الأبجران: نصان في دلالات المقاربة والتباين لجمعة اللامي

الأبجران: نصان في دلالات المقاربة والتباين لجمعة اللامي

خضير اللامي: قراءة مقارِنة
نشر جمعة اللامي قصتين قصيرتين أولاهما"أحوال أبي علي الأبجر وما رآه شايع الشرقي في دكان روبين اليهودي."في ملحق ادب لجريدة الصباح الصادرة في 7/1/2015، كتبها في نقرة السلمان 1963 - 1964، حين كان رهين السجن، والأخرى"الأبجر"1970 – 1971، التي صدرت في بغداد. وهي ثالثة الثلاثية الثالثة ضمتها مجموعته الأعمال القصصية.

ويعدّها القاص جزءا من هذه الثلاثية. وسأتعامل معها بوصفها قصة قصيرة قائمة بذاتها، حدثا وشخوصا وبنية وجمالية تلقِّ، دون الرجوع الى الثلاثية الثالثة، رغم إنها تحمل مناخ تلك الثلاثية فضلا عن انفرادها بالقص عن شخصية الأبجر التي نادرا ما ترد في الثلاثية الثالثة مع اهمية ظهوره للسارد في وضعه المأزوم في السجن. وتُحسب هذه المهارة الفنية للناص جمعة اللامي إذ يمكن قراءتها منفردة ويمكن ان تعدّ جزءا من الثلاثية. وهي موضوع مقارنتنا اياها مع قصة سبقتها بسبع سنين تقريبا هي القصة التي اشرنا اليها في مستهل كلامنا هذا.

ويتهيأ لي أنني قرأت ما يشبه هذه القصة القصيرة وهي"الأبجر". والتي علقت في ذاكرتي حتى الآونة ؛ وذلك لغرائبية شخصيتها المحورية واحداثها واسلوب سردها، كما أكد الناص ذلك من جانبه في قوله مستهل الجملة الأولي من قصته هذه: الذي حدث لا يمكن أن انساه. بيد أنني لا أتذكر دقائق تفاصيل احداثها وشخوصها باستثناء اسم شخصيتها الرئيسة الأبجر؛ والأبجر هذا هو تسمية تطلق على شخصية اسلامية عظيمة ترعرعت وعاشت في بيت النبي محمد"ص"بداية صدر الاسلام. وعند اعادة قراءتي لقصة الأبجر، بدأت استعيد تدريجيا شيئا من تلك القصة التي وإن اختلفت مضمونا وزمانا وشخوصا واداءً مع القصة الأخرى"أحوال أبي علي الأبجر وما رآه شايع الشرقي في دكان روبين اليهودي."بيد أن اجواءهما متماهيتان الى حد ما، وكلتا القصتين القصيرتين قابلة للتأويل واستنباط الدلالات.
- قلت للناص جمعة اللامي: إنني كنت قد قرأت قصة الأبجر في حينها.
- قال لي: لا، هذه غير تلك. ويعني بهذه قصة أحوال علي الأبجر وما رآه شايع الشرقي في دكان روبين اليهودي.
لكن ما اثار تساؤلي حقا، هو أنّْ قصة احوال أبي علي الابجر وما رآه شايع الشرقي في دكان روبين اليهودي سبقت كتابة قصة الأبجر بسنين عديدة. فإن اردنا أن نتحدث عن ربط القصتين سيرويا ذاتيا، لقدّمنا قصة الأبجرعلى القصة الأولى زمنيا بوصفها تتحدث عن مرحلة طفولة وفتوة السارد مع اقرانه، في مدينة العمارة وضواحيها وبدايات ظهور شبح الأبجر، وتحذير امهات وآباء الفتيان من مغبة أن يسرقهم الأبجر، ثم تأتي قصة احوال أبي على الأبجر وما راه شايع الشرقي في دكان روبين اليهودي لتتحدث لنا عن مرحلة ما بعد الفتوة، مرحلة الشباب والنضج السياسي والفكري لجمعة اللامي.
