الكاظمية في الرحلات الاجنبية

الكاظمية في الرحلات الاجنبية


اعداد : جعفر الخياط
الرحالة نيبور في الكاظمية
زار بغداد في سنة 1765 الرحالة الألماني المشهور كارستن نيبور، في رحلة علمية الى بلاد العرب جهزها ملك الدانيمارك، و أقام في البصرة و بغداد و غيرهما مدة من الزمن فكتب في رحلته‏ الكبيرة شيئا غير يسير عن العراق و تاريخه. و قد ذكر في خلال كتابته هذه شيئا عن الكاظمية وجدنا من المناسب أدراجه هنا نقلا عن ترجمة الدكتور مصطفى جواد لها في مجلة سومر (ج 1 و 2 سنة 1964) . فقد قال: ... و في شمال بغداد الغربي، على ثلاثة أرباع الساعة سيرا، غربي دجلة قرية كبيرة تسمى (الكاظم) .

و هناك مسجد كبير مع تربتين لأمامين من أئمة الشيعة هما الأمام موسى الكاظم (أي الصبور) و حفيده محمد الجواد. و هذا المسجد الأسلامي مدعاة للفخر فان قبتيه الشاهقتين و المنارة كانت قد زينت ظواهرها على الطراز الأسلامي بحجارة مطلية و هي اليوم في تكسر مستمر، و موضع هذا المسجد ليس بمنفسح الأطراف كما هو حال مشهد علي و مشهد الحسين فأن المنازل و الدور قائمة على حفافيه و حياله. و قد قتل موسى بن جعفر سنة 185 (الصحيح 183) هـ بأمر من الخليفة القائم (كذا) يومئذ لأنه تدخل في أمور تستوجب التهمة، و هي ان جماعة كبيرة من شيعة العلويين اجتمعوا في دار، فلذلك تراه الشيعة «شهيد الشهداء» و يزورونه زيارات مختلفة للتعبد لديه. و سكان قرية الكاظم هم من الشيعة على التقريب، و اذا لم يكن لأصحاب هذا المذهب و أتباعه حرية في الأعلان بمذهبهم و واجباته
ببغداد نفسها يزور هذا المسجد كل يوم ناس كثير منهم من أهل بغداد و ان أكثر الشيعة الذين لا يستطيعون نقل موتاهم الى مشهد علي لعجزهم عن الأنفاق أو غير ذلك يدفنونهم في مقبرة موسى الكاظم، و في هذا ما يكسب المشهد أموالا وفيرة.
ان بغداد التي أنشأها الخليفة المنصور كانت في غربي دجلة، و لا شك في أنها كانت في الموضع المذكور آنفا، أعني القسم الشمالي من الربض الحالي، بالقرب من تربة موسى الكاظم. و في شرق النهر كانت قد بنيت قلعة و أنشي‏ء ربض الا انه لم يبق منها الا قرية (المعظم) التي بأزاء قرية (الكاظم) على التقريب مع انحراف قليل على مسافة كيلو مترين من بغداد الحالية.

النصف الأول من القرن التاسع عشر
و تذكر الكاظمية في هذا الدور في رحلة الرحالة الانكليزي كيرپورتر، و هو عالم آثاري و رسام بارع، الذي مر ببغداد في طريقه الى أيران سنة 1818 (في عهد الوالي داود باشا) و نزل ضيفا على القنصلية الانكليزية فيها.. فقد ذكر نبذة قصيرة عنها في رحلته‏ المطبوعة سنة 1822، يقول فيها ان المدينة الجديدة الواقعة على الساحل الشرقي لدجلة (يقصد جانب الرصافة) توجد في مقابلها محلة تقع فيها قلعة الطيور (قوشلر قلعة سى) ،
و في شمالها مرقد الأمام موسى الكاظم أحد الأئمة الأثنى عشر الذي يعرف بكظمه للغيظ و قد استشهد بالسيف (كذا) ، ثم دفن الى جنبه بعد ذلك حفيده الأمام التاسع محمد التقي.
