صفحات من حياة الشاعر الكبير..الجواهري واسفاره في العهد الملكي

صفحات من حياة الشاعر الكبير..الجواهري واسفاره في العهد الملكي

فرحان اليحيى
تنقل الجواهري في بلدان كثيرة، كان بعضها باختياره والبعض الآخر مضطراً عليه، فهو كثير الحل والترحال شأن صنوه المتنبي:

يقولون لي ما أنتَ في كل بلدة؟
ما تبتغي؟ ما أبتغي جلّ أن يسمى



كانت أول رحلة استجمام إلى إيران عام 1924، بعد مرض خطير أصابه، أما سفرته الثانية إلى طهران فكانت بدعوة من أخيه عبد العزيز عام 1926، فنظم هناك قصائد في وصف الطبيعة والحنين إلى الوطن، وقد أثارت بعض أبياتها ضجة واسعة لدى الجهات الرسمية والأوساط الشعبية، وظلت زمناً طويلاً تحفر في ذاكرته وشعره، نذكر منها هذين البيتين:
هَبّ النسيمُ فهبت الأشواقُ
وهفَا إليكم قلبُهُ الخَفّاقُ

لي في العراق عصابَةٌ لولاهُمُ
ما كان محبوباً إليّ عراقُ

وقد كانت هاتان الرحلتان انعطافاً جديداً في حياة الجواهري، حيث وضعته بالمصبّ الجديد الذي تفجرت به، وجعلته ينحى منحى مغايراً للماضي، يتأرجح بين الشك واليقين على حد تعبيره).
وقد أثارت هذه الحادثة ضجة كبرى وصلت إلى أعلى المستويات، كما كان لها صدى واسع في الصحافة العراقية والأوساط الشعبية والرسمية، وقد خبر الملك بهذا النبأ، فطلب تعيين الجواهري موظفاً في البلاط لاحتواء الفتنة وحسماً للموضوع، ومنذ ذلك الوقت أصبح الشاعر من المقربين للملك، وقد كتب سبع قصائد تمجيداً وتأييداً لفيصل، لموقفه الحازم من الحساسيات
الطائفية والعصبية.
وفي عام 1934 سافر الشاعر إلى لبنان مصطافاً، وفيها نظم قصيدته المشهورة "وادي العرائس" في زحلة مطلعها:
يومٌ مِنَ العُمْرِ في وَاديكِ مَعْدودُ
مُسْتوْحِشَاتٌ بهِ أيّاميَ السُّود

وفي عام 1938 كان الجواهري ضمن الوفد الطبي ليلقي قصيدته في المؤتمر الطبي المقرر عقده في القاهرة، وهو في طريقه إلى مصر ماراً ببيروت فوجئ بنبأ وفاة زوجته (مناهل)، فقفل راجعاً إلى بغداد، ونظم قصيدة رثاء حزينة، وفي العام التالي عاد إلى لبنان، سائحاً، فألف قصيدته الرائعة التي استهلها بقوله:
ارجعي ما استطعتِ من شبابي
يا سُهولاً تدَثّرت بالهضابِ

وقد تسببت هذه القصيدة في إثارة غضب المستعمر الفرنسي- آنذاك- عليه، فمنع الدخول إلى الأراضي السورية واللبنانية لمدة من الزمن بقوله:
أَفيَبْقَى الأحرارُ منّا ومنكُمْ
بينَ سوْطِ الغريبِ والإرهاب