وتنتمي قصة"أحوال أبي علي الأبجر وما رآه شايع الشرقي في دكان روبين اليهودي"وسردها عموما، فضلا عن فيض الجدل والتأويل وسيميائية النص الى ما يسمى الأثر المفتوح أو النص المفتوح في سرديات أدب ما بعد الحداثة ؛ وإن عدنا الى تاريخ كتابتها 1963 - 1964، فإنّ الناص جمعة اللامي يكون قد سجل في استخدامه لهذا المصطلح أولا، سبقا على اقرانه الستينيين وما زال، حسب قراءتي لبعض اعمالهم، فضلا عن تأهيلة للنص ؛ بوصف القارئ ذاتا مؤهلا له هو الآخر. وكما يقول امبرتو ايكو في كتابه"النص المفتوح والنص المغلق."... ومن ثم فإن التأهيل المطلوب لا يكون للمتلقي وحده حسب، وإنما يكون للمؤلف قبل المتلقي. "انفتاح النص وحدود التاويل، عبد العزيز السراج". ويثني تودوروف على ايكو بقوله:"النص نزهة يقوم فيها المؤلف بوضع الكلمات ليأتي القاريء بالمعنى."المصدر نفسه."وهذا يذكرنا ايضا بكتاب رولان بارت"لذة النص."الذي يغوي فيه القاريء ليكون شريكا في النص. وإن عدنا للموروث العربي في هذا المجال فإن قول احمد بن الحسين المتنبي"اسألوا ابن جني فهو أعرف بشعري مني.."وهذا يمنحنا اشارة واضحة الى أن الموروث العربي كان يحمل بين طياته امكانية النص المفتوح في الادب وبخاصة الشعر. بمعنى آخرا، ينبغي ان يكون المتلقي لهذا النص المفتوح، مؤهلا ايضا لتفكيك سيمائية النص ودلالته، كما يجب ان يكون مؤهلا لتفكيك ما يطرحه السارد في ثنايا نصه من احداث وشخصيات وتناول اسلوبي الخ.. وثانيا، ولأنه، أي جمعة اللامي سجين سياسي، لابد وأن يحمّل قصته هذه دلالات ولمسات سياسية وفكرية يسقطها على الشخصيات وبالذات شخصيتها الرئيسة شايع الشرق في قصة احوال ابي علي الابجروما راه شايع الشرقي في دكان روبين اليهودي. وبهذا الصدد، فإنّ مواقف جمعة اللامي معروفة لدينا مع الحزب الشيوعي، خاصة ما يصف هذا الحزب بالستالينية والجدانوفية حينذاك. ونلاحظ كثيرا في اعماله من قبيل هذا الوصف وبالذات قصته المنشق ومن قتل حكمة الشامي وبعض نصوصه الاخرى.
إن مَنْ يمارس هذا الاسلوب كتابة ومَنْ يقرأه نصا عليه ان يكون مدركا لما يريد أن يقوله الناص في نصه كما على القارئ بوصفه ذاتا أن يكون شريكا في هذا النص وأن يمتح نصه إياه. ومن هنا تبدأ اللعبة في عملية التناص بين الطرفين ناصا وقارئا.
ومن هنا ايضا، أزعم لنفسي، بوصفي قارئا، أنني مؤهل للتعامل مع ذيْنك النصين، الأبجر، واحوال ابي علي الابجر وما رآه شائع في دكان روبين اليهودي. وأرى فيهما أن الأبجر هو الأبجر، فهو المنقذ أو المسيح المخلّص أوالمنتظر صاحب الزمان والأوان للناس جميعا في تيْنك القصتين بدلالات حوارالشخصيات وسيميائيات نصيهما فضلا عن حدثيهما. وأرى ايضا أنّ لَبَسَ التخييل في تلك الحقبة الزمنية، حقبة السجن، في الواقع الآني الذي تسوده المواكب الحسينية في عاشوراء وسيميائيتها وغيرها من المناسبات هو ربما انصراف ذهن القارئ الى أن اللامي اراد ان يتناول الواقع الحسيني في العراق بطريقة ابداعية جديدة، وربما جاء نشرها متزامنا في هذا الوقت... لكن مع كل هذا وذاك، ثمة دلالات تشير الى غير ذلك. فالرجل ثبت تواريخ لها دلالات سياسية وفكرية، وخاصة في حقبة السجن التي عانى منها الأمرّين، سجن السلطة وسجن ذوي القربى، كما ابو علاء المعري رهين المحبسين فَقْد البصرأولا، وملازمته داره واعتزاله الناس ثانيا، كما المحت الى ذلك في بداية حديثي عن علاقة جمعة اللامي مع الحزب، وهو أمر أمرّ من السجن. ولهذا فأنا أرى أن قصة احوال ابي علي الابجر وما رآه شايع الشرقي في دكان روبين اليهودي، حاولت ان تعبّر عن تأسيس بديل تخييلي منذ تلك الحقبة وحتى الآونة من خلال هذه القصة وكثير من مقالاته واعماله الابداعية الى بديل سياسي وفكري آخر:
امتلأت الحافلة الهرمة بأجساد الحجاج، عند تمام الساعة الرابعة بعد الزوال، ولم يتبقّ أمام الحاج شايع الشرقي، سوى ظهورالأبجر على ظهر راحلته وضحاء، ليبخّر الحافلة بشميم العود الكمبودي، ويقرأ عليها دعاء السفر الشهير، ثم يرشّ خشبها اليابس (هي باص قجماء موديل 1943) بنثار من حُق يخرجه من عبّه يطلق رائحة حامضة، لتنهض وضحاء، ويتجه وجهها شطر كربلاء، فتتبعها قافلة الحجيج والمودعون يرفعون الرايات الخضر ويضربون على الطبول حتى راس جسر الكحلاء.