و يقول كذلك ان الكاظمية سكنها عدد كبير من الشيعة، بعد ان نهب الوهابيون العتبات المقدسة في الفرات الأوسط سنة 1801، و اصبحت مدينة مقدسة كبيرة ترتفع في وسطها قباب جوامعها المذهبة و تلمع ما بين بساتين النخيل المحيطة بها، و يقصدها الزوار بأعداد كبيرة.
و حينما شق والي بغداد داود باشا عصا الطاعة على الدولة العثمانية، و تحداها في امور و أحوال كثيرة، قررت تنحيته بالقوة، و سيرت جيشا تأديبيا عليه سنة 1831 بقيادة علي رضا باشا (اللاظ) فأزاحته عن الولاية بعد مقاومة غير يسيره، فكان آخر الولاة المماليك في بغداد. و كان علي رضا باشا قد انتدب من الموصل قبل زحفه على بغداد متسلما عنه قاسم باشا العمري متصرف الموصل، فوقف هذا مع ثلة من الجيش في الكاظمية قبل ان يدخل بغداد. و يقول لونكريك‏ في (اربعة قرون.. ) ان الأخبار وصلت الى عاصمة الولاية المحاصرة تفيد بوصول قاسم باشا الى الكاظمية مع سليمان غنام العقيلي (الذي رافق علي رضا من استانبول) و الشيخ صفوك. و فيها قرئ الفرمان بعزل داود على الملأ و ركع الجميع لأوامر الپادشاه، ثم ارسل عشرون وكيلا الى بغداد. فحدث بنتيجة ذلك أول هياج قام به رعاع محلة باب الشيخ الذين ساروا الى السراي و أحرقوا بابا من أبوابه.
و على أثر النكبات المتتالية المفجعة التي حلت ببغداد سنة 1831، يوم داهمها الطاعون المبيد و أغرقها فيضان دجلة المخيف، في الوقت الذي كانت تحاصرها جيوش علي رضا باشا التي سيقت لتنحية داود باشا عن الحكم، زار بغداد قادما من أيران الرحالة الانكليزي جيمس بيلي فريزر، و كان ذلك في تشرين الثاني 1834.
و قد تنسى؟؟؟ له أن يزور الكاظمية في يوم 17 كانون الأول فيذكر شيئا عنها في رحلته، و قد آثرنا ايراد ما ذكره عنها هنا برغم ما فيه من بعض الأغلاط التاريخية التي لا تخفى على القارئ. فهو يقول: .. و قد ركبنا في المساء الى الكاظمية، و هي قرية تقع على بعد أميال ثلاثة من شمال بغداد، حيث يوجد ضريح الأمام موسى الكاظم إمام الشيعة الذي قطع رأسه (كذا) هارون الرشيد على ما اعتقد. و كان قد حبس في جب لا يزال يرى الى يومنا هذا، و هرب منه بمعجزة على ما يقال. و يزعم آخرون ان رأسه قد قطع بأمر من الخليفة، و مع هذا يمكن ان يشاهد في بعض الأحيان حتى في هذه الأيام جالسا في مكانه القديم في الجب. و الظاهر ان هذا المزار واسع جدا، و له قبتان مطليتان بالذهب و اربع منارات رشيقة. و قد طليت القبتان من قبل نادر شاه (كذا) ، الذي يبدو انه التجأ الى هذا الأسلوب في تزيين قبور الأئمة و الاولياء تكفيرا عن شناعاته. و هذا مزار عظيم يقصده الزوار المسلمون بكثرة-أي ان جميع الذين يزورون كربلا لا بد من ان يأتوا لزيارة هذا المكان أيضا. و هو مثل سائر الأماكن الشبيهة به يزدهر بما ينفقه هؤلاء الزوار فيه، و يمتلى‏ء بالمتشردين و المنبوذين الذين يلوذون بحمايته.
