لوحات فيصل لعيبي الوضع الأمثل وتحريفات المنظور

لوحات فيصل لعيبي الوضع الأمثل وتحريفات المنظور

خالد خضير الصالحي
حينما انبثقت (جماعة بغداد للفن الحديث) كانت نتيجة حتمية لما كان عليه فهم الفن ودوره في ذلك الزمن، وهو ما لخصه الناقد سعد القصاب بأنه كان: خلق الشخصية الوطنية، وإدخال عناصر جديدة في الأساليب، والوعي بالأساليب الحديثة، وتطوير رؤية يكون رائد الفنانين العراقيين فيها تراث العصر الحاضر والوعي بالطابع المحلي، ولكن ألان، وبعد أكثر من نصف قرن، وفي خضم التطورات الكبيرة في الفن العالمي،

والفن العراقي، هل مازال بعض الرسامين أوفياء للمنطلقات الأولى، وهل يبدو الرسام فيصل لعيبي وكأنه رجل قادم من خمسينات القرن الماضي، انتفض من قبره الآن، وعاد ليرسم بروح ذلك الزمن، رجل تشرب بالإيمان بان الفن التشكيلي يحمل أهدافا محددة قامت عليها جماعة بغداد للفن الحديث التي تشكلت في خمسينات القرن الماضي.


الرسم الواقعي والطابع المحلي
إذا اقترحنا إجراء معايرة بين تجربتين قريبتين من بعضهما ليس فقط شكليا، وهما تجربتا فيصل وعفيفة لعيبي فإننا نجد أن عفيفة لعيبي ترسم شخوصها منفردة ومتوحدة وساهمة تناجي نفسها، وهي لم تصل او ربما لم تضع في أولويات اهتماماتها، تقديم مقترح تطبيقي للتعبير عن الروح المحلية بأسلوب (حداثي)، أو أكاديمي بشكل أدق، بموجب اشتراطات التقييس لخطاب جماعة بغداد للفن الحديث، بينما ترجم فيصل لعيبي الروح المحلية عبر رسم (النماذج النمطية) التي يعتقد أنها تجسد ذلك الطابع المحلي عبر موضوعات مثل: مقاهي بغداد، فتى عربي بزيه التقليدي المحلي العراقي، بائع الفواكه، مقهى إبراهيم، فرقة الموسيقى (الجالغي البغدادي) ، صباغ الأحذية، الحلاق، جاسم المكوجي، المصور الفوتوغرافي (الشمسي)، مرزوق الجايجي.
لقد كان الهمّ الأكبر الذي هيمن على تجربة فيصل لعيبي هو إعادة تأسيس فن الرسم الرافديني، والإسلامي القديم، فن تصوير الكتب بشروط اللوحة المسندية، وبذلك يكون منجز فيصل لعيبي مقترحا متأخرا جدا، متأخرا قرابة نصف قرن تماما عن مقترح جواد سليم وزملائه، مقترح يوضع على قدم المساواة مع ما قدم فنانو جماعة بغداد من مقترحات سابقة (جواد سليم، شاكر حسن، خالد الرحال، كاظم حيدر…)، فبعد عقود طويلة من وفاة جواد سليم ظهرت مقترحات جديدة لما كرس له جواد حياته وهو التعبير بأسلوب محلي من خلال تقنية أوروبية، ظهرت مجموعة من الرسامين الواقعيين، درس قسم منهم في الاتحاد السوفيتي السابق، او تأثر القسم الآخر بالفن الواقعي الاشتراكي، منهم :محمد عارف، ماهود احمد، عفيفة لعيبي، وفيصل لعيبي، وقدم كل منهم تصوره لما يجب ان يكون عليه الروح المحلية حينما تمتزج بما يسميه شاكر حسن آل سعيد (قواعد اللوحة المسندية)، وقد تفرد فيصل لعيبي عنهم جميعا بـ(الروح الفلكلورية) الشفيفة التي اتصف بها حينما كان يقوم بتصوير (نماذج)، قد يكون بعضها الآن في حكم المنقرض كالمصور الشمسي مثلا بينما اتجهت عفيفة لعيبي لتصوير دواخل شخوصها المنفردة المتوحدة، واتجه محمد عارف للتصوير بأسلوب ملحمي، وماهود احمد لتصوير أجواء فلكلور الريف، كما كان فيصل لعيبي امتدادا لجواد سليم باعتباره رساما مدينيا ، رسم وعكس أجواء المدينة فلا نجد أية إشارة للطبيعة، وكل الموجودات تنتمي إلى أجواء المدينة.
