرسة الأكليركية للأباء الدومينيكيين ) و ( مدرسة شمعون الصفا ). وفي بغداد ايضا وجدت مدارس تابعة للمؤسسات الدينية ( المسيحية خاصة ) كانت تمارس النشاطات المسرحية ، التي كانت تشرف عليها لجان تضم الهواة من الطلبة و معلميهم ، مثل ( مدرسة الصنائع ) .
و بعد الأحتلال البريطاني ، و خلال الفترة التي سبقت عام 1921 ، ظهرت النوادي و التجمعات التي تسترت بالنشاطات الأجتماعية و الثقافية العامة ، وهي في جوهرها آانت تعمل من اجل اذآاء الروح الوطنية و تأجيجها ضد المحتلين ، ان هذه النوادي لعبت دورا في انعاش النشاط المسرحي ، الذي اتخذته سلاحها في جهادها ضد الغزاة الأنكليز ، و خاصة في بغداد و نينوى . اما البصرة ، فلم يجر فيها أي نشاط مسرحي كهذا خلال الفترة هذه .
الفرق التمثيلية
ذكرنا في فصل سابق ، ان الوثائق المتوفرة لدينا ، قد أكدت ان العراقيين في عهدهم الحديث قد عرفوا المسرح منذ بداية الربع الأخير من القرن التاسع عشر ، و قد نهضت بالحياة المسرحية خلال العقود الأربعة الأولى التي تنتهي عام 1921 المدارس و النوادي الأدبية و الجمعيات و الأحزاب ذات التوجه القومي ، و لم تظهر اية فرقة تمثيلية ذات صفة قانونية ، خلال هذه الفترة من تاريخ العراق السياسي ، التي تقع معظم سنواتها تحت الحكم العثماني ، اما السنوات الأخرى منها و امدها 1917 – 1920فكانت محكومة بالأحتلال البريطاني .
و بعد قيام سمي بالحكم الوطني ، اصدرت وزارة النقيب اول قانون للجمعيات عام 1922 سمحت بموجبه بتشكيل الجمعيات الفنية ، فكان اول المبادرين محمد خالص الملا حمادي الذي يروي عنه انه كان من انصار (ثورة العشرين ) 1920 و كان مراسلا لها في مدينة بغداد . حصل الفنان الرائد الملا حمادي على اجازة بتأسيس ( جمعية التمثيل العربي ) التي اقامت حفلات تمثيلية عدة في بغداد و البصرة ، و جاء عن هذه ( جمعية التمثيل العربي ) نجد اشارات متعددة الى عروض كانت تقدم على فكرة ( القرة قوز ) و غرست في الناس حب التمثيل الفني الحديث .
و عند الرجوع الى الصحافة الصادرة خلال الفترة التي عملت فيها ( جمعية التمثيل العربي ) نجد اشارات متعددة الى عروض كانت تقدم على مسرح ( رويال سينما ) من قبل ( هيئة التمثيل العربي الأهلية ) و ( جوق التمثيل العربي ) و نحن نميل الى القول بأن هذه الأسماء كلها كانت تعني ( جمعية التمثيل العربي ) و لدينا وثيقة اكدت ما ذهبنا اليه ، و هي اعلان نشر بصيغ مختلفة خلال شهري مايس و حزيران عام 1922 حول تمثيل ( رواية ثارات العرب ) لمنفعة انشاء مدرسة اهلية على مرسح رويال سينما – و كانت الأشارة الى الجهة التي يمثل الرواية المذكورة ، تجيء مرة بأسم (هيئة التمثيل العربي الأهلية ) و تارة الى ( هيئة التمثيل العربي الأهلية ) .. الخ
ولعل ابرز فرقة شكلت في هذه المرحلة من تاريخ النشاط المسرحي في العراق هي ( الفرقة التمثيلية الوطنية ) التي اقترنت باسم الفنان الرائد حقي الشبلي ، وقد تم تأسيسها في نيسان . 1927 لقد كان لهذه الفرقة دور آبير في انعاش النشاط المسرحي و توسيع رقعته ، خاصة في النصف الأول من الثلاثينيات ، عندما التف حولها العديد من الشباب الهواة ، و امتلكوا خبرة اهلتهم فيما بعد ، لتأليف فرق جديدة ، ازدهرت طوال الثلاثينات و حتى قيام الحرب العالمية الثانية ، حيث ساد الحياة الفنية سبات مؤقت .