و لم أحاول الدخول فيه لأني قد رأيت الكفاية من مثل هذه الأشياء، و أريد ان أتحاشى اللغط الذي يثار حينما يحاول الأجانب زيارته أيضا .

فيلكس جونز في الكاظمية
و في ربيع سنة 1850 قام الكوماندر جيمس فيلكس جونز بسياحات جغرافية للمسح و الاستقصاء العلمي في المنطقة الواقعة غربي دجلة في شمال بغداد، و كتب عنها مذكرة بعنوان (تتبعات في جوار سور الميديين، و في المنطقة الواقعة على مجرى دجلة القديم، و تثبيت موقع أوييس القديمة) .
فرفعت هذه المذكرة الى الحكومة البريطانية في الهند خلال شباط 1851.
و طبعت في سلسلة المختارات الجديدة من سجلات حكومة بومبي، المجلد الثالث و الأربعون لسنة 1857.
و في خلال هذه الأعمال مر جونز بالكاظمية فكتب يقول عنها: ..
و بعد ان خرجنا من بغداد و اجتزنا اسوارها المتهدمة (في جانب الكرخ) سرنا في طريق لا بأس به مدة خمسين دقيقة فوصلنا الى الكاظمية. التي كانت قبابها المطلية بالذهب و منائرها الرشيقة تكون منظرا خلابا و هي ترتفع في الأفق البعيد، و تتلألأ ما بين بساتين النخيل الخاشعة من حولها.
على ان ذلك المنظر سرعان ما تبين حقيقته حينما يدنو الناظر اليه من البلدة فيجد ذلك المشهد الجميل محاطا بمجموعة متراصة من البيوت الحقيرة المتهدمة، المبنية بالطين و الطابوق المفتت. و يسكن البلدة سكانها العرب مع عدد غير يسير من الأيرانيين، و الهنود الشيعة المنفيين من بلادهم لاسباب سياسية او المقيمين للعبادة و التبرك. و يزور الضريح المقدس في هذه البلدة كل سنة عدد هائل من الزوار الذين يتواردون عليه من أنحاء العالم الأسلامي كله، و حيثما يقدس الأمام علي و ذريته. و لذلك يجتمع هنا خليط عجيب غريب يجمع بين مظاهر الثراء و الأبهة و مباذل الفقر و الشحاذة، كما يجمع بين ملابس الحرير و الأسمال أو الخرق البالية. و من المحظور على النصارى و اليهود التقرب من المشهد المقدس، غير اننا استطعنا أن نشاهد ما يعجب من الأشياء، و ما يجعل المرء يأسف على عدم مشاهدة الكثير من أمثال هذا المبنى الجميل الضخم في بلاد يمكن ان يبنى فيها على طرازه.
فقد وجدنا الصحن المربع المحيط بالحضرة مزدانا بزينة الموزاييك الغنية بالقيم الفنية، و الجدران مزوقة بالآيات القرانية و الجمل الدينية المكتوبة بالأحرف العربية الجميلة. و لما كنا و نحن نمرّ بالبلدة المقدسة في عشية يوم النوروز فقد كان من الممكن للمرء أن يشاهد في كل مكان امارات الفرح و الحبور ترتسم على وجوه الناس و تمتزج بتعابير العبادة و الخشوع الظاهرة عليهم. و قد كان ذلك يبدو على شي‏ء غير يسير من الروعة حينما كانت الشمس المائلة الى المغيب ترسل أشعتها الأخيرة الباهته على المنائر و القباب المذهبة فتلوح للرائي كالنجوم المتلألئة التي تجتذب الزوار اليها من بعيد.
هذا و قد مررنا في طريقنا بأناس قادمين من كل حدب وصوب، و منتمين الى كل عنصر و عرق، فمن سكان التيبت و كشمير و الأفغان و أيران، جانب من صحن الامامين الكاظمين اسكن
الى المغول و العرب المواطنين. و كانوا يغذون السير-و هم-راكبين أو راجلين ليصلوا الى مبتغاهم فيستطيعوا إداء الزيارة في صباح اليوم التالي من دون تأخير. كما مررنا بآخرين كانوا قد فرشوا سجادهم أو عباءاتهم.