مثلما هيمن الخطاب النثري المحايث للتجربة البصرية ذلك الذي انتجه الناقد شاكر حسن آل سعيد على منجزه بالرسم فقدم بذلك موجهات قرائية قبلية قد تكون خدمت آل سعيد معظم الوقت, خضعت تجربة الرسام فيصل لعيبي لهيمنة مماثلة فرضتها سطوة (الموضوع) كموجه قرائي سيطر، هو الآخر، على ما كُتب عن هذا الرسام من مقالات بدت جلها أسيرة هيمنة ذلك (الموضوع) ونعني به هنا (الروح الفلكلورية العراقية) أو هو (التعبير عن الروح المحلية) وفق منطلقات جماعة بغداد للفن الحديث والخطاب المحايث لها. فكان هذا الموجه القرائي لا يخدم المنجز البصري لفيصل لعيبي بالضرورة, بل يساهم في تعمية المحاولات الجادة لاضاءة منجزه, واسهم, ربما دون وعي أولئك الكتاب, في تغييب الجوانب البصَرية (الشيئية) فيه، وهي الجوانب التي تشكل برأينا جوهر هذه التجربة “فالحكم على العمل الفني في ضوء مضمونه, سبيل يؤدي الى تدخل كل انواع الاهواء والتحيزات التي لاصلة لها بالامر” كما يؤكد هربرت ريد في كتابه (معنى الفن / دار الشؤون الثقافية العامة , بغداد 19 , ط1 , ص 79).
يبدو ان فيصل لعيبي قد اعتقد بان (الطابع المحلي العراقي) لن يتحقق إلا بإعادة تأسيس تراث الرسم الرافديني العربي الاسلامي من خلال تلك الموضوعة التي يرسمها وفق أسس أكاديمية بما فيها من مكتشفات تشريحية ومنظورية مختلفة, وهو ما نعتقد انه المساهمة الأكثر أهمية لهذا الرسام في تاريخ الرسم العراقي الحديث, وليست تلك الموضوعات (الفولكلورية)، وهو أمر قد يبدو مستغرباًَ للوهلة الأولى من الكثيرين, إلا أننا نعتقد ان ذلك هو جوهر تجربته الذي اندثر تحت ركام هيمنة وهم موضوعة (الطابع المحلي العراقي) التي وقع تحت طائلتها معظم المتلقين، والنقاد الذين تناولوا تجربة فيصل لعيبي، فتوهموا أنها الثيمة التي تضم في طياتها (كل) منجز فيصل لعيبي، وهو الأمر الذي أوقع معظم هؤلاء في حبائله, صحيح ان فيصل لعيبي يسير في ذات الهدف الذي سار عليه جواد سليم ورفاقه الذين اسسوا جماعة بغداد للفن الحديث عام 1951, إلا انه يفارق مقترحاتهم التطبيقية, تماما مثلما يفارقهم كل الرسامين (الواقعيين) الذين ظهروا في العراق من الذين صوروا (الروح المحلية) بأنها نقل أجواء البيئة العراقية, سواء أتباع فائق حسن من الواقعيين الانطباعيين, او أولئك الذين درس قسم منهم في الاتحاد السوفيتي السابق او تاثروا بالفن السوفياتي والجداري المكسيكي ومنهم: محمد عارف وعفيفه لعيبي وماهود احمد وكل هؤلاء لم يتضمن مقترحهم للتعبير بالروح المحلية أي تجديد جوهري او زحزحة اسلوبية عن اساليب جاهزة تم نقلها إلى الرسم العراقي.
سوف يكون مدخلنا إلى دراسة التجديد الأسلوبي الذي قدمه الرسام العراقي المغترب فيصل لعيبي من خلال موضوعة (التشويه), وهو تعبير قد يبدو قاسياً ومتطرفاً لمن هم خارج الوسط التشكيلي الذين قد يقترحون استبداله (بالتحوير)، أو ربما (والاسلبة), وفي كل الأحوال فنحن نعني به إجراء تغييرات او (إزاحات) شكلية في ” التناغم الهندسي المنتظم او بالنسب التي يقدمها العالم الطبيعي” ( هربرت ريد / معنى الفن / دار الشؤون الثقافية العامة , بغداد 19 , ط1 , ص 46), وهو أمر لم يكن جديداً، في الفن الحديث، فقد شوه النحت الإغريقي نماذجه لأجل الاقتراب من المثال الجمالي, فكان الخط الموصل بين خط الأنف والحاجب مستقيماً، وهو ليس كذلك في الواقع, كما أن الوجه لم يكن بيضاويا، ولا النهد مستديراً بالطريقة التي كان الفن الإغريقي يقدمهما به.