ومن اؤلئك الفنانين يحيى فائق و عبد االله العزاوي و محمود شوكت و صفاء حبيب الخيالي و غيرهم من الذين ارادوا فرقا عدة ، بينها كانت ( الفرقة العربية للتمثيل ) و ( جمعية انصار التمثيل ) و ( فرقة المعهد العلمي)
سعيه لتأسيس الفرقة القومية للتمثيل
رافقت ( الفرقة القومية للتمثيل ) فكرة و سعيا و تنفيذا ، مسار التطور العام في العراق ، فهي كفكرة طرحت في عقد الثلاثينات من القرن العشرين الذي شهد بدايات تكوين المؤسسات الثقافية في العراق الحديث ، و ذلك اثر عودة طلائع البعثات من اوربا . وفي ذلك العقد آانت الحركات القومية و الوطنية تعيش مرحلة جديدة في نموها وفي احتدامها مع النظام الذي كان قائما في ذلك الوقت ، و الذي حال دون استقطاب الفنانيين المبعثرين في فرق تمثيلية منهكة بأوضاعها الأقتصادية ، و جمعهم من فرق تمثيلية منهكة بأوضاعها الاقتصادية ، و جمعهم في فرق جديدة ، تمدها الدولة بالعون و المؤازرة . وفي الأربعينات ، كانت للحرب العالمية الثانية انعكاساتها على مجمل الأوضاع الأقتصادية و الأجتماعية و الثقافية في القطر ، ادت الى اطلال مثقفي العراق على افاق جديدة ، شدتهم الى ما في اوربا من تقدم في الميادين المختلفة للحياة ، خاصة في الأدب و الفنون و العلوم ، و في هذه الفترة من تاريخ العراق ، صدرت صحف و مجلات كرست صفحاتها للنشاطات المسرحية و السينمائية . و من هذه المرحلة اتساع دور معهد الفنون الجميلة الذي تكون في موسم – 1940 1941 . كل ذلك ادى الى احياء فكرة تأسيس فرقة قومية للتمثيل / كحاجة لا بد من تحققها لجمع الفنانيين و توحيد صفوفهم و توظيفهم في نتاجات مسرحية جادة ، تبعدهم عن اجواء الملاهي التي كانت قد تكاثرت و اشاعت السطحية و اللامبالاه و التفاهة . و كان الفنان الرائد الأستاذ حقي الشبلي وراء الدعوة الى تأسيس الفرقة القومية للتمثيل ، لكنه لم يفلح في مسعاه . وقد تبنى هذه الدعوة ايضا تلامذة الفنان الشبلي ، نذكر منهم الفنان بدري حسون فريد الذي قاد حملة جادة لتأسيس الفرقة ، و ذلك على صفحات مجلته ( الفن الحديث ) التي اصدرها في الخمسينات .
وعندما حل عقد الستينات الذي اتسعت فيه التطلعات الى الجديد و الأجمل و الأفضل ، ارتفعت الدعوة مرة اخرى الى وجوب الأسراع بتشكيل الفرقة القومية للتمثيل . وفي العام 1965 من هذا العقد ، و بفضل الفنان حقي الشبلي مدير عام ( مصلحة السينما و المسرح ) قدمت أربعة عروض بأسم ( الفرقة القومية للتمثيل ) اخرجها الفنان المعروف سامي عبد الحميد ، وهذه الأعمال هي ( تاجر البندقية ) لشكسبير و ( النسر له رأسان ) لجان كوكتو و ( الحيوانات الزجاجية ) تأليف تنسي وليامز و ( انتيكونا ) لجان انوي . و بعد ان استكملت هذه التجربة مقوماتها تم تشكيل الفرقة القومية للتمثيل عام 1968 رسميا ، بعد تهيئة كادرها من خريجي اكاديمية الفنون و معهد الفنون الجميلة ، و من بعض فناني المسرح المعروفين في بغداد و في عدد من المحافظات . ان الفرقة القومية للتمثيل التي تتبع دائرة السينما و المسرح في وزارة الثقافة و الأعلام تضم الأن فنانين و فنيين من مختلف اجيال حركة المسرح في العراق . و على مدى تاريخها ( – 1988 1968 ) قدمت عشرات العروض المسرحية لكتاب عراقيين و عرب و اجانب ، و تمثلت فيها الأساليب و الأتجاهات السائدة في الحياة المسرحية المعاصرة في العالم . من الكتاب العراقيين الذين عرضت لهم الفرقة : موسى الشابندر و يوسف العاني و عادل كاظم و قاسم محمد و طه سالم و غازي مجدي و علي الشوك و بدري حسون فريد و سليم الجزائري و كامل الشرقي و د . فائق الحكيم و محسن العزاوي و فاروق محمد و سامي عبد الحميد و عزيز عبد الصاحب و فلاح عبد اللطيف و صباح عطوان ووجدي العاني و عزيز خيون و فتحي زين العابدين و علي مزاحم عباس و عبد الجبار حسن و يوسف الصائغ و كريم العراقي .
و للكتاب العرب ، قدمت الفرقة القومية للتمثيل أعمال الفريد فرج و سعد الله ونوس و صلاح عبد الصبور و محمود دياب و د . ابراهيم بدران .. الخ اما الكتاب الأجانب الذين قدمت لهم الفرقة على مدى عقدي ( 1968- 1988 ) فأننا نذكر منهم برتولد بريشت و البير آامو و يوجين اونيل و ناظم حكمت و الكسي اربازوف و آاسونا و ارثر ميللر و كولدوني و اجاثا آريستي و غيرهم . وقدمت الفرقة القومية للتمثيل عروضها في العراق ، و في عدد من الأقطار العربية وهي مصر و سوريا و ليبيا و الكويت و الأمارات العربية و قطر و تونس و الجزائر و المغرب و اليمن .. و تأتي هذه الزيارات توثيقا لروابط الأخوة و اتاحة فرص التعرف على تجارب المسرح العربي و دراسة مشكلاته . و حرصت الفرقة على المشاركة في المهرجانات المسرحية العربية ، تعميقا للأواصر ، و اسهاما في المسؤوليات الساعية الى تحقيق مسرح عربي ، يمتلك سمات مشتركة ، و في هذه المهرجانات كانت الفرقة تحتل المكانة العالية التي تليق بها كوجه لامع مع وجوه الحياة العراقية الجديدة . و تحققت اخر مشاركة للفرقة في مهرجان قرطاج لعام 1987 حيث حصلت الفرقة على جائزتي التأليف و الإخراج عن عرضها مسرحية ( الباب ) تأليف الشاعر يوسف الصائغ و اخراج الفنان قاسم محمد . و في نتاجاتها جميعها ، فتحت الفرقة القومية للتمثيل ذراعيها و أبوابها لشتى الأشكال و الاتجاهات المسرحية المعاصرة ، كذلك احتلت المسرحيات المستوحاة من التاريخ و التراث و المجتمع مكانة بارزة ، فيما قدمته الفرقة خلال مواسمها كلها ، و كان للأطفال و الأحداث نصيب وافر في ذلك .
عن كتاب الحياة المسرحية في العراق