على قارعة للطريق، و أخذوا يؤدون الصلاة بكل نشاط و أخلاص. و قد كانوا، و هم يستقبلون القبلة للقيام بهذا الواجب الديني المفروض، تبدو في وجوههم شتى المشاعر و الأحاسيس و مختلف المخائل و السمات. و من المكن ان يقال أنه لا يوجد أي مكان آخر في العالم يجتمع فيه مثل هذا الخليط من الناس و هذا الاختلاف في المشاعر و التعبير. على ان تقاسيم وجه العربي المعبرة، اذا ما ضمت الى لباسه الجذاب وحدة نظره و استقلال شخصيته، مع سلاحه المطروح الى جانبه، لتدل كلها على مخائل عرق ممتاز متفوق حتى عندما يلاحظ في حالات الانحناء و السجود.
و بعد ان يبتعد المرء قليلا عن البلدة تبدأ منطقة التاجي التي تمتد البادية من حولها الى جنب بساتين النخيل التي لا تمتد عن ساحل النهر الى أبعد من ثلاث مئة يارده. و تأتي بعد ذلك مستنقعات عقرقوف المتكونة من فيضان الفرات الذي يبعد عنها بمسافة خمسين ميلا، و يتصل بدجلة عن طريقها. فتحاط الكاظمية و بساتينها على هذه الشاكلة بالماء من جميع الأطراف، و تصبح و كأنها جزيرة في وسط بحر متلاطم بالأمواج.

الكاظمية في رحلة نايهولت‏
و في سنة 1866-67 جاء الى العراق الرحالة الهولندي لكلاما نايهولت (نيجهولت) ، و مكث في بغداد مدة من الزمن درس فيها الكثير من شؤونها و أحوال مجتمعها، فكتب رحلته القيمة التي ترجمت الى الانكليزية.
و كان مما كتبه في هذه الرحلة نبذة وجيزة عن الكاظمية آثرنا ان نوردها هنا نقلا عن الترجمة العربية التي اضطلع بها الأستاذ مير بصري. فهو يقول: .. و كانت من الزيارات الممتعة التي قمت بها زيارة الكاظمية،
و هي بلدة صغيرة أقامها أخلاص الشيعة حول جامع الأمام موسى على مسافة فرسخ من بغداد. و لأجل الذهاب الى الكاظمية، نخرج من السوق الكبير الى شاطي‏ء دجلة الأيمن و نصعد عدة دقائق الى منحنى النهر حيث نطل على منظر جميل لمدينة بغداد. و بعد مسيرة نصف ساعة على الشاطي‏ء نصل الى غابة صغيرة رائعة من النخيل. و نلتقي في كل دقيقة بالعرب و العجم و الهنود، مما يضفي على الطريق حركة عظيمة. و يمتطي‏ء أكثرهم ظهور الحمير، و هذه الدواب تكرى قرب قصر أخي شاه أيران حيث يقف عدد كبير منها. و هذه الحمير من جنس ممتاز أصله من جزيرة العرب (لعله يقصد الحمير الحساوية المعروفة) و تتفوق بكل صفاتها على حمير أوربة. و هي بيضاء اللون تسير كالخيل. فاذا ما تركنا الغابة التي أشرت اليها، أدرنا ظهورنا الى دجلة و لاحت لنا في البعد قبتان ذهبيتان لجامع الأمام موسى الأكبر. و لا تمر نصف ساعة حتى نصل الى أولى منازل الكاظمية.
و الكاظمية بلدة صغيرة حسنة البناء، فيها سوق كامل التجهيز.
