مرايا الخلاص... من رموز الشاعر رشدي العامل

مرايا الخلاص... من رموز الشاعر رشدي العامل

د. عيسى الصباغ
يقول الشاعر عبد الوهاب البياتي في مقابلة معه: (إن الرمز والأسطورة والقناع أهم أقانيم القصيدة الحديثة، وبدونهم تجوع وتعرى وتتحول الى مشروع أو هيكل عظمي لجثة هامدة )، وبناء على ما تفوّه به البياتي، أقول: اهتم الشعراء بالرموز ووظّفوها في قصائدهم، ذلك أن الرمز باستطاعته أن يعبّر عن حمولة دلالية ونفسية ذات قيمة عالية لها القدرة على اختزال الكثير من المواقف والأفكار بطرق فنية مؤثرة،

فالرمز غالبا ما يرتبط بالإنسان ومغامراته الفكرية، أو بوقائع مهمة في تاريخه، وربما يرتبط بتجربة الشاعر نفسه، أي أنه -أي الشاعر- يستنبط رمزه من صميم مواجهاته للواقع، وتحدّياته للمخاطر، عموما يعدّ الرمز قيمة فنية، وبنية شعرية معبّرة، تتكشّف قواها من خلال علاقتها بالبنى الأخرى في العمل الأدبي، وسأسلّط الضوء هنا – بإيجاز – على رمزين مهمين في شعر رشدي العمل هما البحر والماء.

رمزية البحر
حملّ الشاعر رشدي العامل كلمة (البحر) دلالة رمزية بعد أن انتزعها من ارتباطاتها المعجمية والجغرافية فلم تعد تدل على الكتل المائية الضخمة التي تشغل مساحات واسعة، وذلك في نصه المنقول من ديوانه الطريق الحجري :
تراك تفاءلتَ
حين وجدت طريقك للبحر يدنو
نسيت بأن الضفاف رمال وملحُ
فأغمضتَ عينيك، يا للبلاهة
مازال بينك والضوء
ليل وشوك وصخر
وقبل المفازة جرف ونهرُ
وبينك والبحر يمتد قفرُ
وليس هو الصبحُ
ليست هي الشمسُ
لكنْ تلألأَ جرحُ
متى يا نزيل السراب الجميل
متى تستفيق وتصحو
رمز الشاعر بالبحر في نصه هذا الى الخلاص بصفته قيمة اجتماعية، وقد اكتسبت الكلمة دلالتها الرمزية من السياق، فهو يتساءل (تراك تفاءلت، حين وجدت طريقك للبحر يدنو) فالتفاؤل ارتبط بدنوّ طريقه من البحر، مما يشير الى أن (البحر) كان غايته ومنتهى مسعاه، غير أن التفاؤل وقع في إطار الاستفهام، وقد خرج الى معنى التنبيه والتذكير بدلالة قوله (نسيت بأن الضفاف رمال وملح) فالوصول الى البحر (الخلاص) مازال بعيدا عن متناول يده.
وفي موضع آخر من القصيدة نفسها يوجه الشاعر خطابه الشعري الى نفسه في حوار داخلي، كأنما يناجي نفسه إذ تصبح المسافة بينه وبين البحر – الخلاص- خداعا وكذبة يقول:
أيا راحلا في الوجوه
ويا مبحرً في ضباب القصيدة
نأيتَ وتبقى القرابة بينك والبحر
محض افتراء
ففي هذا الموضع الشعري يبدو هو المتكلم وهو المخاطب، وهذا الانشطار في ذات الشاعر دلّ على تشتتّه وضياعه مما يؤكد ابتعاده عن الخلاص ونشدانه إياه. ويستبدل الضوء بالبحر في المقطع المذكور آنفا (ما زال بينك والضوء ليل وشوك وصخر) جاعلا منه رمزا مكملا للبحر، دالا على أنه يعيش في ظلمة وضعه الاجتماعي والسياسي وكما كان بينه وبين البحر رمال وملح، بينه وبين الضوء (ليل وشوك وصخر) والصورة تدلّ على بعده من هدفه المنشود وهو الخلاص.
ولابدَّ من القول هنا أن هناك علاقة أو مناسبة بين الرمز والمرموز إليه لكي تُسوّغ عملية الترميز، أي يجب أن تكون هناك مقومات دلالية مشتركة بينهما (فمن مميزات الرمز أنه لا يكون اعتباطيا على نحو كليٍّ فهو ليس فراغا إذ هناك جذر رابطة طبيعية بين الدال والمدلول فرمز العدالة –الميزان- لا يمكن استبداله اعتباطا بأي رمز آخر كالعربة مثلا) كما يرمز بالهلال الى الإسلام لمراقبة المسلمين له وتوقيت شهورهم به لمعرفة المناسك وأدائها، وعليه فعندما رمز الشاعر بالبحر الى الخلاص فلأنه وَسَطٌ للانتقال من مكان الى آخر، أي أنه شكّل عند الشاعر وسيلة خلاص من وضع اجتماعي يتسم بالقهر والإكراه الى آخر خالٍ من الضغوط الاجتماعية متّسم بالتحرّر، وعلى هذا المعنى يصبح البحر فاصلا مائيا بين عالمين أحدهما غير مرغوب فيه لما فيه من تعسّف وظُلمْ وإيقاع ضرر، والآخر يوفّر للإنسان شروط الحياة الكريمة، على هذا الأساس أصبح البحر رمزا للخلاص عند الشاعر، لاسيما إنه عَمِل شطرا كبيرا من حياته بالسياسة، ففي مقالة يغلب عليها طابع التأبين يخاطب الدكتور علي جواد الطاهر الشاعر بقوله (وحين تنشد الحرية للمقيدين وتطلب الخبز للجائعين تبقى ذلك العاشق خصوصا وعموما) ويدل هذا على ارتباط الشاعر بقضايا مجتمعه، مما يجعلنا نحمّل البحر دلالة سياسية ذات مغزى مرتبط بالخلاص.
وتتوالى لديه الصور الشعرية لتدل على المعنى نفسه فالمفازة في النص السالف هي الفوز. جاء في لسان العرب (وأصل المفازة مهلكة فتفاءلوا بالسلامة والفوز) غير أن بينه وبينها (جرف ونهر) وإيراده (المفازة) على هذا النحو يتسق مع تفاؤله المستفهم عنه في النص.