ويظهرالأبجر في قصة الأبجر وإن اختلفت الى حد ما - في قصة احوال ابي علي الابجر وما راه شايع الشرقي في دكان روبين اليهودي– في طريقة الروي العياني عن ظهوره للفتيان، وتكاد تكون الحكايات فيها قصا اسطوريا رغم إنّ الشخصيات لحما ودما وروحا هي شخصيات واقعية عاش السارد طفولته وفتوته معها ويستطيع أن يسمها بمسمياتها الحقيقية ؛ بما في ذلك شخصية الأبجر الذي وضع الناس هالة اسطورية حوله في تداول حكاياتهم أسطرها وانطقها إياهم السارد وبلغة اجاد اتقانها الناص جمعة اللامي..
واذا كان الابجر في قصة احوال ابي علي الابجر وما راه شايع الشرقي في دكان روبين اليهودي هو المنقذ اوالمخلّص أوصاحب الزمان والأوان للعالم، فإنّه في قصة الابجر هو الراعي والحاني على الفتيان رغم ما تدور عنه من حكايات لتخويف وارهاب الاطفال على افواه بعض شخصيات الاباء والامهات.. فالابجر قد يتخذ اي صورة ويظهر لكم اكثر من وسيلة للغواية.. وما تدور من حكايات اخرى هي عكس ذلك، وهي الأهم التي اراد السارد الفتى أن يثبتها لنا لينتشلهم الأبجرمن واقع البؤس والتعاسة والفقر الى عالم الاحلام والخيال والطفولة، حيث عالمهم الحقيقي.
فغليّم الحوش مثلا، وهو عمي من أم اخرى لأبيه يقول: الأبجر لا يخطف الفتيان. إنه يغويهم.. إنه يظهر عندما يكون القمر بدرا ويقترب من الفتيان .
ويقول آخر: يظهر مثل كرة خضراء ملتهبة تستجرخلفها خيطا غليظا من ضياء ابيض.
الكانزون الذهب والفضة يعاقبهم الله في الاخرة ويسلبها الابجر منهم في الحياة الدنيا.
وهذا هو السارد الفتى الذي تهيأ له انه رأى الأبجر حين جمح خياله في وصفه... وفاجأتني تلة شاهدت عليها كرسيا... وخلفه ممالك الطير والشجر والحيوان والبشر والجماد، وهناك رأيت الاف الناس.. بل مئات الملايين يطلقون اصواتهم للريح ويحدون السيوف.
وما اشبه هذا الوصف عن الابجر- رغم الفارق الزمني بين كتابة القصتين - بما قاله لنا السارد في قصة احوال ابي علي الابجر ومارآه شايع الشرقي في دكان روبين اليهودي. وهو مسك الختام لمقالنا هذا.
... وكان الفتى محمد المشرّح يقف خلف الأبجر ويبدو مثل عمود نوراني شاهق. عاين شايع الشرقي الفضاء النوراني الأشهب الممتد في كل الجهات، ورأى سماوات لا حصر لها وشهباً تولد وأخرى تموت وحيوات تبعث من جديد، وسمع اصواتاً تتقدم نحو مجلسهم من دهور ابيدة، بينها صوت رخيم كان يقول:"مرحبا يا أولادي".