إدواردو غاليانو.. الرياضة في نصوص أدبية تاريخية

إدواردو غاليانو.. الرياضة في نصوص أدبية تاريخية


في الوقت الذي كانت فيه لعبة كرة القدم، مرفوضة من بعض الأدباء العالميين، أمثال بورخيس الذي وصفها بأنها أفدح جرائم انكلترا، واضعا مواعيد محاضراته في أوقات مباريات المنتخب الأرجنتيني في مونديال 1978، كان الأديب الأورغواياني إدواردو غاليانو، الراحل عن عالمنا يوم أمس الاثنين، يبحث عن توثيق تاريخي للعبة الأكثر شعبية في العالم، وهو ما فعله في كتابه الشهير «كرة القدم بين الشمس والظل»، الذي وثق فيه أحداث اللعبة منذ بدايتها.


في نهاية كتابه، يقول غاليانو: إنه كان يشعر بتحد في موضوع، ذاكرة وواقع كرة القدم، وعلى إثر ذلك، نوى أن يكتب شيئا يكون جديرا بهذا القداس المدفوع الأجر، القادر على التكلم بجميع اللغات، وإطلاق عواطف وأهواء كونية، مضيفا أنه كان يشعر بأنه سيحقق بكتابته ما لم يستطع تحقيقه بقدمه، ولهذا قصة أخرى.
حيث يعترف غاليانو في بداية مؤلفه الرياضي، بأنه كان ينوي أن يكون لاعبا كحلم جميع أبناء الأورغواي، إلا أنه كان أسوأ لاعب عرفته بلاده، فاكتفى بمشاهدة الكرة، مشجعا اللعب الجيد.
ينطلق بعدها غاليانو إلى الحديث عن كرة القدم وشغفها، فيبدأ بتعريف مكوناتها بطريقة غلب عليها الطابع الفلسفي الشاعري القريب إلى الأدب أكثر من الرياضة، حيث وصف كرة القدم كرياضة تشبه رحلة حزينة من المتعة والواجب، واللاعب كالراكض خلف المجد في جانب، والمنتظر هوة الدمار في الجانب الآخر، منتقلا إلى حارس المرمى الذي أطلق عليه لقب الشهيد لما يتحمله من عبء غير جميع اللاعبين.
ويتحول إلى النجم الذي يكون معبود الجماهير ليصبح مع تقدم العمر، ذلك المومياء المنكسر في خيباته، والمشجع الذي ينتظر مباراة الأسبوع بشغف، فيصبح كالعابد، ويتحول الملعب إلى معبد يمارس فيه طقوس العبادة، ثم يصف ذاك المتعصب المصاب بحالة الصرع، وصولا إلى الهدف الذي يعتبر ذروة المتعة في هذه اللعبة.
إدواردو غاليانو، الذي عرف باتجاهاته المعادية لكل الاستبداد، لا يوفر فرصة اسقاط فكرة المستبد على حكم الساحة، معتبرا إياه ديكتاتورا لا يمكن معارضته في المستطيل الأخضر، ويكمل لعبته مع فكرة معارضته للعولمة، خلال وصفه للمدرب الذي أصبح في ما بعد مديرا فنيا، تماشيا مع فكرة الشغل من أجل المال، بدلا من التدريب واللعب. يؤرخ غاليانو لتاريخ الكرة منذ بدايتها الأولى في الصين، وتطورها وصولا إلى أوروبا، ثم إلى الأمريكتين، واصفا مراحل تطورها، ورفضها من قبل بعض الأنظمة الملكية، كما حدث في انكلترا التي عدت اللعبة مخالفة لقواعد الكنيسة، إلى أن يطلق عليها في الأرجنتين لعبة المجانين، قبل أن تصبح معشوقة الجماهير في بلاد التانغو.
غاليانو حاول في كتابه عن الكرة، تضمين اللحظات السياسية العصيبة التي رافقت البطولات، فذكر فاشية موسوليني في إيطاليا، وتهديده اللاعبين بالفوز بكأس العالم 1938 أو الموت، أو الحرب التي دارت لمدة ستة أيام بين هندوراس والسلفادور، إثر خلفيات سياسية واقتصادية فجرتها مباراة كرة قدم عام 1969، وراح ضحيتها 4 آلاف مواطن من البلدين.
يذكر غاليانو أجمل لحظات البطولات العالمية، بكتابة تصويرية يشعر القارئ معها وكأنه يعيش لحظة لعب المباراة، في شغف واضح من الكاتب باللعبة الأكثر شعبية في العالم، متذكرا أسماء أدبية كانت لها أيام مع كرة القدم، على رأسها ألبير كامو، أحد أبرز دعاة الأخلاق في العصر الحديث، الذي كان حارس مرمى لفريق جامعة وهران، وكان قد اختار هذا المركز خشية من تمزق حذائه بسبب فقره، وهو القائل كما يذكر ادواردو: «تعلمت من تلك اللعبة أن الكرة لا تأتي مطلقا نحو أحدنا من الجهة التي ينتظرها منها».
كذلك الأمر بالنسبة للروائي غابرييل غارسيا ماركيز الذي كان لاعبا لفريق أتلتيكو جونيور الكولمبي، قبل أن تحوله إصابة في بطنه إلى مجرد مشجع للفريق. يسطر غاليانو أسماء العديد من لاعبي كرة القدم العالمية، الذين يعتقد أنهم الأفضل في تاريخ الكرة، مارا على تأريخهم الحافل بالإنجازات أمثال بيليه، مارداونا، فارنز بيكنباور، وغارينشا المعاق، الذي أصبح أشهر جناح أيمن على مر تاريخ كرة القدم العالمية.
يكشف هذا الكتاب، شغفا واضحا لدى مؤلفه نحو كرة القدم، تحول من الممارسة إلى فكرة تسليط الضوء على اللعبة التي يتم التعامل معها على أساس التسلية، فيما استطاع الكاتب فعل أكثر من ذلك بأن كشف خبايا كرة القدم، وما تحمله من اتفاقات سياسية واقتصادية، ومنازعات قائمة عليها، بلغة سهلة بسيطة خالية من التعقيد الأدبي، استطاع الكاتب الراحل فيها تسليط الضوء على أدق تفاصيل اللعبة المجنونة التي يتابعها المليارات حول العالم.
يقول غاليانو: «إن كرة القدم هي مرآة العالم، تقدم ألف حكاية وحكاية فيها المجد والاستغلال والحب والبؤس، وفيها يتبدى الصراع بين الحرية والخوف ونحن في أوج ديانة السوق، كرة باتت تخضع لقوانين السوق، يلعب اللاعبون من أجل الربح أو لمنع خصومهم من الربح، فيما يظهرون بين الناس كمن يجعل الوهم ممكناً».
ويختم الكاتب مؤلفه بقوله «ستبقى كرة القدم، لها سر وإعجاز، وشغف وشوق، وأبقى أنا مع تلك الكآبة التي نشعر بها جميعا بعد الحب وعند الانتهاء من المباراة».
عن صحيفة الغد الاردنية