رمزية الماء
وفي نص آخر من ديوانه للكلمات أبواب وأشرعة يقول محملا الماء رمزية الخلاص :
وعندما مرَّ علينا الماء
متنا وحيدين.. وحيدين
في الشتاءْ
ينهمر المطر
يملأ قبرينا، ويهمي حولنا القمر
جداولَ بيضاء
جداول الثلج
وتبكي لوعة خرساءْ
قال لها شيئا وغطّى ضحكهُ اشياءْ
استعار الفعل (يهمي) للقمر، وإنما الفعل لما ذهب وسالَ جاء في لسان العرب (وكلُّ ذاهب وسائل من ماء أو مطر أو غيره فقد همى) فهو أضفى على القمر خاصية مائية بما يوحي باقتران الضوء بالماء. وقد همى القمر – في النص- على هيئة (جداولَ بيضاء) ثمّ أبدل منها (جداول الثلج) ليومئ الى جمود العلاقة بينه وبين المرأة، ويلاحظ هنا أنه استخدم خاصية أخرى من خصائص الماء وهي التجلّد للتعبير عن عواطفه.
نلاحظ أنّ لفظة الماء (في حالة السيولة) وردت في النص مرتبطة بالموت (وعندما مرَّ علينا الماء، متنا وحيدين…) وقد جرت العادة أن يُرمز بالماء الى الحياة قال تعالى : (وجَعَلْنا مِنْ المَاءِ كُلَّ شيء حَيِّ) (ويُعد الماء كذلك رمزا من رموز الأم، وقد ارتبط رمز الماء بأم المسيح العذراء في صلوات الكنيسة…فكأنّ المؤمن بنزوله الى الماء يعود الى رحم الأم ليولد من جديد)، وتجدر الإشارة هنا الى أن أبناء الطائفة المندائية يعمّدون أنفسهم بالماء ويُعدّ التعميد بالماء طقسا أساسيا في انعقاد الزواج أي الانتقال من حياة العزوبية الى حياة جديدة قوامها الشراكة، باختصار ولادة علاقة اجتماعية جديدة. إن ارتباط لفظة الموت بالماء –في النص - جعلها تكتسب معنى أسطوريا انبعاثيا فقد عُدَّ (الفكر الأسطوري بأجمعه إنكارا عنيدا لظاهرة الموت وأقوى تأكيد للحياة عرفته الحضارة الإنسانية)، فالفعل الماضي (متنا) وهو جواب الشرط (فعل الشرط هنا الفعل مرَّ، المسند الى الماء : وعندما مرّ علينا الماء متنا وحيدين) أقول الفعل: متنا، تضمن معنىً رمزيا ذلك هو الانبعاث أي انبعاث علاقة جديدة بين الشاعر وامرأته، وموت العلاقة القديمة بعد أن كشف لها ما كان يدور بينهما يقول في القصيدة نفسها مشيرا الى ما كان بينهما:
كنا معا في الصمت نلهو، كانت الدنيا
من غير أن يحيا سوانا
دون أن نحيا
ساذجةً، طيبة، بلهاء
قال لها: في ضحكهِ أشياء
والعبارة (من غير أن يحيا…) المتعلقة بالفعل الماضي دلّت على أنهما كانا مغيّبين في دنيا ساذجة، طيبة، بلهاء ثم أفاق –هو- على حقيقة هذه الدنيا وكاشفها بها، وعلى أساس هذه المكاشفة انفرطت الرابطة القديمة بينهما واتخذت مسارا جديدا، وعلاقة إنسانية جديدة.
من الملاحظ هنا أن الشاعر رشدي العامل كان يتوق الى الخلاص والانعتاق، وتجاوز قسوة الظروف وإذلالها، وقد اتخذ من الرمزين البحر والماء وسيلة للتعبير عن ذلك كما بيّنا في آنفا.