إعادة تأسيس المنظور و الفضاء والسمات التراثية
لم تقنع الحلول التي تم تقديمها سابقا لموضوعة (الروح المحلية) فيصل لعيبي فعاد لطرفي المعادلة في محاولة لتطويع طرف لآخر وإيجاد أرضية مشتركة بينهما، فدرس فن الرسم الإسلامي والفن الرافديني القديم واستعار تأثيرات بنيوية جوهرية هي:
o أولا، إعادة النظر بقواعد المنظور من خلال حلول تقنية منها استخدام ما يسميه آل سعيد (المنظور التكراري)، وهو واضح في نموذجه الأهم لوحة (مقهى بغدادي) التي وضعها في الغلاف الأول لكتيب معرضه الذي أقامه في كاليري رونا في لندن، فلم يتقيد فيصل لعيبي بقواعد (المنظور) المعروفة، إلا انه كسلفه الواسطي _ وكما أوضحه آل سعيد في ملاحظاته التي اقتبستها الباحثة د. وسماء حسن الأغا في كتابها (التكوين وعناصره التشكيلية والجمالية في منمنمات يحيى بن محمود بن يحيى الواسطي، دار الشؤون الثقافية العامة، بغداد 2000) وكأسلافه العراقيين القدماء، استطاع ابتكار حلول تقنية تعبر عن فعل هذا النمط من المنظور بما يسميه آل سعيد (المنظور التكراري) الذي يصفه بأنه يتمثل في “طريقة رؤية الأشخاص متفاوتي المسافة على أرضية منبسطة”، أو عن طريق ما يسميه (المنظور البعدي) ، وهي “طريقة رؤية الأشخاص على مسافات متفاوتة” كأن “يكرر أوضاعهم، أو يقرب بعضهم من أسفل اللوحة المرسومة، والبعض الآخر من أعلاها، فكانت أشكال اللوحة ترتكز بمستويات متعددة في أرضية اللوحة فتعطي المتلقي إحساسا بالعمق (البعد عن المتلقي)، كما كانت ترتكز الرسوم الإسلامية، والمنحوتات الناتئة (الريليف) في الفن الرافديني القديم، وبذلك قد تكون فكرة آل سعيد (بالاستعاضة عن المنظور الجوي وهو مغزى الوهم الواقعي ، واتخاذ المنظورين: التكراري والبعدي ، مطبقة في منجز فيصل لعيبي، ولكنها ليست مطبقة بمفردها، فنحن نعتقد إنها لا تحيط تماما بالمشاكل التقنية الكبيرة التي واجهت الرسام فيصل لعيبي لو طبقت منفردة، وان الحلول التقنية التي اقترحها لحل مشكلة الفضاء حينما كان يتجه نحو توظيف المنجز الرافديني القديم والإسلامي في عمله، مع الإبقاء على وهم البعد الثالث، وهو مستعار من الرسم الأوربي، الذي يمنح الأشكال امتلائها، كانت تراكيبه معقدة ومتنوعة ، بينما كانت رسوم سلفه الواسطي مسطحة، فكان ما تلمسه شاكر حسن آل سعيد كافيا لحل مشكلة تمثيل الأشكال والإيحاء بأوضاعها، وأبعادها، وأحجامها، وان الخلط بين تلك التقنيات الشكلية المتعارضة جعلت الأمر معقدا، فقد قام بخلق فضاء غامض ومضغوط بقصدية، فكان يحاول (تركيب) أسلوب منظوري وهمي متعدد الزوايا (اتجاهات النظر)، يحدّه في ابعد نقاطه عن المشاهد جدار يجعل الفضاء مقعرا ومشابها لفضاء علب السردين، والبيوت الزجاجية للأسماك، فتبدو أشكاله فيه طافية في الفضاء كالأسماك، على أبعاد مختلفة في العمق من عين المتلقي، وان ما يزيد الأمر تعقيدا إن أرضية اللوحة التي كان يرسمها الواسطي، والعراقيون و المصريون القدماء لتستقر الأشكال عليها، قد غدت جزءا من أسفل الخلفية المحايدة (الجدار) المواجهة للمتلقي، وبدت الشخوص طافية في الهواء أمامها، وعلى ارتفاعات مختلفة في المساحة التي بين المتلقي والخلفية، دون أن تستند إلى الأرض. وقد ناقشت مؤلفات عديدة قضية المنظور وآليات تمثيل الأبعاد في تجربة يحيى بن محمود الواسطي ندرجها للفائدة والتوثيق منها: شاكر حسن آل سعيد، الخصائص الفنية والاجتماعية لرسوم الواسطي، مطبعة التايمس ، بغداد 1972، نوري الراوي، ملامح مدرسة بغداد لتصوير الكتاب، مطبعة التايمس، بغداد 1972، د. وسماء حسن الاغا، التكوين وعناصره التشكيلية والجمالية في منمنمات يحيى بن محمود بن يحيى الواسطي، دار الشؤون الثقافية العامة، بغداد 2000 .