و الشيعة هنا شديدو التعصب. و قد تحملت سيلا من الشتائم لمجرد تقربي من ابواب السور الذي يحيط بالبناء الواسع الذي يقوم المسجد العظيم في داخله. و ابواب السور مغلقة بالسلاسل التي يقبلها المؤمنون باحترام عند الدخول و الخروج. و مما سمح لي برؤيته ظهر لي ان هذا الأثر المقدس يتألف من المسجد الذي تزينه منارة جميلة في كل ركن من أركانه الأربعة و من مشتملات واسعة تضم المساكن و المدارس و حجر الدرس للملالي و تلاميذهم. و يقال أن داخل المسجد جميل جدا، و لكن محاولة الدخول تؤدي مؤكدا الى القتل في الحال. و مع انني وقفت على مسافة بعيدة، فان أحد ابناء الشعب رأى ان وقوفي قد طال في رأيه فأخذ يسبني و يهددني حتى رأيت الأفضل ان انسحب. و قد عدت من هذه الزيارة بنفس الطريق الذي سلكته في الذهاب.

أصلاحات مدحت باشا في الكاظمية
و تذكر الكاظمية في المراجع الغربية بعد هذا بمناسبة البحث في اصلاحات مدحت باشا في بغداد و ما حولها. فيقول ريتشارد كوك في كتابه‏ عن بغداد ان روحية الأصلاح المتوثبة التي كانت تتجلى في مدحت باشا قد كانت السبب في إدخال أحدث المبتدعات الى المدينة، و هي فكرة أنشاء خط (الترامواي) فقد كانت شدة الازدحام في تنقل الزوار بين بغداد و الكاظمية قد جعلت تيسير وسائط نقل كافية شيئا أساسيا، فأنشأت الحكومة خط «ترامواي» يسحب بالخيول. و لم يكن المشروع ناجحا من الناحية المالية، و لذلك نقلت عهدته الى شركة محلية ظلت تديره الى يومنا هذا. و كان هذا الخط في عهد مدحت نفسه ينظر اليه باعتزاز و فخر و يعتبر من أحدث المشاريع في الشرق.
لكنه بقي منذ يومه ذاك محافظا على وضعه من دون ان يصيبه أي تحسن ففقد شهرته المذكورة و سمعته. و قد كانت فكرة كهربته تراود مخيلة الكثيرين بين حين و آخر لكنها لم يمكن ان تتبلور و توضع في موضع التطبيق.
اما لونكريك‏ فيشير الى ترامواي الكاظمية أشارة عابرة، في ضمن الأعمال و الأصلاحات التي تحققت في عهد الوالي المصلح مدحت باشا.
فهو يقول عنه أنه أكمل ما بدأ بتشييده نامق باشا من الأبنية العامة و أضاف اليها شيئا كثيرا. كما ان أصدار جريدة في أيامه و تأسيس المعامل العسكرية، و بناء مستشفى و دار للعجزه و ميتمة و عدة مدارس، و مدّ خط ترامواي الى الكاظمية كانت كلها، مع الروح التجددية التي دلت عليها، قد نورت بغداد و بعثت حياة التجدد و الأحياء فيها (انتهى قول لونكريك) .
و الحقيقة ان ما اصاب الكاظمية من اصلاحات مدحت باشا لم يقتصر على مشروع الترامواي الذي انشي‏ء لتسهيل أمور الزوار. فقد أص
الجهاز الحكومي فيها أيضا بألغاء طريقة الالتزام و الأصول الاقطاعية في الحكم، و عين موظفين أداريين فيها يتناولون رواتبهم من خزينة الدولة، كما جعل الكاظمية قضاءا يديره قائمقام خاص بعد ان أضاف الى حدود البلدة الأدارية المقاطعات المجاورة. و حينما عزم ناصر الدين شاه القاجاري ملك أيران على زيارة الكاظمية و سائر العتبات المقدسة في العراق سنة 1870 قامت الحكومة بأدخال بعض التحسينات و الاصلاحات في طرق الكاظمية و مرافقها البارزة تمهيدا لهذه الزيارة السامية .
