لا تنس يا صديقي أني موظف

لا تنس يا صديقي أني موظف

جمال الهموندي
ولد بيتهوفن في 15/12/1770 وهو نمساوي من مدينة فيينا،ولأجل تاريخ ميلاده،خصص العالم سنة 1970 باعتبارها سنة بيتهوفن،ولقد ظلت اذاعات وتلفزة العالم المتقدم طوال تلك السنة،تبث موسيقى هذا الرجل العظيم بانسانيته،في كثير من برامجها خلال الدورة الاذاعية والتلفزيونية لها ابتداء من أول كانون الثاني لعام 1970 لغاية نهاية كانون الأول للعام نفسه.


كان لودفيج فان بيتهوفن 1770-1827 مثالا للانسان بكامل أبعاده الانسانية الحقة،وهو الرجل الأخلاقي،الذي كرس موسيقاه للتعبير عن الجوانب العليا للإنسان.
والذي لم يؤلف من ذلك النوع الخفيف،الأوبرا،إلا واحدا،في موضوع هام جدا في نظره،وهو تقديس الوفاء الزوجي،هو ما جعله عنوانا للأوبرا،وهو أي بيتهوفن الثائر العظيم،الذي لم يستسلم لضغوط أو قبول استبداد،بل قاومهما حيث لقيهما،معبرا عن روحه العظيمة ومتأثرا بأستاذه الروحي كنط وصديقه الروحي أيضا شيللر.ولقد كان يكرر طوال حياته تلك العبارة المشهورة لأستاذه الروحي كنط((هناك شيئان،هما أعظم ما في الوجود:السماء المتلألئة بنجومها فوقي،والقانون الأخلاقي في نفسي))وهنا ينبغي لنا أن نذكر،أن بيتهوفن درس فلسفة كنط في جامعة بون،مسقط رأسه.
وبقدر ما كان بيتهوفن يحب شيللر الثوري المتأثر بفلسفة كنط،وهو أيضا عانى من السجن والتشرد لأفكاره السياسية الجمهورية،كانت خيبته من لقاء غوته مريرة، لموقف هذا الأخير من كل من الأرستقراطية المحلية والمحتلين الأجانب (الفرنسيين)لبلاده،وهو موقف يناقض كل المناقضة موقف بيتهوفن.ويكفي هنا أن نذكر حادثتين تعبران عن موقف كل من الرجلين:
الأولى، فبينما كان غوته يمجد القوة والعبقرية في نابليون،حتى بعد أن احتل بلاده،تغير موقف بيتهوفن من القائد الفرنسي،عندما بدأ يحطم الاستبداد في أوروبا،من اقطاعيات ودوقيات وإمارات وملكيات وقيصريات،وكان بيتهوفن يظن،أن نابليون سيحرر أوروبا من كل ذلك،ولهذا أهدى سمفونيته الثالثة وسماها (نابليون).ولكن عندما توج نابليون نفسه قيصرا،غضب بيتهوفن،ورفض ذلك الاهداء مزمجرا وقائلا:(انما أنت دكتاتور مثل الآخرين،تدوس حريات الشعوب)وأعطى سيمفونيته هذه اسما جديدة و (البطلة) أي بعد أن كانت باسم نابليون، أصبحت ضده. وبخصوص موقف بيتهوفن من غوته والارستقراطية الرأسمالية،فيحكى أنه بينما كان هو وغوته يتفسحان قرب كارلوفي فاري(كارلسباد)وكان ذلك لقاءهما الأول،وبرغبة ملحة من بيتهوفن الذي كان معجبا بغوته الشاعر الفيلسوف،واذا بامبراطور وامبراطورة النمسا،يقبلان عليهما،وكان غوته قد وضع ذراعه مشبوكا بذراع بيتهوفن،ولدى منظر العائلة القيصرية،ارتبك غوته،وسحب ذراعه من ذراع بيتهوفن،ونزع قبعته وانحنى انحناءة عميقة.
وماذا فعل بيتهوفن؟فعوض أن ينزع قبعته،خفضها على جبينه حتى نزلت على عينيه،واستمر في مشيه على الرأس،ولم يقف،واذا بالأمبراطور والأمبراطورة، هما اللذان يحييانه،والجمهور يتفرج معجبا ومندهشا.وبعد أن لحق غوته ببيتهوفن،قال: هذا الأخير ((هو أنت غوته الذي كنت معجبا به؟)) فقال غوته((لا تنس يا صديقي أني موظف)) وكذلك كانت جميع مواقف بيتهوفن،فلقد كان يعاني الفقر المدقع،مع ذلك يرفض أن يكون تابعا لقصر هذا أو ذاك من الأمراء والملوك والأباطرة،وكان يعلق على عروضها بقوله ((أمراء وملوك وقياصرة وجدوا و موجودون الآن وسيوجدون،أما بيتهوفن،فليس هناك إلا واحد)).
وكان بيتهوفن مؤمنا كل الإيمان بالتفوق الموسيقي على كل وسيلة أخرى للتعبير،ويقول((إن الموسيقى هي الأعلى من كل فلسفة،وأعمق من كل حكمة،والذي تنفتح له موسيقاي،يتحرر من كل المحن التي تثقل كواهل الآخرين)).
وفي آخر عمره،بعد أن أشاحت عنه فيينا،في تعلقها بموسيقى شتراوس(النعامة) و لانر وروسيني وغيرها من أنواع الموسيقى الخفيفة،كتب بيتهوفن في مذكراته وهو يؤلف السيمفونية التاسعة الرائعة،سيمفونية (الأمل) ثم (السرور)و(الأخوة الإنسانية)،وهو يقول"آه،يا لها من تعاسة! أني أتضور جوعا،ولم أذق طعم الخبز منذ 6 أيام".
ويوم وفاته،خرجت فيينا بكاملها،تشيع جثمان العبقري الخالد الى مثواه الأخير،ومما كان يردده بيتهوفن طوال حياته:(أحبب الحرية فوق كل شيء،ولا تنكر الحقيقة، حتى أمام التيجان).
وكلمة أخيرة:في آخر إحدى مؤلفاته التي كلف ناسخه بنسخها،كتب الناسخ(تم بعونه تعالى) ولما اطلع بيتهوفن عليها،ضحك وأضاف(أيها الإنسان المسكين أعن نفسك بنفسك).