وهذا دليل على الشعور القومي تجاه قضايا التحرر من الاستعمار، فهو يوظف –في الغالب- المناسبات في مواجهة الظلم حيثما وجد.
ثم توجه الشاعر في أعقاب حركة الكيلاني عام 1941 إلى إيران هرباً من الأحداث العاصفة في بغداد، وكان مصحوباً بعائلته، وهناك التقى لفيفاً من الوجوه السياسية الفارة أمثال: حكمت سليمان، وناجي السويدي، ويونس السبعاوي وغيرهم ممن كانوا في السلطة.
وفي العام نفسه قصد لبنان، متنزهاً، وأثناء مروره في سورية توقف على الحدود بسبب منعه دخول لبنان، عندئذٍ تذكر، قبل ثلاث سنوات حين ألقى قصيدته في حفل (عيد الزهور) أقيم في (بكفيا) وقد ندد بالانتداب الفرنسي والمنتدين عليه. وهناك على الحدود السورية لقي من المسؤول معاملة حسنة، فأتاح فرصة الاتصال هاتفياً بأحد معارفه ليُسهّل له مهمة الدخول إلى دمشق ومن ثم إلى بيروت، وهناك نظم قصيدة جميلة تحت عنوان (بنت بيروت) عام 1942، أهداها إلى صديقه عمر فاخوري وقد ابتدأها بقوله:
يَا عَذْبَةَ الرّوح يا فتّانَة الجَسَدِ
(يا بِنْتَ بَيْرُوْتَ) يا أنْشَودَةَ البَلَد
وفي هذه الرحلة التقى الجواهري الشاعر "إلياس أبو شبكة" والأديب الكبير "ميخائيل نعيمة" فكانت فرصة للتعرف على هذه الطليعة النيرة.
وفي عام 1944 كان الجواهري مصطافاً في لبنان، حيث تلقى دعوة من سورية عن طريق السفارة العراقية بدمشق للاشتراك في المهرجان الشعري الذي يقام في ذكرى المعري.
وفي هذه الأثناء صادف الشاعر صديقه "عمر أبا ريشة" وطال الحديث بينهما، فرجعا إلى أيام الصبا، كما التقى الشاعر بدوي الجبل الذي كان صديقاً وزميلاً لـه بالتدريس في "الرستمية" ببغداد. ويذكر أن من بين الأدباء الذين شاركوا في هذا المهرجان (طه حسين) رئيس الوفد المصري، الذي أقام حفلاً، تكريمياً للأدباء، حضره نخبة من الكتاب أمثال أحمد أمين، وعبد الوهاب عزام، وفي هذه التظاهرة ألقى الجواهري بائيته المشهورة:
قفْ بالمَعرّةِ وامْسَح خدّهَا التّربا
واسْتَوحِ مَنْ طوّقَ الدُّنيا بِمَا وهَب

وفي منتصف الأربعينات تلقى الجواهري دعوة عاجلة من هاشم جواد مندوب "إذاعة الشرق" لإقامة أمسية شعرية (بيافا) تحت إشراف الإنكليز، وألقى هناك قصيدته الحماسية قوبلت باندفاع كبير، لأنها تناهض الاستعمار، وتؤكد على وحدة الهدف والتراب والطريق إذ جاء فيها:
أحقاً بَيْنَنا اخْتَلَفَتْ حُدودُ؟
وَمَا اخْتَلَفَ الطّريقُ ولا التُّرابُ

ولا افترقَتْ وُجُوهُ عَنْ وُجُوه
ولا الضّادُ الفصِيحُ ولا الكِتَابُ

ويذكر أن عدداً من القصائد الوطنية والقومية قد أذيعت من محطة الشرق مثل: "جعفر أبو التمن"، فلسطين الدامية، "دمشق". وقد أعرب الشاعر عن فرحته بهذه الزيارة، ورؤيته للأماكن التاريخية والدينية (كالمسجد الأقصى) و(القدس) و(الجليل) و(حيفا). كما أقيمت له حفلات تكريمية في هذه المدن الجميلة.
وفي عام 1947 ذهب الجواهري إلى لندن بدعوة من الجمعية البريطانية – العراقية، وكان ضمن الوفد الصحفي، حيث التقى شخصيات عراقية كالأمير زيد وعبد الكريم قاسم والسفير أحمد كاشف الغطاء، وكذلك التقى مسؤولين انكليز أمثال مكماهون والسفير البريطاني والمندوب الرسمي لوكالة " رويتر".
وفي هذه الأثناء وقع خلاف حاد بين الشاعر والوفد العراقي بسبب الموقف الوطني أمام الإنكليز، حين أثبت أن العراقيين أصحاب قضية، ثم انسحب من الوفد الرسمي، مبدياً ضيقه وكرهه للإنكليز على حد تعبيره:
مَلَلْتُ مُقَاميَ في لَنْدنَا
مُقَام العَذارى بدَارِ الزّنَا