لقد اتجه فيصل لعيبي إلى نمط من التشويه (الايجابي) في تحويره أشكال المشخصات، وهو ما يعرف (بالوضع الأمثل), الذي تتخذ فيه المشخصات أوضاعها الأكثر مثالية، من الناحية الشكلية، حيث تُظهر أهم خصائصها الشكلية, وهو إجراء طبقته فنون حضارات عديدة منها الفن الفرعوني والفن الرافديني القديم والفن الإسلامي, فالعين والأكتاف كانتا تتخذان الوضع الأمامي، بينما يتخذ الوجه والأقدام الوضع الجانبي دائما. لقد اتخذ فيصل لعيبي إجراءين شكليين في تحقيق قدر من التشويه هما: أولا، تشويه قواعد المنظور، وتعدد زوايا النظر, وثانيا، تشويه نسب الجسم البشري، وتشريحه، واتخاذ كل جزء فيه وضعه الأمثل. لقد انطلق فيصل لعيبي في تشويهه لقواعد المنظور من تتبع خطى محاولات عدد من الرسامين الذين كانوا يخلطون عن عمد بين عدد من زوايا النظر, فإذا استثنينا التجربة التكعيبية التي اختلطت فيها كل وجهات النظر في لوحة واحدة, فقد كان أول هؤلاء الرسامين الذين لا يحسبون من التكعيبية، وأشدهم تطرفاً في ذلك، الرسام الفرنسي هنري ماتيس الذي تحضرني هنا لوحته (راحة الموديل) حيث تختلط فيها زوايا نظر متعددة في لقطة واحدة أهمها: وضع المنضدة، ومنظور وفضاء الغرفة، وهو الأمر الذي ركز عليه فيصل لعيبي بشكل جوهري في إحداث زحزحة في (زاوية النظر), فبينما اتخذت (صينية) وصحن الشاي وضع عين الطائر, اتخذ قدح الشاي (الستكان) الوضع الجانبي, فيما احتفظت علبة الثقاب بمنظور ثلاثي الأبعاد لان لا وضع امثل يتيح تمثيل أهم خصائصها من منظور مسطح.
o ثانيا ، لقد تجسد الخوف من الفراغ عند فيصل لعيبي بمحاولته الحثيثة لردم فراغات اللوحة بشكل تام التوازن سواء من خلال عدد الشخوص أو من خلال توازن نسبي يحفظه ثقلها اللوني ونحو ذلك من الأساليب التقنية التي تحقق ردم الفراغ، بعد إن ملأ فيصل لعيبي النصف الأعلى من اللوحة بشخوصه المرصوفة، وكجزء من كفاحه لردم الفراغ المحايد المخيف، يجد فيصل لعيبي حلا تقنيا مهما لملئ أرضية اللوحة بمربعات متعاقبة التلوين، تمثل بلاط الأرضيات، مرصوفة كنظام تلوين رقعة الشطرنج بألوان غامقة ثم فاتحة على التعاقب وبشكل يحقق درجة من الهارموني مع الخلفية التي توضع فوقها، كما قام بملء مساحات الأثواب الملونة بطيات ذات طبيعة زخرفية تكسر أحاديتها اللونية، لتختلف عن الخلفيات المحايدة.