اما خط الترامواي الذي يشير اليه ريتشارد كوك و لو نكريك فقد مدت سكته الى مسافة سبع كيلومترات، و حينما وجدت الحكومة انه مشروع غير رابح يومذاك ماليا شجعت تشكيل شركة أهلية لأدارته تتكون ماليتها من ستة ألاف سهم بيعت معظمها بسرعة لأن مدحت تولى تشجيعها و تصريفها بنفسه، و كانت قيمة الحصة الواحدة مئتين و خمسين قرشا. و يقول المطلعون اليوم انه طلب الى الحاج عبد الهادي الاسترابادي، و هو من أبرز وجوه الكاظمية و تجارها في تلك الأيام، ان يبدأ بتشكيل هذه الشركة ففعل ذلك بالاشتراك مع علي چلبي و آخرين، على انه انسحب من الشركة بعد ذلك. و قد نجحت نجاحا غير يسير، حتى بلغت نسبة ارباحها 18 و 20%في بعض السنين. و استمرت في عملها هذا الى ما قبل سنوات حينما تضاءل شأنها و قلت أهميتها بشيوع استعمال السيارات الحديثة فانحلت.
و لأجل ان نعطي القارى‏ء الكريم فكرة واضحة عن هذا الترامواي، و كيفية سيره في تلك الأيام الخالية، نستشهد بما كتبته الرحالة الفرنسية المدام ديولافوا عنه حينما استقلت إحدى عرباته مع زوجها لزيارة الكاظمية سنة 1886. فهي تقول:
.. و في هذا اليوم ركبنا الترامواي ليوصلنا الى الكاظمية بفترة ربع ساعة
و عشرين دقيقة على أبعد احتمال، و لكنه لم يكد يقطع نصف الطريق حتى توقف عن السير و هبط السائق من العربة و رجا منا ان نترك الترامواي.
و سألت عن سبب هذا التوقف فقيل لي أن أرض منعطف الطريق الضيق الذي بلغناه قد خسفت، و اذا كان لا بد من ان يتابع الترامواي سيره فلا محالة أنه سيسقط.. و لقد وضعوا هنا عددا من الحمالين لدفع حافلة الترامواي و نقلها الى الجهة الأخرى بعد ان يتركها الركاب. و هذه العملية تتم في دقائق ثقيلة و بجهد جهيد يبذله اولئك المساكين.
و بعد ان عادت المدام ديولافوا من زيارتها للكاظمية بالترامواي نفسه نجدها تقول: و بعد مدة من الانتظار تحرك الترامواي ينهب الأرض نهبا، و لما كانت هذه آخر مرة يقود السائق فيها العربة في هذا اليوم أخذ يلهب ظهر الجياد بالسوط بقساوة و ضراوة ليزيد من سرعتها فيصل الى منزله في أقرب فرصة من دون ان يفكر بعواقب عمله المخطر لا سيما و الحافلة كانت مكتظة بالركاب الذين كانوا من طبقات مختلفة و أديان شتى، و كانوا كالسمك الطري الذي يوضع في الأناء لشيه، يرتفعون و يهبطون وفقا لسير الحافلة و اهتزازها.. و قد زاد السائق من الهاب ظهر الجياد بسوطه، و كانت سرعة الحافلة تزيد بنسبة ذلك، و لم يعمل على تخفيف السرعة حتى عند وصولنا الى الطرق و الأزقة الضيقة التي كانت حركة مرور الناس فيها على أشدها. و مررنا في أحد الأزقة الضيقة تلك بعدد من الحمير التي كانت تحمل السمك.. فذعرت الحمير من الترامواي و رمت أحمالها على الأرض و أخذ أصحابها يسبون و يلعنون السائق.. و الواقع ان ذلك كان مشهدا تمثيليا رائعا .
ترمواي الكاظمين (احدى عربات السكة) التي لم يبق منها اليوم لا عين و لا اثر .