مُقامَ "المسيحِ" بدارِ اليهو
دِ مُقَام العذاب، مُقَامَ الضّنى

ثم وجهت الدعوة إلى الشاعر من مؤتمر المثقفين العالمي، الذي انعقد في مدينة "كلاو" ببولونيا عن طريق باريس، إلاّ أن السفارة العراقية هناك لم تمنحه التأشيرة، ولكنه استطاع حضور المؤتمر وإلقاء خطاب عنيف ندد فيه بالحكم الرجعي في العراق وممارساته القمعية".
ومن الجدير بالإشارة أن الجواهري هو العربي الوحيد الذي شارك في مؤتمر رجال الثقافة والفن في العالم الذي انعقد في مدينة (فروسلاف) ببولندة عام 1948، وانبثقت عنه حركة السلم العالمية، وقد أصبح هذا الشاعر، منذ ذلك الحين، عضواً في مجلس السلم العالمي. وعن هذه المشاركة تحدث الجواهري: (وشاءت المصادفات أن يكون الجواهري في (براغ) في أواخر عام 1985، وأن تتصل بي صحافية بولندية، مستفسرة عن الجواهري لتوجه الدعوة إليه لمؤتمر مماثل يعقد في يناير 1986- ولإجراء مقابلة صحفية معه بصدد ذكرياته عن المؤتمر الأول: (إن ما يعلق بذاكرتي قبل كل شيء، أنني لا أزال فخوراً بأن ألتقي لأول مرة – تلك الشخصيات الفذة من المبدعين في حقول العلم والأدب والفن والسياسة الذين ضمهم ذلك المؤتمر الهام، ولا يزال في نفسي أثر لا يمحى لأولئك الرجال العظام الذين تركوا بصماتهم الخالدة في كل مجالات الحياة، وهي من الشواهد: مدام كوري، وبابلونيرودا، وإيليا اهرسبورغ، وأراغون، وبيكاسو، وغيرهم لم تسعفني الذاكرة بأسمائهم، وها هي أصداء دعوتهم لشجب الحرب وتمجيد السلام حدوِّيةٌ حتى اليوم في كل بقعة من بقاع العالم، وثمة انطباع آخر علق في ذهني، منذ أن شاهدت (فروسلاف)، وقد استحالت إلى أنقاض هو كيف يمكن أن ينقلب الإنسان وحشاً يشيع الموت والدمار في ما تعبت الأجيال في إقامته، وأن يمحو بضربة واحدة الطفولة البريئة والشباب اليافع والكهولة الناضجة والشيخوخة المهيبة، فيحيلها كلها إلى يباب). كما يذكر الجواهري عبر تداعياته: (أقول الحق أنني خجلت من نفسي وأنا بين هؤلاء العظماء من كثرة ما كانت عيناي تلتصقان بهم، وهي تهامس (بيكاسو) ومدام كوري التي افتتحت المؤتمر على أرض محروقة).
ثم سافر إلى باريس مع وفد من الصحفيين، وأقام فيها ستة أشهر، تعرف خلالها على فتاة فرنسية تدعى "أنيتا" وعاش معها قصة حب لا تنسى، وقد جسدها بشعره العاطفي حيث قال: اسمعي، اسمعي "أنيتا" صداه تجدي عن صدى الزمان بديلاً وفي العام التالي دعي الجواهري للمشاركة في المؤتمر الثقافي للجامعة العربية بالاسكندرية خارج نطاق الوفد الرسمي وفي هذا المؤتمر ألقى الشاعر قصيدة بعنوان "إلى الشعب المصري" استهلها:
يَا مصْرُ تَسْتَبقُ الدُّهُورَ وتَعْثَرُ
والنّيلُ يَزْخَرُ والمسَلّةُ تَزْهِرُ