كان فيصل لعيبي, ورغم كل صفات الرسم الاكاديمي التي حافظ عليها, قد استعاض عن مقومات ذلك النمط في ما يخص قواعد المنظور الجوي بادخاله ما يسميه شاكر حسن آل سعيد (المنظور التكراري) الذي يعرفه بأنه حل تقني يضمن امكانية (رؤية الأشخاص متفاوتي المسافة على ارضية منبسطة) أو باستخدام (المنظور البعدي) ويعرفه بأنه (طريقة رؤية الأشخاص على مسافات متفاوتة … بتكرار أوضاعهم, أو تقريب بعضهم من اسفل اللوحة المرسومة, والبعض الآخر من أعلاها, فان أشكال اللوحة ترتكز بمستويات متعددة في ارضية اللوحة فتعطي المتلقي احساساً بالعمق), وبذلك يحاول فيصل لعيبي ما حاوله سلفه الواسطي الذي (استعاض عن المنظور الجوي, وهو مغزى الوهم الواقعي, واتخذ المنظورين: التكراري والبعدي)، وهي كلها حلول واجهت الرسام فيصل لعيبي وهو يحاول توليف الفن الاسلامي والرافديني القديم مع قواعد الفن الاكاديمي مما خلق فضاءً غامضاً، ومضغوطاً بطريقة قصدية, فكان يحاول (تركيب) أسلوب منظوري وهمي متعدد الزوايا (اتجاهات النظر) من خلال استخدام الجدران التي تحيط المشهد وتحيله في الوقت ذاته, إلى ما يشبه علبة السردين او البيوت الزجاجية للاسماك الذي تغدو فيه قاعدة الإناء مستقرا للإشكال وفي الوقت ذاته جزءاً من الخلفية؛ فبدت أشكاله طافية كالأسماك لا تستقر على الأرض نعيد توكيدنا السابق بأن الهمّ الأكبر الذي هيمن على تجربة فيصل لعيبي هو إعادة تأسيس فن الرسم الرافديني ، والإسلامي القديم ، فن تصوير الكتب بشروط اللوحة المسندية، وبذلك يمكن القول ان الخصائص التي تمثلت في منجز الواسطي ولخصتها د. وسماء الأغا من خلال جهد (بعض المؤرخين) هي ذاتها الأسس التي طوع الرسام فيصل لعيبي ، استنادا إليها الفن الأكاديمي الحديث وتلك الخصائص هي: قوة الحركة وتشعبها وانتقالها بوساطة الخط واللون ، والبالغة والتحوير في رسم الجسم الإنساني وبحسب أهميته في النص، والإيقاع المتمثل بانتقالات ومكان اللون وتوزيع الأشخاص والأشكال فوق مساحة الورقة المرسومة، النزعة الزخرفية وتنظيمها الهندسي في الملابس والماء .. النزعة التسطيحية، من حيث معالجة الفراغ، ثم التكرار والتماثل بوصفه قيما جمالي (د. وسماء الأغا، السابق ، ص 23 – 24) .
o ثالثا ، خرق قوانين التشريح ونسب الجسم الإنساني كجزء من تحقيق (الوضع الأمثل).
يثبت فيصل لعيبي إذن, إن (التعبير عن الروح المحلية), ذلك (القانون) الذي هيمن على الفن، والنقد التشكيلي خلال الفترة التي سبقت ستينات القرن الماضي، مازال مقترحاً يمكن اغناؤه بالمزيد من التجارب، ومنها مقترحه باعادة تطويع الرسم الاكاديمي لقوانين الرسم الإسلامي والرفديني القديم، وجعله قادراً على التعبير عن تلك الروح العراقية التي بدى فيصل لعيبي مأخوذاً بها بشدة, أو قل هي متاعه في غربته التي استغرقت عقوداً، وإن منجز فيصل لعيبي الذي يبدو رسوما (بسيطة) لا تحتاج مؤهلات قرائية قبلية ، و لا تفعل في المتلقي سوى إثارة المزيد من الذكريات مع إكسسوارات اللوحة التي يبثها بشكل باذخ ومتوازن ، عند المتلقي العادي ، بدت لنا تجربة مليئة بالحلول البصرية الجريئة والمتفردة ، ومقترحا يشكل إضافة جادة في معالجة الفضاء التي تبقي سمات الفن المسطح العراقي القديم والإسلامي ، مضافا له المعالجة بالأشكال الأكاديمية التي تبقي على البعد الثالث حيثما كان ذلك ضروريا