يَصلُ الحضارة بالحضارة- ما بنى
فيكِ "المعزُّ" ومادَحا "الاسكندرُ"

وقد نزل ضيفاً على وزارة المعارف أيام كان طه حسين وزيراً.
وتجد الإشارة إلى أن الشاعر في هذه القصيدة نفّس عن كربته وصبّ غضبه ونقمته على النظام الحاكم في العراق وعلى الاستعمار الذي يوجه الحكم حسبما يريدُ. وكان الجواهري موقناً بأن السجن مأواه، إذا عاد إلى الوطن، وفي هذه المناسبة أثنى طه حسين على الشاعر وأعلن عن قبول أبنائه في الجامعات المصرية على نفقة الدولة، وفي اليوم التالي سارعت الحكومة العراقية إلى إرسال الشرطة لمداهمة دار الجواهري في بغداد، فبعثرت الكتب والأوراق واقتادت ابنه "فرات" إلى السجن).
وفي العام التالي لبّى الشاعر دعوة رياض الصلح رئيس الحكومة اللبنانية للمشاركة في تأبين المرحوم عبد الحميد كرامي وهناك أنشد قصيدة مطلعها:
باقٍ وأعمارُ الطُّغاةِ قصَارُ
من سفرِ مجدِكَ عاطرٌ مُوّارُ

عبد الحميدِ وما تزالُ كعْهدِها
شعْب يُذلُّ وأمّةٌ تنهار

وبعد يومين من إلقاء القصيدة، دشنت الوزارة الجديدة عهدها بإنذار إلى الجواهري بوجوب مغادرة لبنان خلال أربع وعشرين ساعة، علماً بأن كلاً من رياض الصلح وحسين العويني كانا من بين الحضور في حفل التأبين ومن المعجبين بقصيدة الشاعر.
وفي العام ذاته سافر الجواهري إلى مصر للاتصال بولده "فرات" وقال قصيدة يمجد فيها المقاومة الوطنية ضد الاحتلال البريطاني. ثم سافر في هذا العام 1951 إلى فيينا بالنمسا للمشاركة في مؤتمر السلام العالمي الذي تحدث عنه الشاعر بإيجاز: (كان مؤتمر السلام في فيينا لطيفاً وجميلاً، التقيت خلاله عدداً من الشخصيات الأدبية والسياسية العالمية، وكانت الضيافة كريمة، ورجعت وكان جواز سفري منتهياً مدته، وفي الوقت نفسه كان عليه ختم وتاريخ الدخول المتزامن مع المؤتمر الذي يعد لدى المسؤولين في العراق مؤتمرحرب وبخاصة في عهد نوري السعيد).
وفي عام 1956 سافر الجواهري إلى دمشق في ظروف حرجة لتأبين الشهيد "عدنان المالكي" ومن الملعب البلدي، حيث الجماهير المحتشدة ألقى رائعته الشهيرة، وفي دمشق نزل ضيفاً على وزارة الدفاع، فالتقى هشام العظم قائد الشرطة العسكرية، محفوفاً بالتكريم والتقدير، كما تعرف على أدباء في الإدارة السياسية أمثال (نخلة كلاس، وشوقي بغدادي وحنا مينا، وسعيد حورانية، ومحمد الحريري، وسواهم).
وخلال هذا العام كتب الشاعر قصائد حماسية مفعمة بالمشاعر القومية والإنسانية النبيلة كقصيدة "الجزائر" و"فلسطين" وفي العام التالي كانت سورية محاصرة من الخارج بالأحلاف الاستعمارية، وكان خيار الوحدة مطروحاً، وفي هذا الجو المحموم أحس الجواهري بالمضايقات، حين اشتد الخلاف بينه وبين هشام العظم، وقبل أن يغادر دمشق نظم قصيدة ثانية في ذكرى المالكي عام 1957.
وأثناء إقامة الجواهري في سورية تمنى أن يزور الجولان، ويعبر عنها شعراً كما عبر عن فلسطين).
عن: رسالة
( ازمة المواطنة عند الجواهري)